جاءت وفاة شيمعون بيريس فرصة مناسبة للرئيس باراك أوباما للتغيب عن واشنطن، بحجة المشاركة في التشييع «الدولي» لرجل يجسد تناقضات العالم. فقد صنع قنبلة إسرائيل النووية، ملفوفة بجائزة نوبل للسلام.
تشييع أوباما لبيريس لم يكن نكاية ببنيامين نتنياهو. فقد التقى الخصمان اللدودان قبل أيام قليلة، بمناسبة منح الرئيس الأميركي جيش إسرائيل مبلغ 38 مليار دولار، مختتمًا بها «إنجازاته» من أجل سلام الشرق الأوسط.
سلام الشرق الأوسط يعني، في المفهوم الأميركي/ الإسرائيلي، أن لا يكون هناك أمن وسلام للعرب. الصفقة مع إسرائيل تتضمن تسليمها أحدث وأقوى ما في الجعبة الأميركية، بما في ذلك طائرة «إف – 35». وتقنية تطوير الصواريخ ضد الصواريخ، ليبقى السلاح الإسرائيلي متفوقًا على سلاح 22 دولة عربية.
لكن لماذا تغيب أوباما عن البيت الأبيض؟ كان الغرض تهدئة الأجواء المتوترة بين إدارة أوباما وجنرالات «البنتاغون» الذين أحبطوا، بمشاركة وزير الدفاع آشتون كارتر، التفاهم الدبلوماسي الذي توصلت إليه الإدارة مع روسيا، بشأن هدنة قصيرة في سوريا.
لا أبالغ في وصفي النزاع بين أوباما وجنرالات «البنتاغون» بأنه تمرد وتحدٍ. نعم، المؤسسة العسكرية الأميركية تخضع للإدارة المدنية. فلا يتجرأ جنرال على تحدي وزير الدفاع. أو الرئيس الأميركي الذي هو القائد الأعلى للقوات المسلحة. لكن كيف يمكن تفسير انطلاق الطيران الأميركي من قواعده في تركيا والخليج، للإغارة على القاعدة الجوية الوحيدة الباقية للنظام السوري في المنطقة الشرقية (دير الزور)؟!
مَن أمر بهذه الغارة التي أدت إلى مقتل وجرح 70 جنديا نظاميا سوريا؟ وإحباط التفاهم الأميركي/ الروسي. وإنهاء الهدنة المهزوزة في سوريا؟ الإعلام الأميركي صامت عن القول. غير أن هذا الإعلام كان حافلا في الأيام التي سبقت الغارة، بتصريحات لوزير الدفاع. وجنرالات رئاسة الأركان المشتركة. وقائد القيادة المركزية المسؤولة عن القوات الأميركية في الشرق الأوسط. وكل هذه التصريحات كانت صريحة وغاضبة على انهزامية الدبلوماسية الأميركية التي تقدم التنازل تلو التنازل، أمام الدبلوماسية والعسكرية الروسية في سوريا.
وصل غضب القيادات العسكرية والمخابراتية إلى النقد اللاذع لوزير الخارجية جون كيري. وبالتالي رئيسه أوباما. فقد قال إن التفاهم مع روسيا هو أمني أيضًا. ويقضي بتزويد روسيا بمعلومات أمنية بشأن سوريا والعراق. وقد رفضت القيادات المخابراتية إطلاع روسيا على هذه المعلومات.
ليست هناك وزارة للإعلام في الدول الديمقراطية. هناك ناطقون رسميون في البيت الأبيض. و«البنتاغون». والإدارات الحكومية والهيئات العامة. وكلهم يملكون حرية كبيرة في التصريح. وتقديم المعلومات. للتهدئة وللتخلص من الإحراج، أعلن البيت الأبيض أن الغارة كانت خطأ استوجب تقديم «اعتذار» لنظام بشار، عن الخسائر في قاعدة دير الزور!
تفاقم غضب القيادات العسكرية والمخابراتية الأميركية أكثر وأكثر، بعد الاعتذار. لكن الإعلام الأميركي الذي نشر خبر الاعتذار باقتضاب شديد، لم يقدم معلومات مستفيضة عن غضب هذه القيادات. كذلك لم يكتشف الإعلام العربي ومعلقوه ما حدث. ويحدث بين البيت الأبيض و«البنتاغون». ومدى عمق الانقسام داخل الإدارة الأميركية بخصوص سوريا.
الضابط السابق في المخابرات الشيوعية الذي يحكم الآن روسيا. ويدير حربها في سوريا. وأوكرانيا، لم تفته الفرصة لاستغلال الوقيعة بين أوباما وجنرالاته. لا شك أن الرئيس فلاديمير بوتين هو الذي أوعز لنظام بشار بالمزيد من إحراج أميركا.
وهكذا، سارع الطيران السوري إلى قصف شاحنات السلع والأغذية الدولية (وبعضها تركي) التي كان من المقرر أن تدخل حلب الشرقية المحاصرة، بموجب التفاهم الروسي/ الأميركي. وبلغت السخرية الروسية بأميركا، إلى درجة الزعم بأن الطائرات الأميركية التي قصفت قاعدة دير الزور هي التي قصفت الشاحنات الدولية.
لم يقصر نظام بشار في إحراج أميركا. فسمح لقادة سلاح الطيران بالانتقام لمجزرة دير الزور، بارتكاب مجزرة أكبر ضد المدنيين في حلب الشرقية. فتم قصف المخابز. والمشافي. والمدارس. والأحياء السكنية بالبراميل المتفجرة ليلا نهارا، طوال الأسبوع الماضي. وشارك الطيران الروسي في القصف، مستخدمًا قنابل الأعماق الارتجاجية، لتدمير الملاجئ التي لجأ إليها المدنيون تحت المباني العالية. فمات المئات من اللاجئين تحت الأنقاض.
الفيتو الروسي حال دون إدانة مجزرة حلب، في مشروع القرار الفرنسي المقدم لمجلس الأمن. أما إيران التي تتحمل عمائمها السوداء والبيضاء، من دون خجل وحياء، مسؤولية قيادة ضباط «فيلق القدس» للميليشيات الشيعية العراقية. والأفغانية. والإيرانية المهاجمة لحلب الشرقية مع ميليشيا «حزب الله»، فقد أرسلت وزير خارجيتها إلى أنقرة، حاملاً تحذيرًا من «الفقيه» علي خامنئي، إلى الرئيس إردوغان، لعدم التدخل في معركة حلب. وإحباط الهجوم الإيراني.
باتت القوات التركية على بعد خمسين كيلومترا من حلب. فقد توغلت مسافة ثلاثين كيلومترًا في ريف حلب الشمالي. وتحاصر الآن القوات الكردية في منبج. وميليشيا «داعش» في «الباب». الخبراء العسكريون الأوروبيون الذين يتابعون معركة حلب يتوقعون أن تستمر المعركة أشهرا وربما سنين، لاستحالة الحل العسكري في سوريا. ويعتقدون أن القوات التركية مقيدة بالتفاهم مع روسيا وأميركا، على عدم السماح لها بالاقتراب من حلب، مكتفية بتطهير الريف الشمالي للمدينة، لضمان أمنها القومي.
ما هي مضاعفات انهيار التفاهم الأميركي/ الروسي في سوريا؟ بالإضافة إلى التحذير الإيراني لتركيا، يبدو أن التنظيمات المقاتلة السورية والتركمانية تلقت تعزيزات لوجيستية وسلاحية تركية، لتحريك جبهة وسط سوريا (حماه وحمص)، لتخفيف ضغط الهجوم الإيراني على حلب.
آخر ما في جعبة إدارة أوباما، تصريح للوزير جون كيري عن احتمال إقدام بعض الدول على تسليح التنظيمات السورية المقاتلة، بصواريخ أرض/ جو محمولة على الكتف (ستنغر). فسارعت روسيا إلى عرض مقاتلة تقول إنها قادرة بأجهزتها المعقدة، على تجنب هذه الصواريخ. لكن هذه الدول تعرف أن صواريخ الكتف قد تنتقل إلى «داعش» و«القاعدة»، بحكم تداخلهما الميداني مع التنظيمات السورية. فتهدد سلامة الطيران المدني في المنطقة العربية والعالم.
كان على المراوغ شيمعون بيريس، قبل أن يغادر هذا العالم، أن يطبع قبلة وداع على جبين الكونغرس الأميركي الذي تحدى أوباما أيضًا، بإصداره قانون الملاحقة القضائية للدول الأجنبية. القانون يستهدف السعودية. ويستفيد منه يهود نيويورك الذين قضى بعض ذويهم في تفجير ناطحتي السحاب في المدينة (2001).
السعودية تملك استثمارات في الولايات المتحدة تزيد عن تريليون دولار (ألف مليار دولار). منها 750 مليار دولار استثمارات في السندات الأميركية. وقد تلجأ دول الخليج إلى سحب أموالها من الولايات المتحدة. فما زالت علاقة العرب مع أميركا تقوم على أساس صداقات شخصية. أو دبلوماسية عابرة مع ساسة أميركا. تشكيل لوبي عربي في الولايات المتحدة يتطلب إنهاء الخصومات الشخصية والسياسية بين 22 دولة عربية لا نعرف ما إذا كانت دولا متهادنة. أو متناحرة.
* نقلاً عن “الشرق الأوسط”