شاهدت على «اليوتيوب» شريطا عن ناقة قام صاحبها بذبح ابنها أمامها. ملأها الحزن. لكنها سوف تختار انتقاما راقيا مثلها، لا مثله. رأت الفراش الذي ينام عليه فأخذت تدوسه، ثم راحت ترفسه ثم تضربه برأسها، ثم ترفعه وترميه، ثم تعاود ذلك إلى أن أصبح الفراش خرقة. وأكملت، لكن الفيديو انتهى.
عدت إلى لبنان وكان أول ما أتفقده، بعد العائلة، هو الحديقة. ولاحظت أن زوجتي تحادثني همسا، فسألتها السبب. روت أنه منذ أسبوعين جاء إلى الحديقة شحرور وشحرورة. انتقيا جزءا مخفيا من شجرة وأخذا في بناء عش للعائلة. هندسا العش المدور قشة قشة. ثم وضعت الأم بيضها ووقف الأب حارسا عند «المدخل».
وبعد أيام ربضت، ولم تعد تتحرك، فيما راح الأب يُحضر القوت من حيثما قدر. وفي هدوء مطلق قادتني زوجتي لأرى العصفورة الأم راكعة فوق أجنّتها المنتظرة. وبعدها لم يعد أحد منّا يقرب المكان خوف أن نفسد على هذه الأم أغلى ساعات حياتها.
ذلك المساء رأينا أمهات وأطفالا عند الشارات الضوئية في بيروت. الأم جالسة جانبا مع رضيع، وبقية الأطفال يلاحقون السيارات بحثا عن أي عطاء. أطفال دون الخامسة، وواضح أنهم يفضلون اللعب واللهو ولا يعنيهم كثيرا أن يعودوا إلى أمهم بشيء. لكن تنتظر بصبر لأنها تعرف أنهم سوف يجوعون بعد قليل وسوف يبكون ولن يفهموا لماذا رمت بهم بطولات وصراعات الشرق العربي في شوارع المدن الغريبة.
أصعب ما تكون الحروب على الأمهات. عالم الرجال يقتل ويقاتل ويتقاتل، والأم تحتضن الرضع عند المفارق. هنا أكثر أمنا من الجبهات. وزوجتي تمنعني من أن أرفع صوتي في الحديقة لكي لا نزعج أمومة الشحارير. انتقى الشحرور مكانا لعائلته وكأنه خبير في شؤون البيئة وحفظ المناخ. ولم يعنه جمال الزهر وألوان الورود لأنها تسر صغاره لكنها تكشفهم أيضا. هناك طيبون وهناك أعداء في كل مكان. ورعاة الإبل يحدون عادة لها ويسقونها قبل أن يشربوا يوم يصلون بئرا بعد رحلة طويلة، لكن هذا الراعي، الفظ والجلف، اختار أن يذبح الابن أمام أمه، فعلمته درسا في الذوق.
ليت الإنسان يتعلم الدروس من الغابات والصحارى. من القرود والأيائل والحمير الوحشية، وحتى من ذئاب الصحارى الثلجية. لكنه كائن لا يلتفت. يتوقف عند الشارة الضوئية ويعتقد أن الأطفال هناك يلعبون. ولا يرى في الزاوية خلف السيارات الراكنة، أمهم تحرس رضيعها، مثل شحرورة على شجرة.
عن الشرق الاوسط