جلجلة المسيحي المشرقي بين الاستبداد وداعش والثورات
مسيحيو سوريا سجنوا وفيهم من قضى نحبه تحت التعذيب داخل أقبية السجون السورية تحت حكم نظام بعثي يدّعي حماية الأقليات.
العرب وداد جرجس سلوم [نُشر في 22/11/2014، العدد: 9746، ص(12)]
المسيحيون مكون أساسي استخدمته الديكتاتوريات ورقة مساومة مع الغرب
لم ير المسيحيون في سوريا، كما رأى غيرهم من مسيحيي المشرق، أنهم بحاجة إلى حماية من جهات دولية، وفضل كثيرٌ منهم الهجرات عبر عشرات السنين من الاستبداد، وكان لتجربة مسيحيي العراق، وتهجيرهم الممنهج واستهداف كنائسهم، بعد احتلال العراق، المسار ذاته الذي أريد لمسيحيي سوريا أن يسيروا فيه، لكن حتى مسيحيو العراق، فضّل غالبيتهم العيش في سوريا، بلد المسيح، وأسوار دمشق التي عبرها بطرس بالرسالة المسيحية أول مرة.
مسيحيو المشرق والربيع
ومع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، المبني مخابراتياً من قبل إيران والنظام السوري، تم تطبيق سياسة جديدة تجاه مسيحيي المشرق، فإما الخضوع تحت راية الحكومة الطائفية في العراق، أو حكم الأسد، أو سيكون مصيرهم التهجير وتدمير الكنائس، كما حصل في الموصل.
وما يزال الضمير الجمعي الصامت لهؤلاء جميعاً يفضّل الاستقرار على الثورات، ولكنه في الوقت ذاته ضاق بالتهميش الطويل لدوره في صناعة حاضر البلاد ومستقبلها، وحين اندلع الربيع العربي، كان على رأس المتظاهرين، مسيحيون في مصر وسوريا، قادوا الحراك، وطالبوا بالتغيير، ولم يوافقوا على تحكّم الفكر الظلامي في مسار ثوراتهم.
ولم تستثن شرارة الثورة والانتفاضة الشعبية، عندما انطلقت أحداً من مكونات الشعب السوري، وكلمة الحرية صدحت بها الحناجر السورية دون الانتباه إلى انتماءاتها الدينية أو القومية، فخرج الشباب السوري المسلم بكل طوائفه والمسيحي والدرزي والإسماعيلي، العربي والكردي.
تظاهر الشباب ضد النظام القمعي المتسلط على سوريته منذ خمسين عاما، وكانت لافتات الصليب إلى جانب الهلال هي أولى اللافتات التي رسمتها الأصابع المرتجفة وحملتها الأكف محاولة كسر الخوف المستوطن في النفوس، وكان هتاف “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد” هو الهتاف الأقوى الذي وصل جدران القصر وفروع الأمن، إنه الهتاف الأقرب إلى الأرواح السورية لكنه الأخطر على النظام الذي بنى عرشه لعقود على مشروع طائفي بحت.
الاستبداد حامي الأقليات
بات واضحا أن النظام السوري لم ولن يكون حامي الأقليات، كما روّج لنفسه في الأوساط الغربية، لأن الأقليات الدينية في سوريا لم يحمها عبر آلاف السنين،نظام مستبد، بل حماها التعايش والتسامح الذي طبع المجتمع السوري، وما الاضطهاد الذي تعرض له المسيحيون السوريون على مدى عقود في سوريا سوى الاضطهاد الذي مارسه نظام البعث بحقهم كما بقية أطياف السوريين على مدى ما يقارب الخمسين عاما المنصرمة. إنه النظام الذي اعتقل في الثمانينات من القرن الماضي رجلا مسيحيا -اسمه لا يحمل دلالة دينه- اعتقله سنة ونصفا بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين إلى أن تبين أنه مسيحي فأفرج عنه، ولم يفرج عنه لأنه مسيحي بل بكل بساطة لأن التهمة غير مناسبة ليعاود اعتقاله بعد عدة أشهر بتهمة انتمائه لحزب يساري.
مسيحيون في مهب الديكتاتورية
هو نظام حكم الأب “حامي المسيحيين” الذي اعتقل وعذّب ولاحق الشباب المسيحي المنضوي تحت راية أحزاب غير حزب البعث، وكم من المسيحيين قضوا في معتقلات نظام الأسد الأب أو خسروا زهرة شبابهم بين جدران سجونه لمجرد أنهم حملوا رأيا سياسيا مخالفا لرأيه منهم جورج صبرا وميشيل كيلو وغيرهم الكثير؟ والآن خلال الثورة السورية في عهد الابن، أول حيف وقع على المسيحيين من قبل النظام كان دأب شبّيحته إلى اختطاف شبابهم للحصول على المال (الفدية)، ومن تلك الحوادث الكثيرة، حادثة اختطاف صائغ من منطقة القصاع، تم الاتفاق مع عائلته بعد ثلاثة أيام على أن يتم تسليم الفدية في مكتب (قبو) في شارع الباكستان وسط العاصمة دمشق منطقة نفوذ النظام، وتم تهديده وعائلته أنه في حال تم ذكر مكان تسليم فديته لأي جهة لن يأمن على ابنتيه من الخطف وأشياء أخرى، وعلى مدى ثلاث سنوات ونصف السنة يقبع الكثير من الشباب السوري المسيحي في أقبية النظام، لمجرد أنه شارك في مظاهرة أو وزّع منشورا معارضا لسياسة النظام، بعضهم قضى نحبه تحت التعذيب كالنحات وائل قسطون ابن مدينة مرمريتا، وغيره ممن تخاف عائلاتهم من التصريح بموتهم تحت تعذيب النظام السوري خوفا من انتقام الأخير مما تبقى من العائلة، ومن أبرز الأسماء المسيحية التي طالتها يد النظام اعتقالا وتنكيلا المفكر الفلسطيني السوري المسيحي سلامة كيلة والمحامي خليل معتوق في الثامن من شهر تشرين الأول-أكتوبر 2012 وبهذا يكون قد مضى على تغييبه سنتان دون معرفة مصيره، ومن ثم حادثة اعتقال ابنته رنيم في الشهر الثاني من هذا العام 2014 الحادثة التي تندّر بها المحامي أنور البني من مبدأ “شر البلية ما يضحك” قائلا: “إن اعتقال رنيم وغيرها يأتي في إطار لمّ الشمل”، وتم الإفراج عنها في الشهر السادس فيما لا يزال مصير والدها مجهولا، وآخر ما يطالعنا بهذا المجال ما جاء على صفحة المرصد الآشوري (علم مراقبو المرصد الآشوري لحقوق الإنسان أن أحد فروع المخابرات السورية داخل مطار القامشلي “شمال شرق سوريا”، قام باعتقال المحامي موسى حنا عيسى الناشط السياسي والحقوقي السوري، وذلك يوم الاثنين الـ13 من تشرين الأول-أكتوبر 2014). إذن طال المسيحيين من عسف وجور النظام ما طال باقي مكونات المجتمع السوري.
مع مرور الوقت، أصبح الإعلام الرسمي مساحة مفتوحة لبعض رجال الدين المسيحيين الموالين للنظام السوري، حتى النخاع، يبثون خطابا يبجل رأس النظام بل ويعتبره المسيح الجديد والفادي للمسيحيين السوريين
الرقص على الدم
تنبّه الخطاب الرسمي السوري مبكرا بعد انطلاقة الثورة في سوريا، إلى حساسية موضوع المسيحيين، لما له من أهمية في المجتمع الغربي، فسعى إلى إظهار صورة المجتمع المسيحي المؤيد له، وكانت البداية من حفلات الرقص التي أُقيمت في منطقة باب توما وسط العاصمة دمشق ذات الغالبية المسيحية، هي الحفلات التي شكلت صدمة للكثير من المسيحيين قبل غيرهم ليتبين فيما بعد أنها حفلات أقامها ومولها رجل النظام “محمد قبنض” مالك شركة قبنض للإنتاج والتوزيع التلفزيوني، لكن صورة الحفلات في باب توما المسيحية التي ملأت شاشات إعلام النظام والشاشات الموالية كانت قد انتشرت لدرجة ما كان بالإمكان محوها، الاحتفالات الراقصة المؤيدة للنظام التي كانت تجري في ساحة باب توما، أثارت جدلاً واسعاً بحكم استغلالها لمناطق سكن الأقليات، وجعلت البعض غير المطلع على خلفيتها يلوم المسيحيين ويتهمهم بالوقوف إلى جانب النظام منذ بداية الثورة.
مساحة للولاء الأحمر
ومع مرور الوقت، أصبح الإعلام الرسمي مساحة مفتوحة لبعض رجال الدين المسيحيين الموالين للنظام السوري، حتى النخاع، يبثون خطابا يبجل رأس النظام بل ويعتبره المسيح الجديد والفادي للمسيحيين السوريين، إمعانا في ربط المسيحيين بالنظام الساقط الذي كان يحتمي بالأقليات وهو يدعي حمايتهم، النظام الذي استطاع تسخير عدد لا بأس به من رجال الدين المسيحي الذين عملوا على تطويع الطائفة ومنعها من الوقوف إلى جانب الثورة بل الوقوف على الحياد من جرائم النظام إن لم يكن بعضها مشاركاً بهذه الجرائم كما البعض من كل أطياف المجتمع السوري. وفي نفس الوقت الذي كانت شاشات الإعلام الرسمي مجالا لبعض رجال الدين هؤلاء، طلب النظام السوري من الأب باولو دالوليو المناصر للثورة السورية مغادرة سوريا وبدأ بملاحقته واعتبار أيّ لقاء معه تهمة وجريمة ووقوفا في وجه النظام، الاب باولو الذي اختطف أثناء محاولته التفاوض من أجل الإفراج عن المطرانين يوحنا إبراهيم وبولس يازجي وما يزال مصير الثلاثة مجهولا حتى الآن.
مطرانان في المجهول
بعد اختطاف الراهبين، وقعت حادثة في الشهر الرابع من عام 2013 تؤكد أن الاختطاف كان يستهدف فقط الأب يوحنا إبراهيم الذي قال على قناة الـ”بي بي سي” قبل أيام قليلة من اختطافه: “لا يرتبط بقاء المسيحيين في سوريا ببقاء نظام بشار الأسد”، وأن “المسيحيين غير مستهدفين وكذلك الكنائس ولكن ما يحدث هو تعرضهم لهجمات عشوائية”، ويأتي اختطاف المطران بولس يازجي لمصادفة تواجده مع المطران يوحنا إبراهيم في نفس السيارة، ومع قليل من التفكر تتضح الصورة ويتبين أن النظام هو الجهة الوحيدة المستفيدة من هذه الاختطافات لرجال دين مسيحيين كان لهم خطاب إنساني لا يتواءم مع خطابه الطائفي.
الدور الوظيفي لبعض المسيحيين
قبل عهد الأسد الأب، تسلّم المسيحي سعيد إسحق رئاسة البرلمان ومن ثم الدولة أثناء الاضطرابات السياسية في خمسينات القرن الماضي. وتولى فارس الخوري منصب رئيس الوزراء لمرتين في عهد الأتاسي والقوتلي بل تسلم وزارة الأوقاف الإسلامية لفترة مؤقتة، ولم يكن هذا التاريخ بعيدا عن تاريخ استيلاء الأسد على السلطة. فما هو المنصب السياسي السيادي الذي تسلمه المسيحيون إبان حكم الأسدين؟
قال المطران يوحنا إبراهيم على قناة الـ”بي بي سي”: “لا يرتبط بقاء المسيحيين في سوريا ببقاء نظام بشار الأسد” فتم اختطافه وما يزال مجهول المصير
لم يعتد المسيحيون أيام حكم الأسد الأب أو الابن على حقائب وزارية سيادية، بل كانت جميع مناصبهم كجوائز ترضية، وكطعم يقدمه للبعض لكسب الكل. كأن يتم تعيين بعض المسيحيين على فترات مختلفة بصفة مستشار لرئيس الجمهورية وهو المنصب الذي يعرف الجميع أنه يأتي فقط ضمن خطة التوازنات الطائفية التي انتهجها الأب وتابع بها الابن دون أن تكون ذات أهمية تُذكر ضمن نظام عسكري ديكتاتوري، ويأتي تعيين داوود راجحة المسيحي وزيرا للدفاع في شهر آب من عام 2011، في الوقت الذي كان الجيش السوري غارقا من قمته إلى أخمص قدميه في دماء السوريين، ليكون إمعانا من قبل النظام في حشر المسيحيين في مربعه وتوريطهم في أعمال الإجرام التي يقوم بها الجيش وزجهم في مواجهة المجتمع الذي انتموا إليه وعاشوا فيه آمنين لعقود وقرون. وبالفعل كان داوود راجحة أداة استخدمها بشار الأسد ومن ثم غيبها خلال التفجير المزعوم لخلية الأزمة في مبنى الأمن القومي.
باسل شحادة والمسيحيات
ولم يبق متابع مهتم بالثورة السورية، إلا وعرف قصة المخرج السينمائي ومهندس المعلوماتية باسل شحادة الذي اعتقله النظام السوري على خلفية مشاركته في مظاهرة المثقفين في حي الميدان الدمشقي في أولى أيام الثورة، ومن ثم استشهاده في 28/5/2012 وهو يقوم بنقل حقيقة ما يجري ويوثق بالصوت والصور الجرائم التي يرتكبها النظام ضد المدنيين بمدينة حمص وريفها. ويستطيع البعض الموالي للنظام أن يقول إن العصابات المسلحة هي التي قتلت باسل شحادة، وليس هناك من جدوى لمناقشة تلك المقولة إثباتا أو نفيا، ولكن النظام السوري هو الذي منع نقل جثمان باسل من حمص إلى دمشق، وكاهن كنيسة “كيرلس” هو الذي أغلق أبوابها في وجه إقامة قداس على روح الشهيد بأمر من قوى الأمن، قوى أمن النظام السوري “حامي الأقليات” التي هددت والدة باسل بأنها إن سمحت بإقامة القداس فسيلقى ابنها الثاني مصير باسل، ما اضطر الأم المفجوعة إلى الإعلان عن إلغاء القداس وطلبت عدم التوجه إلى منزل الشهيد لتقديم واجب العزاء لأن الشبيحة حاصروا المنزل ويعتقلون الشباب الوافدين إليه.
فإذا فرضنا جدلا أن باسل استشهد على يد طرف لا يمكن التثبت من هويته، فنظام الأسد ذاته هو من اعتقل ماجدة قربان خوري الناشطة في مجال العمل الإنساني والإغاثي أثناء مراجعتها لفرع الهجرة والجوازات في دمشق بتاريخ 16/4/2014 بسبب وجود منع مغادرة من قبل فرع الأمن العسكري.
ولا يستطيع نظام الأسد نكران الموقف السلبي الذي اتخذه من راهبات “دير مار تقلا” في معلولا، بعد صفقة مبادلتهن، حين لم يقدمن الشكر للأسد، وحين رفضن التحوّل إلى شهود زور عبر الفضائيات.
يبقى المسيحيون مرتبطين بأرض المسيح، وحريّتها وكرامتها، وأصالة شعوبها، وهم ضمانة التعددية في تلك الأرض، وسيكونون ميزان العلاقات بين التيارات المتصارعة اليوم.