بدأت خطواتي في العمل المدني بداية غربتي في اول الثمانينات.. كانت اول تجربة لي مع النادي العربي.. كنا مجموعة من الأصدقاء.. نتوق لدفء العلاقات العربية – عربية.. وبالتالي كانت معظم فعالياتنا لأهداف إجتماعية.. للتعارف وكسر وحدة الغربة وخلق علاقات إجتماعية نحافظ من خلالها على اللغة والعادات.. وثقافية سعت للحفاظ على إتصالنا بلغة الأم و نضمن من خلالها اللقاء الإجتماعي…
سعدت في البداية. إلى أن أصبت بالإحباط جراء أكتشافي أننا نعمل أيضا على الحفاظ على عاداتنا والتي تجلت في عملية الإنتخابات حتى في وسط بريطانيا..
بعدها بدأت بالإنخراط في العمل التطوعي من خلال منظمات بريطانية.. خلق وزارة للسلام.. والعمل من أجل السلام لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي.. عملت مع منظمات يهودية تؤمن بإنسانيتنا المشتركة وحل الدولتين القائم على قرار مجلس الأمن 242.. ثم مع أصدقاء الأهالي الثكالى من الطرفين.. ونساء بلا حدود.. ونساء ضد التعصب والأصولية.. وغيرها من منظمات العمل المدني.
هدفي من هذا المقال ليس سرد هذه المعلومات ولكن لأبين للقارىء العربي قيمة وأهمية العمل المدني في الدول الديمقراطية.. العمل المدني يبدأ بالتطوع للعمل العام من أجل مصلحة مجتمعية وليس فردية.. و الأهم فيه الدعم الفردي لمثل هذا العمل سواء بالتطوع للمساعدة في بنائه.. أو التبرع المالي لدعمه.. وياحبذا لو اخذ هذا العمل صفة العمل الخيري قانونيا.. (وهو أمر صعب جدا لأنه يتطلب إجراءات معقده) ولكنه وفي مثل هذه الحالة يضمن بأنه إذا سجل الفرد أي تبرع شخصي.. يسقط من ضرائبه على إعتبار أنه مصروف.. وبالمقابل تقدم الحكومة البريطانية ما يعادل 28% من قيمة المبلغ الذي تبرع به الفرد للمنظمة.. إضافة إلى أن هناك العديد من الأشخاص المؤمنين بالفكرة والهدف والذين يوصوا بجزء أو كل ثرواتهم لمثل هذا العمل الخيري… منظمات العمل المدني هي البوصلة التي تستعملها الحكومة للتعرف على الرأي العام…. وإقرار السياسات التي تتماشى مع مصالح الأغلبية من خلال الرأي العام لضمان إنتخابها مرة أخرى.. الحريات الممنوحه للعمل المدني بلا حدود.. لأنها تعتمد أولآ وأخيرا المصلحة العامة وتاهيل المجتمع لكل المعلومات المصدقه عن الخطط الحكومية المستقبليه سواء الداخلية منها او الخارجية.. من خلال شفافيه تامه ما بين الحكومة والمواطنين… إضافة إلى تنوع منظمات العمل المدني وليس إقتصارها على السياسة فقط.. بل قد تكون إجتماعية سياسية.. إقتصادية.. لبناء علاقات مع دول اخرى.. لكل موضوع يساهم في إثراء المجتمع بالحوار والتعايش.. من خلال الحرية.. وبالذات حرية الأفراد.. المرفوضه كليا في المجتمعات العربية لأنها تشكل تهديدا لثقافة القطيع.. وخطرا على المعتقدات الثابته؟؟؟
في مجتمعاتنا العربية.. وفي كثير من الأحيان تقتصر مثل هذه التبرعات على ” الأقربون اولى بالمعروف “.. وهو أمر جيد ولكنه يبني جدار عازلآ في مدى الإحساس بالمشاركة الإنسانية مع الآخرين.. ويقتصر على المساعدات التي تضمن إستمرارية الحياة… وتضمن إستمرار القبلية والعشائرية.. بدون النظر للمجتمع والتأثير علية وتطويرة بالمساهمة في تطوير الأفراد.
الأمر الثاني إعتماد الأشخاص في تبرعاتهم على المؤسسات الدينية التي تتجه اول ما تتجه لبناء الجوامع.. بحيث أصبحت المدن العربية متراصه بالجوامع أولآ.. وياحبذا لو ’بنيت مقابل كل كنيسة او رمز ديني آخر جامع اكبر منه.. متناسين توفير السكن اللائق لشريحة كبيرة من المشردين.. او المساهمه في تطوير المدارس او المستشفيات..أو المساهمة في بحوث علمية.. وتبقى على قمة شروطها في حال المساهمة.. الإلتزام بالقوانين الشرعية.. سواء في المدرسة او في أي عمل مجتمعي آخر.. ولكن لا للبحوث العلمية. لأننا لدينا كل المعلومات.
ما يؤلمني خلال زياراتي للمنطقة العربية.. خوف الجميع من كلمة المبادرة (شو بدك بوجع الراس).. والتهرب من المسؤولية.. فالكل يتهرب من كلاهما.. والكل يلقي باللائمة إما على الحكومات.. والأكثر منه على نظرية المؤامرة الغربية التي تريد أن تنال من الشعوب الشرقية..
ربما أستطيع أن أتفهم بأن ظروف الحياة الصعبه لغت إحساس المبادرة لدى الفرد لأن الجميع يبحث عن لقمة عيش.. ولكن اكثر ما يؤلمني حين أرى بأن الكثير من منظمات العمل المدني تنظر إلى العمل فيه على أنه مجرد وظيفة مضمونه الراتب.. والإمتيازات الأخرى.. ولكن ينتفي معها الإحساس الصادق بالمسؤولية المجتمعية….سواء بالتوعية الصادقة لما يخدم متطلبات المجتمع العصري أو بالتوجيه لما يتعارض مع مثل هذه القيم التي لا تخدم الإنسان ولا المجتمع.. والجرأة بفتح مجالات الحوار الصادق مع المجتمع للوصول لحلول لما يواجهه من مشاكل تتصل بتفكيره وثقافته.. فشلت مجتمعات العمل المدني في بناء نسيج مجتمعي عصري مؤهل للخيار الديمقراطي الحقيقي والغير متلحف بعباءة الدين والتدين. والدليل.. هو فشل المجتمع المدني في الإنتخابات الأولى.. حين إنتخب الأحزاب الدينية.. لعدم وعيه بأنها تلتزم بدمقراطيتها الشورية والتي تتعارض مع المبادىء الأولى للديمقراطية وهي المساواة بين الجنسين.. وبين جميع المواطنين.. ثم فشل في المساهمه في تجاوز المرحلة الإنتقالية في الدول العربية بعد الإنتفاضات او ما يحلو للبعض بتسميتها بثورات.. وضعفه الكامل حين ’أعطي الفرصة للمشاركة في الدساتير.. ورضي بأنصاف الحلول خاصة في ما يتعلق بالمرأة…
منظمات العمل المدني. فشلت في كسر الحواجز بين الإنسان العربي. والعالم كله.. فبينما تتقاضى معظم رواتبها من العالم الغربي.. لم تتجرأ على كسر الحواجز التي بناها فقهاء الدين بين العالم العربي والعالم الغربي والتي ساهمت في كسر وهدم الإنسانية المشتركه بيننا كبشر.. وتركت الساحة مفتوحة.. لحلول الإصلاحات المجتمعية بالفتاوي.. والتزمت بكل التقاليد.. مع علمها الأكيد بأن معظم هذه التقاليد تتعارض مع التنمية البشرية والإنسانية.. عجزت عن إبتداع او إستنباط تقاليد تتماشى مع روح الأديان لترتقي بمجتمعاتها إلى روح العصر.. لمواكبة هذا العصر..
فشلت فشلا ذريعا في الإرتقاء بروح الإنسان العربي ليؤمن بالهوية الإنسانية قبل الهوية الدينية المغلقة.. وبقي الإنسان العربي أسيرا للهوية المغلقه.. وأسيرا لثقافة الخوف.. وثقافة التحريم… وبلاش وجع الراس…. ولكن وإلى متى؟
المصدر ايلاف