ان الارض بموقعها الجغرافي التي يعيش عليها مجتمع ما هي التي تشكل سماته الاساسية فهذا الموقع بتضاريسه ومناخه وما ينعم به من ثروات طبيعية وخصوصً الثروة المائية هي حقائق ثابته وغالباً ما تحدد مسار تفكيره العام وصيرورة حراكه الاجتماعي وتحدد صراعه الطبقي ومستواه الحضاري وترسم له وجهة معينه وهذا الموقع يختلف من منطقة لأخرى من حيث امكانية تطويعه واستغلال ثرواته الطبيعيه من قبل المجتمع الذي يستوطنه ويعيش فيه .
فطبيعة الاراضي الصينية مثلاُ التي يغلب على تضاريسها الانبساط وسهولة التواصل فيما بينها وبما تحتويه من الثروات الطبيعيه الوفيرة المتنوعة , خصوصا الثروات المائية الكثيرة. مكنت المجتمعات الصينية بالجهود الفردية والجماعية المعتدلة من السيطرة على اراضيها وثراتها لمصلحتها . فغالبا ما كانت وما زالت هده المجتمعات تنتصر على معيقات الطبيعة مما عزز ثقة الانسان الصيني بنفسه وبمجتمعه ورسخ في نفسه ايمانه بأرضه ووطنه.
اما المجتمعات الاوربية مع وفرة ثرواتها الطبيعيه وتنوعها في اراضيها وخصوصاً الثروات المائية ومع صعوبة التواصل فيما بينها و الصعوبة النسبية في الحصول على ثرواتها وتطويرها . كان صراعها مع القوى الطبيعية هذه يترجح ما بين النصر والهزيمة . فأحيانا تنتصر وتحصد ثمار انتصاراتها وأحيانا اخرى تنهرم وهذه الجدلية ما بين النصر والهزيمة ولدت لديها التفكير بأسباب النصر والهزيمة فتكون لديها الفكر النقدي الذي مكنها من اعادة النظر والتفكير في المواقع التي انهزمت فيها وعملت على تدليل اسباب الهزيمة وأخذت تحقق الانتصار تلو الانتصار فيما امتلكته من المعرفه التي اهلتها من تحقيق دلك وكلما ازدادت معرفتها بقوانين الطبيعية كلما ازدادت انتصاراتها حتى وصلت الى ما هي عليه من التمدن والتحضر و التقدم العلمي وقوة الانتماء الوطني .
الى ان المجتمعات التي كانت وما زالت تعيش في الارض الصحراوية القاحلة والصعبة الدروب والمسالك والمناخ الحار و الشحيحة بالثروات الطبيعية خصوصيا شح الموارد الطبيعية المائية وندرتها ومن هذه المجتمعات المجتمعات العربية التي اكثر من تسعين بالمائة من اراضيها صحاري قاحلة . وغالبا ما كانت ومازالت هده المجتمعات مهزومة امام قوى اراضيها الصحراوية القاسية في صراعها معها مما جعلها تخافها وتخاف من تقلباتها المقاتله. فأخذت تتكيف قدر الامكان لتبعد عنها شبح الجوع و المرض و الموت فندرة الموارد المائية و الاتكال على مواسم الامطار المتقلبة دفعة هذه المجتمعات الجاهلة للاستغاثة بمشيئة الرحمن و قدرة السلطان حتى اصبحت عقليتها تعمل بقوانين و قيم ثقافة الفكر الجبري و ألاتكالي . هذه الثقافة التي ما زالت تقعدها عن طلب المعرفة الطبيعية . و تقعدها عن ادارة العمل الجاد و المسئول .فغابت في دهاليز الجمود و التخلف خلف شوارع التاريخ .
و عندما ظهر الدين الاسلامي في أوائل القرن السابع الميلادي , كانت ثقافة الفكر الجبري و الإتكالي هي الثقافة السائدة في ذلك العصر في المجتمعات القبلية في شبه الجزيرة العربية و بلاد فارس و بلاد الشام و بلاد مصر و شمال افريقيا . و قد عرف عن ثقافة هذه المجتمعات انها في حياتها اقرب الى حيات البداوة من حيات التمدن , و انهم ميالون للتطرف في كل شيء الى التضحية بالنفس و الى الانانية الزائدة , الى الحب العذري و الى التهتك , الى الصداقة النادرة و الى الحقد اللانهاية له , الى الشغف بالماديات و الى الزهد و التقشف , الى التالية و عبادة البطل ( الشخصيات البارزة ) و الى الشعور بالدونية , الى الاعتداد بالنفس و شدة الاعتماد عليها و سرعة اليأس و السقوط بالقنوط عند أول صعوبة يجدونها في طريقهم . الى الاستسلام للهزيمة و الرضى بالقضاء و القدر على انه جبر من الرحمن أو السلطان أو وسوسة من الشيطان , و من ثم اللجوء و الركون الى نفق الاتكالية و الفوضى و الفساد إلا أن الدين الاسلامي في النص القرآني أتى بالخطابين : خطاب الجبر و الاتكالية و خطاب الارادة الانسانية القادرة .
و تبين الآيات التالية الواردة في القرآن الكريم : الخطاب الجبري و لا اتكالي :
” قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا هو مولانا و على الله فليتوكل المؤمنون “
” الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى “
“فان الله يضل من يشاء و يهدي من يشاء “
“و اذا اراد الله بقوم سوء فلا مردّ له من دونه من وال “
ومن الامثال الشعبية الدالة على تغلغل ثقافة الفكر الجبري و الاتكالي في المجتمعات العربية : ” هذه قسمتي و نصيبي ” ” بسم الله و ان شاء الله و التوكل على الله ” ” الله يعطيك ” الله يلعنك ” ” اذا وقع القدر عمي البصر ” ” الحذر ما يمنع القدر ” ” المكتوب ما منه مهروب ” ” اجري جري الوحوش غير رزقك ما بتحوش ” الله يجازيك الله يجبر عنك “
مشيناها خطى كتبت علينا و من كتبت عليه خطى مشاها .
و بما ان النص القرآني كما و صفه الامام علي بن أبي طالب : ” حمال اوجه ” يمكن قرائته ( أي شرحه و تفسيره ) قراءات مختلفة , باختلاف المجالات الثقافية المجتمعية . فكل قراءة تحمل هوية قارئها و كل قارئ يدعي ان قراءته هي القراءة الوحيدة الصحيحة , و يحاول جاهداً استبعاد القراءات الاخرى . و هو بذلك يستبعد النص الاصلي و يقوم بإحلال قراءته محله . و هذا واضح بما كان و مازال يبدو و يظهر من اختلافات قراءات اهل السنة و اهل الشيعة و الفرق الاسلامية الاخرى و ما يحدث من صراعات بينها , فالعقلية البدوية الذكورية الاستبدادية للمجتمعات الاسلامية التي يغلب عليها الجهل و الوهم و الاستسلام للفكر الجبري و الاتكالي و التدجين و الفساد و الفوضى . هذه المجتمعات القبلية و الطائفية طوعة الخطاب الديني بما فيه من خطاب الفكر الجبري و الاتكالي , كلُِ لثقافته السائدة , و انتجت ثقافة البداوة الدينية البعيدة عن ثقافة التمدن الديني التي تنشأ على الخطاب الديني : خطاب الارادة الانسانية القادرة و المسؤولة عن اختياراتها و اعمالها كما ورد في الآيات القرآنية الدالة عليه فيما يلي :
” لا اكراه في الدين “
” و ما اصابكم من مصيبة فبما كسبة ايديكم “
” و من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره “
” و ان ليس للانسان الا ما سعى وان سعيه سوف يرى “
ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم “
اذاً فثقافة البداوة الدينية هي العائق الاساسي في عدم انتشار ثقافة التمدن الديني في المجتمع العربي. لأن انتماء الانسان الى أي فكر أو عقيدة غير مرتبطة بسيرورة الواقع الاجتماعي المعاش في بيئته الطبيعية يعتبر انتماءً فكرياً وهمياً , حيث يكون الانسان مرهوناً بفكره و سلوكه لهذه العقيدة . معلقاً بحبال الوهم ما بين مثال عقيدته و ارض الواقع . مما يغيب عقله و تفكيره الطبيعي النقدي , و يشله و يقعده هو ومجتمعه عن ارادة العمل الجاد في التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و هذا يؤكد تلازم غياب العقل القادر على التفكير الطبيعي النقدي المنتج , مع غياب الحرية الفردية المدنية المتحررة من قيود ثقافة البداوة و الجهل و الاوهام و الخوف و الاستبداد و هذا نتيجة ثقافة البداوة الدينية المستبدة في المجتمع .
و كانت البادرة الأولى لبناء ثقافة التمدن الديني الاسلامي على ارض الواقع في عهد الخليفة عمر بن الخطاب عندما أمر كل من سعد بن ابي وقاص و اليه في بلاد فارس و ابو عبيدة بن جارح و اليه في بلاد الشام و عمرو بن العاص و اليه في بلاد مصر و ما يليها العمل بالنظم الادارية و السياسية التي كانت سائدة في تلك البلاد قبل الفتح الاسلامي . و تجميد ما يخل بالدين الاسلامي , و اخذ الجزية ممن لايريد الدخول في الدين الاسلامي , لأن نظام البيعة و الشورى كان معمولاً بها لدى القبيلة في العصر الجاهلي , و لا تصلح أن تكون نظام حكم في الدولة الاسلامية . و هذه الانظمة المتبعة في البلاد المذكورة اعلاه تعتبر انظمة مدنية في ذلك العصر لانها تقوم على التنظيم الدنيوي العملي في ادارة حيات المجتمع . واضاف اليه الخليفة عمر بن الخطاب حرية الاعتقاد .
و قد اصبحت المعرفة العملية و التفكير العلمي و النقدي اساس التمدن في العصر الحديث . لأنه يؤكد على حرية الاعتقاد و حرية التفكير و حرية التعبير و حرية الاختيار المسئول حسب معاني الآيات المذكورة اعلاه في الخطاب الديني : خطاب الاختيار و الارادة الانسانية القادرة و المسؤولة عن افعالها . و من هذه الآيات آية : ” ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغير و ما بأنفسهم ” و معاني هذه الآية مع معاني الآيات الاخرى المرافقة لها تبين قيم و اسس بناء المجتمع المدني وتطالب المجتمع بتحمل المسئولية من أجل الخروج من نفق ثقافة الجبر و الاتكالية الى طريق التقدم و التمدن و التحديث باستعمال المعرفة العلمية و التفكير العلمي و النقدي كما يؤكد الحديث النبوي الشريف : ” انتم أدرى بشؤون دنياكم ” و ” كلكم راع و مسئول عن رعيته ” إذاً فلابد من اقامة الدولة المدنية الديمقراطية : دولة الدستور و سيادة القانون .
محمد نضال دروزة