هل يمكن أن يتفاهم أعظم فيلسوف عرفته البشرية مع حمار؟!
صحيح أن الحمار غير عاقل مثل الفيلسوف، ولا يملك نفس ذكائه وبعد نظره وقدراته على إرباك عقول الناس.
والسؤال الذي فرض نفسه على طلاب الفلسفة: هل يمكن اعتبار الغريزة عند الحمار، كممثل لسائر المخلوقات الشبيهة، نوع من البصيرة، التي سماها أرسطو “العقل المنفعل” مقابل “العقل الفعال” للإنسان؟.
في الحالتين العقل قائم. هذه بديهية غير قابلة للنقض. ونضيف انه بغض النظر عن كونه عقلاً منفعلاً او عقلاً فعالاً، العقل، بصفته كتلة مادية، هو مضمون لكل كائن حي مهما اختلف تصنيفه ورقيّه في سلم المخلوقات.
هذا السؤال الفلسفي أشغل طلاب قسم الفلسفة لأسبوعين كاملين. كان نقاشهم يحتد وينخفض، ترتفع اصواتهم وتبرز شرايين أعناقهم. تهدأ نفوسهم ليس استسلاماً، بل استعداداً لجولات جديدة لا تنهي النقاش ولا تصل الى موقف يجمع عليه أكثر من شخص، او حتى نصف شخص، لأن المتابع يلاحظ ان المواقف غير ثابتة وتتغير من ساعة الى أخرى لدى كل طالب. رغم ان الموضوع يبدو لطلاب الآداب والعلوم المختلفة مثل الفيزياء والبيولوجيا تافهاً ولا يستحق هذا الانشغال والنقاش البيزنطي، والعصبية التي جعلت طلاب قسم الفلسفة متنازعين مفرقين حول مسألة ثانوية في الحياة، وهناك من شبههم بالأحزاب العربية، أو بدول العرب التي تزيد عن عشرين ولكن لا تجد دولتين على اتفاق، بل على نفاق.
ميرا قالت:
– ما قيمة الفلسفة إذا كانت عاجزة عن فهم عقلية الحمار؟ أو عقلة المنفعل؟!
مرشد رد ضاحكاً:
– من يسمعك يا ميرا يظن أن الفلاسفة منشغلون بفهم نفسية الحمير، وهم بصعوبة يفهمون نفسية البشر؟!
مريد علق:
– أظن أن هناك علاقة لا يمكن نقضها، تصوروا فيلسوفاً عظيماً في العصر الإغريقي، حيث لا وسائل نقل متطورة… هل كان يمكن أن تنتشر فلسفتهم التي ألهمت العقل البشري حتى أيامنا هذه، وأثْرت المحيط الإنساني حتى أيامنا وأثّرت فيه، وأوصلتنا إلى قرننا المتطور الحضاري الحالي، هل تتصورون انه كان سيصلنا شيء من تلك الحضارة لولا وجود الحمير كوسائل نقل؟!
وأضاف متحمساً من الصمت غير المتوقع:
– بدون الحمير كوسيلة نقل كنا فقدنا التواصل مع العقل البشري وتراكم المعارف، والآن ماذا يهم إذا كانت الحمير ذات عقل منفعل أو بلا عقل بالمرّة!!
زاهر قال:
– إذن، حسب نظرية مريد، الحمار أفضل من إنسان عادي في نشر الفلسفة وخدمة تطور العقل البشري، فهو ينفذ إرادة أصحاب العقل بدون نقاش متعِبٍ للدماغ، وبدون تردد او تفكير حول ما يجوز او لا يجوز، الآن او غداً، متعباً كنتُ أم غيرَ متعبٍ، جاهزاً لهذا الآن او أنني أريد استراحة…
ميرا استفزها هذا المستوى الذي قالت عنه لنفسها انه “لا يليق بطالب صف أول، فكيف يطرحه طلاب أعظم فكر انساني، طلاب الفلسفة؟” ولكنها غربلت الكلمات في دماغها وقالت بشيء لا يخلو من الغضب:
– أنتم تستخفون بأهلية الحمار المعرفية، حتى أرسطو كان يشدد القول أن لكل شيء مضمون داخلي…. للشجر، للنبات، للطيور للنحل، وأن هذا جزء لا يتجزأ من الواقع. لا شيء في عالمنا ظهر إلا بسبب ضرورته. عندما تنتهي ضرورة الحمير، ستختفي عن وجه الأرض. في زمن أرسطو وأفلاطون كان عدد الفلاسفة يعدون على أصابع اليدين، اليوم في كل شارع عدد من الفلاسفة يزيدون أضعافاً عن عدد كل فلاسفة اليونان، هذا عدا المتفلسفين!!
علق زاهر:
– لذلك انقطعت الحمير عن مدننا، استبدلت بالفلاسفة، بعضهم ذو عقل فعال وبعضهم ذو عقل منفعل.
مريد لم يعجبه الأمر، فقاطع ضحكة زاهر الفجة:
– أن نكون فلاسفة مع حمير أفضل من أن نكون فلاسفة بين متفلسفين بجسم بشري وعقل حمير، لأنهم عالة على الفكر الإنساني.
منيرة التي كانت قد حافظت على صمتها، قالت:
– ليس كل ثرثرة نسمعها هي فلسفة، بدون وعي اجتماعي لا توجد فلسفة. هذا هو المقياس للفلسفة: الوعي الاجتماعي، وعي يشمل كل ما يعتمل في المجتمع البشري من نشاط خلاق. الوعي هو من نصيب الانسان فقط، وهذا المميز الكبير والهام. فهل للحمار، او غيره من الدواب، وعي اجتماعي؟ وهل للقاصرين في فهم الواقع وعي اجتماعي، وهل كل ثرثار يعي ما يقول؟!
سعدت ميرا بتدخل منيرة وسارعت تقول:
– الآن بدأنا في الفلسفة الحقيقية.. شكراً يا منيرة… كلامها يعني انه بدون وعي للمفاهيم العامة عن عالمنا،عن مجتمعنا، ومكانتنا كبشر في هذا العالم. سنظل أقرب إلى الحمير في وعينا وفهمنا للحياة ولدورنا في الحياة. أليس كذلك يا منيرة؟
هزت منيرة رأسها موافقة:
– بالضبط!!
كلمات منيرة فرضت صمتاً طويلاً بمقياس طلاب الفلسفة، عندما أستمر الصمت لفترة تعتبر تجاوزاً غير عادي، أضافت:
– اسمعوا هذه الحكاية عن الفهم الفلسفي لمضمون الأشياء: سافر زوجان فيلسوفان إلى سويسرا لقضاء عطلة في جبال الألب الساحرة. استلموا غرفهم في الفندق، الزوج جلس كئيباً بعض الشيء، مقارناً بين زوجته والصبايا المتزلجات على الثلج، ولماذا هناك اختلاف صارخ في المضامين والشكل، ورغم الفجوة المعرفية الفلسفية الكبيرة بين زوجته والصبايا المتزلجات الا انه كان يفضل صبية لا تعرف من عالمها الا اللعب والضحك والعقل المنفعل، عن زوجة فيلسوفة بلا جمال، ولكن صاحبة عقل فعال، تحلّل أعقد قضايا الفكر العالمي للإنسان. وقال لنفسه: “رغم التصنيف الواحد، وعلاقة ذلك بالفلسفة، تُرى من هو الغبي الذي قال أن جمال العقل يفضل عن جمال الشكل؟”.
كان مستغرقاً في تفكيره حين لعلع فجأة صوت زوجته:
– أنظر أنظر زوجي العزيز… أرى غزالاً من النافذة.
نظر الزوج إلى حيث تشير زوجته، وابتسم بحيرة ورد على زوجته:
– يا زوجتي العزيزة، أرى في رؤيتك خطأين فلسفيين كبيرين. الخطأ الأول ما تنظرين إليه عبر هذه النافذة هو بقرة ضخمة، والخطأ الثاني أنت لا تنظرين عبر النافذة، بل تنظرين إلى المرآة في الغرفة.
فردّت عليه غاضبة من الإهانة المبطّنة التي طالتها:
– كم أشعر بالأسف لأني تزوجتك، كان أفضل لو تزوجت من الشيطان نفسه.
فرد الزوج:
– يا عزيزتي، هذا خطأ فلسفي ثالث. يعبر عن ضعف الوعي الاجتماعي، وسيطرة العقل المنفعل، ويقلل من شأن عقلك الفعال. ألا تعرفين عزيزتي أن الزواج بين الأخوة ممنوع؟!
nabiloudeh@gmail.com