هذا المقال بقلم جورج فهمي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع”سي ان ان” بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية،
تُروّج أطرافٌ سورية مختلفة مقولةَ أن المسيحيين السوريين يدعمون نظام الأسد، ومن ضمنها أصواتٌ قريبة من النظام نفسه، تأمل من خلال ترديد هذا الخطاب دعمَ شرعية نظام الأسد خارجياً، باعتباره حامياً للأقليات الدينية في ظل صعود التنظيمات الجهادية الإسلامية؛ وأصواتٌ أخرى تنتمي إلى قوى المعارضة الإسلامية، وترغب في أن تعطي للصراع الدائر في سورية لوناً طائفياً باعتباره صراعاً بين الغالبية السنيّة في مواجهة الأقلية العلوية الحاكمة، مدعومة من الأقليات الدينية الأخرى.
إلا أن تحليل موقف المسيحيين السوريين يُظهر صورةً أكثر تعقيداً. فالمسيحيون ليسوا كتلة واحدة ذات صوت سياسي واحد، بل هم عبارة عن مجموعات وأطراف متعدّدة تحمل كلٌّ منها مخاوف ومصالح تتحكّم بموقفها السياسي. ومحاولة البحث عن إجابةٍ واحدة بـ”نعم” أو “لا” من الثورة السورية تبدو ساذجة. فموقف المسيحيين من الثورة معقّد بقدرِ تعقيد الواقع السياسي السوري على الأرض، ويختلف هذا الموقف من منطقة إلى أخرى وفقاً لطبيعة التهديدات والبدائل المتاحة في كلٍّ منها.
بالتأكيد، ثمة قطاع من المسيحيين، من ضمنهم جلّ قيادات الكنائس السورية، يدعمون نظام الأسد بسبب تشابك مصالحهم السياسية والاقتصادية مع رموزه، كما يدعمه آخرون باعتباره الضمانة لأمن المسيحيين في سورية. يستند هذا الموقف إلى تجربة المسيحيين في العراق بعد سقوط صدام حسين، وما تعرّضوا إليه من تنكيل وتهجير، ناهيك عن تصدّر الجماعات المسلحة الإسلامية لقوى المعارضة، وصولاً إلى صعود تنظيم الدولة الإسلامية وبسط سيطرته على مناطق عدّة. إضافةً على ذلك، يلعب التاريخ البعيد أحياناً دوراً في تحديد موقف بعض الطوائف المسيحية. فقد دفع الطابعُ الإسلامي للمعارضة المسلحة، والدعم التركي لها، الطائفةَ الأرمنية إلى استعادة تاريخ المذابح التي ارتُكِبَت بحقهم في بداية القرن العشرين على يد القوات العثمانية، فعارضت غالبيتهم الثورة السورية.
***
لكن في المقابل، شارك العديد من الشباب المسيحيين في التظاهرات السلمية خلال الأشهر الأولى للثورة، كما انخرطوا في مختلف المبادرات الرامية إلى تعريف المجتمع بمطالب الثورة وحشد الدعم لها. ففي حي باب توما المسيحي في العاصمة السورية على سبيل المثال، نشطت مجموعة من الشابات والشبّان المسيحيين في توزيع البيانات والملصقات لحشد الدعم لمطالب الثورة، ولمواجهة خطاب الإعلام الرسمي الذي سعى إلى بثّ الخوف في نفوس المسيحيين. فقد رفض هؤلاء الشباب خطاب القيادات الكنسية المؤيِّد للنظام، حتى أن مجموعةً منهم قرّرت تنظيم زيارات إلى الكنائس للإعلان عن رفضهم لموقف الكنيسة، والتأكيد على أنها لا تستطيع التحدّث باسم كل المسيحيين. ولم يتوقف عمل هؤلاء الشباب عند حدود أحيائهم المسيحية، بل شاركوا في التظاهرات في المناطق ذات الغالبية السنيّة. واختار أحدهم، باسل شحادة، أن يذهب إلى حمص لتسجيل أحداث الثورة، في محاولةٍ منه لتغيير الصورة السلبية للثورة في نفوس الكثير من المسيحيين، إلى أن لقي حتفه خلال القصف على المدينة في مايو 2012. وحتى داخل الكنيسة، وعلى الرغم من موقف القيادات الكنسية الداعِم للنظام، أبدت أصوات قليلة اعتراضها أيضاً على مواقف قيادتها الدينية. فعلى سبيل المثال، اختار أحد الرهبان السوريين ترك الرهبنة اعتراضاً على موقف قيادته الدينية المؤيِّد للنظام، وقرّر أن يعمل عوضاً عن ذلك مع المجتمع المدني في مساعدة النازحين السوريين.
لكن موقف الشباب المسيحيين الذين شاركوا في فعاليات الثورة خلال أشهرها الأولى، بدا صعباً مع عسكرة الثورة، ثم ازداد صعوبة مع صعود التيارات الإسلامية التي هيمنت على مشهد معارضة للنظام. وفي ظل انحسار البدائل التنظيمية التي يستطيع من خلالها الشباب أن ينخرطوا في دعم الثورة السورية، اتّجه العديد منهم إلى العمل الإغاثي والإعلامي، الذي يرَوْنه أيضاً من ضمن وسائل دعم الثورة.
وتظهر بجانب هاتين المجموعتين الداعمة والمعارِضة لنظام الأسد، مجموعةٌ ثالثة يبدو أنها الأكثر عدداً حالياً ولم يَعُد يشغلها سؤال النظام والثورة، بل أمنها ومستقبل وجودها في سورية. وتدعم هذه المجموعة الطرف السياسي الذي تعتقد أنه الأقدر على حماية حقوقها. وفي بعض الأحيان، قد تنقسم المجموعة المسيحية نفسها وفقاً لرؤيتها للطرف الأقدر على تحقيق مصالحها. ففي محافظة الحسكة على سبيل المثال، انقسم المسيحيون الأشوريون إلى فئتين: إحداهما أقرب إلى نظام الأسد، وأخرى أقرب إلى الإدارة الذاتية الكردية. من ضمن هذه المجوعة الثالثة أيضاً، هؤلاء الذين أضحوا يرَوْن أن المسيحيين لم يَعُد لهم مستقبل في سورية، وعليهم الرحيل لضمان مستقبل أفضل لأولادهم. على سبيل المثال، وفي إشارة ٍإلى حجم هجرة المسيحيين ومعهم المسلمين من حلب، أخبرتني صديقتي التي لا تزال تعيش في هذه المدينة، أن صفّها كان يضم 92 طالباً غالبيتهم من المسيحيين، لكن لم يتبقَّ منهم اليوم سوى 17 طالباً فقط.
إضافةً إلى ذلك، لا ترى هذه المجموعة في فصائل المعارضة المسلّحة أو معارضة الخارج بديلاً سياسياً لنظام الأسد، إلا أنها في الوقت نفسه لم تَعُد تقبل بعودة النظام القديم وممارساته، وبات يزعجها استخدام نظام الأسد للمسيحيين كورقة ضغط سياسي على الحكومات الغربية. يُعبّر أحد المسيحيين السوريين عن موقف هذه المجموعة، قائلاً: “لست مع النظام، لكن ما البدائل المتاحة أمامي… أن أصمت أو أن أرحل”.
***
إن البحث عن إجابة واحدة لموقف المسيحيين من الثورة السورية يبدو غير مجدٍ. فمواقف المسيحيين، على غرار الطوائف الأخرى، تحكمها المصالح والمخاوف وطبيعة البدائل المتاحة أمامهم. وإذا كانت مشاركة المسيحيين في الثورة السورية ضعيفة، خاصة مع عسكرتها، هذا لا يعني أن المسيحيين مسانِدون لنظام الأسد. فالشريحة الأكبر منهم باتت تهتم فقط بمستقبل وجودها في سورية، وستكون داعمة لحلٍّ سياسي يضمن لها أمنها وحقوقها، بصرف النظر عن بقاء نظام الأسد أو عدمه