رنّ الهاتف، عندما رفعت السماعة، تناهى إلى سمعي صوت يسألني: هل أنت فلان؟ ما أن رددت بالإيجاب، حتى صرخ بغضب: من نحن بالنسبة إليكم، ذباب أم حشرات، يا كفار يا ظلام يا أولاد ال… نطلب معونتكم لستة جرحى ثوريين، يرابطون ليل نهار قرب إشارات المرور في الريحانية، لكي يتسولوا ثمن كسرة خبز، فتعطونهم مائتي دولار: ثلاثة وثلاثين دولارا لكل جريح منهم، مع أن بينهم من فقد عيناً أو ذراعاً، أو يعاني من رصاصةٍ استقرت بين أضلاعه.
سألته قبل أن يستأنف صراخه المحق عن صحة ما يقوله، فرد بلهجة هازئة: تسألني وكأنك لا تعرف ما يحدث. لقد ذهبت إلى فلان، فأرسلني إلى فلان ثان، فطلب مني العودة في اليوم التالي. حين وصلت إلى مقره في الموعد المضروب، وجدت في انتظاري شخصا أعطاني المائتي دولار. وماذا فعلت؟ سألته. قال بحزن وانكسار: وماذا تعتقد أنني فعلت؟ بصقت عليها وأعدتها إليه، وأنا أرد عن نفسي شبهة التسول.
أرجو أن لا يعتقد أحد أن هذه القصة من نسج خيال مريض، أو أنها نادرة الحدوث، أو جرت لمحدثي دون سواه، الذي رفض إعطائي اسمه صوناً لكرامته، كما قال، وكي لا أظن أنه يشكو إلي أمراً شخصياً. توقف برهة عن الكلام، قبل أن يضيف بلهجة تملؤها الحرقة والمرارة: حولتم ثورة الحرية الى مأساة عامة لشعب يقتله الجوع، يتخلى جياعه عن حريتهم زرافات ووحداناً، ويتحولون إلى معين لا ينضب ل”داعش” وأشباهها من التنظيمات التي لم يعد لديها مشكلة غير عجزها عن استيعاب دفق لمقاتلين الراغبين في الانضمام إليها، بعد أن سدت في وجوه الشرفاء والثوريين دروب الأمل، وصار الطعام مشكلتهم، مثلما سدت دروب العدالة والتضامن التي شقتها ثورة الحرية خلال أشهرها الأولى، وجعلت كبار التجار في كل مكان من بلادنا يسلمون مفاتيح مستودعاتهم لمندوبي الحراك، ليفرغوا ما فيها من أرزاق ويوزعوها على خلق الله بالمجان. واليوم، أنتم، ممثلو الشعب وقادة الثورة المزعومون، لا تخجلون من إعطاء ثلاثة وثلاثين دولاراً لثائر فقد ذراعه أو أصيب في صدره، أو فقد عينه، وتتغاضون عن مناضلين صاروا شبيحة ثورة الخيبات المتكررة، وتستهينون بانهيار تضامنكم مع الشعب، وبالوهن الذي أصاب عزيمة ثوريين كثر، وجعلهم يلجأون إلى حلول أملاها عليهم موقف مبدؤه: “اللهم أسألك نفسي”، و”أنا وليكن بعدي الطوفان”. أرغمهم على الاستسلام له ما يعانونه من عجز ويأس، ويواجهونه من محن، افتقروا، في بدايتها، إلى السلاح، ثم إلى الذخيرة، وأخيرا إلى الطعام، قبل أن يجبرهم التجاهل والإهمال على التشبه بشبيحة النظام، وفي أحيان ومناطق معينة، بقتلته، أو على هجر الثورة وقيمها والانضمام إلى الدباحين وقاطعي الرؤوس والممثلين بجثث ضحاياهم، وصولاً إلى الإرهاب، لأنكم لم تكترثوا بمن قتل الجوع إنسانيتهم، وأجبر كثيرين منهم على الابتعاد عن الثورة، أو الهجرة إلى السلاح والمال والطعام و”الجهاد”، مع أنه كان، منذ بدايته، معادياً لثورة الحرية ولقيمها، وسرعان ما انتقل إلى قطع رؤوس حملتها، دونما وازع من دين أو إيمان .
كنا في ثورة حرية وعدت بقتل الجوع، فصرنا في جوع يقتل الحرية ووعدها، ويقضي عليها في النفوس. بينما وقفتم تتفرجون كائتلاف ومجلس وطني على المأساة الزاحفة، من دون أن تفعلوا شيئاً لوقفها، أو للحد من نتائجها الكارثية على الشعب، أو ينتبه أحد من أصدقائكم إلى دور سلاح الجوع في قتل ثورة الحرية وتدمير حملتها، على الرغم من أن النظام استخدمه بكثافة، وفي كل مكان، وحقق به نتائج عجزت عنها أسلحته الحربية الفتاكة.
بعد دور الجوع في استسلام الأفراد للأمر الواقع، يبرز اليوم دوره في قتل الشعب: حاضنة الثورة التي لن تتحقق حرية بدونها، وغدا إنقاذها مهمة المهام بالنسبة إلى أي وطني سوري، أينما كان موقعه ودوره، وإلا كنا ممن قاموا بثورة من أجل الشعب، لكنهم تركوا الثورة فماتت، لأنه لم يبق فيها شعب.