قبل أيام عدت من تونس… البلد الجميل الذي كان يخضر فيه أشياء جميلة كثيرة .. ربما بموازاة الكثير من النكسات و الماًسي من فقر و قمع سياسي للمعارضين بتوجهاتهم المختلفة خاصة اليسار و الإسلاميين….نعم… بشكل ما كان مسارات تتجه باتجاهات مختلفة يفتقد الى التنسيق… فبينما الكثير من الشباب التونسي يدخلون الى عتمة السجون و المعتقلات.. كانت حركة الاخضرار تمشي أيضاً بمسار واضح…. كان مستوى التعليم و حركة البناء يتخذ منحى تطوريا… من بناء المؤسسات الى بناء مفاهيم تحررية من النظام الاجتماعي التقليدي…
بين هذا و ذاك كانت تزداد مساحة الحرية و تزداد مساحة الاحتقان… كثير من الشباب لم يكن بإمكانه أن يستفيد من مستوى التعليم الجيد … فالبطالة كانت تزداد… و المشكلة أن الكثير من هؤلاء العاطلين كانوا ذوو شهادات جامعية بكل ما يعني ذلك من إمكانيات معرفية و تقنية مما زاد من مستوى الإحباط و التذمر… فكانت الثورة محاولة لتغيير إدارة المشروع التطوري… لكن ما جرى و ما اًلت اليه الظروف السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية كانت شيئا آخر غير الذي كان الشباب يحلم به …
كنت قد زرت تونس سنة 2006… و لكن منذ قيام الثورات العربية لم يتسنى لي زيارة أي من بلدان الثورات رغم محاولات حثيثة لزيارة مصر التي زرتها و لي فيها أصدقاء و ارتباطات ثقافية و علمية و التي أيضاً كانت لي رغبة خاصة فيها و هي معايشة مشاهدة الحراك الشعبي في ميدان التحرير… و شاءت الظروف أن تكون تونس المحطة الأولى لزيارتي كما كانت المحطة لانطلاق الثورات…
تونس…البلد الذي شهد فتح الثغرة الأولى في جدار النظام الاجتماعي السياسي في العالم العربي… لكن منذ اللحظات الأولى لوصولي و خروجي الى الشارع أدركت أن أشياء كثيرة قد تغيرت بهذا الاتجاه او ذاك بحيث تشكل لدي انطباع بأن تونس لم تعد خضراء كما كانت أيام زيارتي الأولى… افهم تماماً أن الثورات تنتج الدمار مثلها مثل أي فيضان هادر.. قبل أن يتم جني الثمار التي أتى بها هذا الفيضان.. لكن يبدو واضحا أن الناس لا يعملون على جني الثمار و إدارة الدولة لم ترتقي الى مستوى التحدي فتركت الأشياء تأخذ مجراها (الطبيعي)… و الطبيعة مهما كانت جميلة إلا انها تحتاج الى يد الإنسان كي تجعلها مشرقة و قابلة للحياة… كانت وجوه الناس تبدو محبطة و شاكية و الابتسامات التي تعلو الشفاه خجولة تخرج باستحياء تعبر عن دبلوماسية الترحاب بالزائر أكثر مما تعبر عن زهو داخلي…. الشوارع شبه خاوية و كئيبة و الحركة بطيئة جداً و أكوام الزبالة و القاذورات تملئ الكثير من زوايا الشوارع و الميادين…
لوهلة تصورت أنني في بغداد التي زرتها قبل حوالي الثلاث سنوات بعد غياب طال أكثر من 27 عاما… بغداد كانت مدمرة كليا بفعل قصف الطائرات و الصواريخ… لكن الأكثر تدميرا كانت نفوس الناس و حيويتهم و قيمهم و هذا ما يفسر بشكل ما دوامة الانتحار الذاتي الذي اصبح هواية العراقيين اليومية…
في تونس … لم تكن هناك طائرات تقصف على مدى سنوات كما في بغداد و لا صواريخ تقلع كل شيء بناه العراقيون عبر آلاف السنوات من الحضارة و عشرات السنوات من زمن الدولة الحديثة… في تونس… يبدو أن الأشياء تقضم ذاتها فلا تبقى إلا المخلفات الكريهة المنظر و الرائحة…
امام هذا المنظر العام كان علي ان اتلمس القوة الدافعة للتغيير في مكامنها و عند القوى التي تقود مسار التغيير…. هكذا و بمساعدة بعض الأصدقاء كنت قد أعددت نفسي للذهاب الى ساحة باردو حيث تنصب خيم للاعتصام الدائمي ضد حكومة النهضة يجلس فيها الشباب العاطل عن العمل و الأحزاب السياسية و ممثليهم من اعضاء البرلمان المنسحبين بالاضافة الى منظمات و فعاليات اجتماعية اخرى… لكن… لحسن حظي ربما كي يتسنى لي مشاهدة و مراقبة الأشياء على ارض الواقع … حدثت مظاهرات يوم الأربعاء 2 أكتوبر في شارع بورقيبة… وصلت الى المكان قبل دقائق من انطلاقها حيث قامت الشرطة بإغلاق الشوارع المحيطة و منعت السيارات من الدخول الى المنطقة بينما ظلت الطرق مفتوحة للمشاة و المتظاهرين… الشرطة كانت أيضاً أحكمت طوقا بالاسلاك الشائكة على مداخل وزارة الداخلية التي هدف المتظاهرين فلم يكن بالإمكان الوصول الى مبنى الوزارة مطلقا…
و بمرور الوقت تشكلت مجموعة من الملاحظات الأولية اهمها هي… أولا …أن عدد المتظاهرين و أن تزايد مع الوقت إلا انه ظل ضئيلا نسبة الى أعداد الشرطة و أعداد الصحفيين و وسائل الإعلام و منها التلفزيون التونسي…. ثانيا… رغم أن المظاهرة نظمها المسار الديمقراطي إلا أني لم أشاهد من يدعو الى الديمقراطية بمعانيها الواسعة و منها الحوار و قبول الآخر ….. بل لاحظت أن اغلب الشعارات التي رفعت كانت شديدة اللهجة و النبرة و اغلبها تدعو الى الانتقام متهمة الحكومة بالإرهاب … كانت هناك سيدة واحدة فقط…. و هي كبيرة في السن… تدعو الى الوحدة دون أن تجد صدى كبيرا لدى الآخرين .. عندما حاولت الاستفسار من بعض المشاركين صرح اغلبهم لا يمثلون أحزاب لكني رأيت لافتات… الإنقاذ… تمرد… دون أن يكون ممثلين لهذه التنظيمات… ثالثا… رغم أن المظاهرة كانت تتجه الى الشباب إلا أن اغلب المتظاهرين كانوا من كبار السن… بينما اصطف بعض الشباب على جانبي الطريق كمتفرجين و كان بعضهم يلتقط الصور التذكارية… رابعا… الأسوأ من ذلك كان منظر آلاف الشباب الذين كانوا يجلسون على المقاهي في الشارع …. يدخنون بشراهة غريبة حتى اصبح من الصعب التنفس من كثرة الدخان… ظل هؤلاء في مقاعدهم دون أن يتأثروا بأي شيء من شعارات المظاهرة و قيمها… ظلوا في أماكنهم يدخنون و لم يحركوا ساكنا رغم أن المتظاهرين كانوا على بعد متر او مترين منهم فقط.. خامسا… لم يكن هناك من ذكر لاسم النهضة بل أن الجميع و منهم المتحدثون و رافعي الشعارات كانوا يوجهون النقد للإخوان المسلمين… أحدهم و كان رجلا في العقد الخامس من العمر… يتطاير شررا من لسانه و تحدث عن مقارنة بين الإخوان و الحركة الصهيونية فقال أن الإخوان يريدون ان يستولوا على الإسلام كما استولت الصهيونية على الدين اليهودي.. كلام خطير لم اسمع مثيلا له في مصر رغم الأحداث الماًساوية التي جرت و التي ما تزال تجري هناك..
رغم كوني لست صحفيا لكني أجريت بعض اللقاءات القصيرة مع المتفرجين الذين كان عددهم يفوق كثيرا أعداد المتظاهرين كما ذكرنا انفا…ملخص الاراء كانت هكذا … بعضهم وصف المتظاهرين بالمتطرفين… آخرين قالوا ….أنهم يمنعون الحكومة من العمل… و فريق ثالث قال.. أن حكومة النهضة فاشلة لانها لا تملك أية خبرة للعمل.. لكن القاسم الأكبر كان هو الخوف من المستقبل… الخوف من حرب أهلية… على جدار احد المباني كتب شعار استغاثة…( الفقراء يموتون جوعا… جعلوا بالانتخابات)…
قررت أن اسرع الى ساحة باردو … في محاولة لربط المظاهرة مع حالة الاعتصام الدائمة هناك…. الملاحظة الأولى التي واجهتني هي أنني وجدت الخيم خاوية إلا من بعض الشباب… فهمت أن اغلب المعتصمين قد ذهبوا للمشاركة في المظاهرة… استخلصت من هذا الكلام أن حجم المعتصمين ليس كبيرا… في إحدى الخيم التي ترفع شعار (لن يكلفنا النضال اكثر مما كلفنا الصمت) التقيت بشابين ظهر على احدهما الحماس الشديد بينما ظهر الآخر و هو مسرحي منهكا مستسلما … حيث ما أن بداً الشاب المتحمس و هو خريج جامعي في تخصص الانفورماتيك بالكلام حتى استلقى الشاب المسرحي و غرق في النوم رغم حرارة الطقس…الشاب المتحمس قدم نفسه بانه عاطل عن العمل و انه ماركسي لينيني و انه لديه معلومات بان الإمبريالية الأمريكية و الفرنسية اتفقتا ضد تونس… و عندما سألته ما أهمية تونس ..؟؟.. قال (أنها مفتاح شمال أفريقيا و انه قد وجدت فيها … اي في تونس..احتياطيات نفطية تفوق احتياطيات الجزائر و ليبيا سوية).. جيد.. لكن من اين جئت بهذه المعلومات..؟؟.. قال (القوى الإمبريالية قد أجرت دراسات و أن حكومة الإخوان او النهضة لا تريد أن تعلن عن ذلك لانها تريد إعطاء النفط للإمبريالية )… سألته .. ( إلا تعتقد أن هذه مجرد بالونات اختبار تبثها القوى الإمبريالية كما تسميها لأحداث بلبلة و شقاق بينكم أهل تونس و بين الحكومة..؟؟.. قال..( لدي إحصائيات دقيقة بذلك) .. لكن من اين لك هذه الأرقام لان ذلك يحتاج الى دراسات جيولوجية و غيره و هذه تحتاج الى أجهزة و اختبارات و عمل طويل…. اكتفى بالقول..( نعم و لكن..)
طيب ماذا عن الحراك و مظاهرات اليوم… يعني لو استقالت الحكومة و اجريت انتخابات جديدة …. هل تعتقد ان النهضة لن تفوز مرة أخرى ؟؟.. رد بان النهضة يجب ان لا تفوز لان الإخوان كما هو معروف هم ارهابيون..!!.. هكذا!!!..ثم قال أن الانتخابات حتى و لو جرت فإنها لن تغير شيئا وانه يعرف النتائج مسبقا و طلب مني أن اسجلها للتاريخ هكذا.. ( النهضة ستحصل على حوالي 45 في المائة و أن نداء تونس تحصل على 35 في المائة و أن الأحزاب اليسارية لن تحصل على شيء مهم لانها أحزاب بورجوازية رغم شعاراتها اليسارية… و في النهاية النهضة و نداء تونس متفقان على كل شيء برعاية الإمبريالية الامريكية و الفرنسية)…
طيب ما هو البديل خاصة أنني شاهدت آلاف الشباب في شارع بورقيبة لا تهتم بالمظاهرات… قال..( الشباب محبط و البديل هو تشكيل خلايا ثورية و تأسيس تنظيم ثوري لأحداث تغيير جوهري لكننا مدركون أن هذا الأمر سيطول)…
في هذه الأثناء لاحظت شعارا على خيمة مقابلة..(لا عدالة إلا إذا تعادلت القوى و تصادم الإرهاب بالإرهاب…) فسألته عن هذا الشعار… قال أن أحدهم كتبها و غادر المكان… فسألته … انت تتحدث عن خلايا ثورية… هل لديكم استعداد نفسي و أخلاقي لاستخدام العنف في التغيير..؟؟.. قال ( تواجدنا في الساحات و المظاهرات هي كلها أنماط من الكفاح المسلح… لكن اذا لم يحصل تغيير حقيقي … عند ذاك نعم لدينا استعداد نفسي و أخلاقي في حمل السلاح..).. هنا تذكرت شعارا مكتوبا على جدار قرب احد المساجد..( العنف بالعنف..!!.. و البادي أجابها ..!..)..
التفت الى انه كان يدخن بشراهة حيث انه ما أن ينتهي من سيجارة حتى يشعل ثانية و ثالثة و هكذا… سألته ..( إلا تعتقد بشراهة تدخينك انك تساهم في دعم الاقتصاد الإمبريالي ..؟؟.. ابتسم و قال..( لا… أنها صناعة وطنية..)..
تساءلت مع نفسي …هل هذا التدخين هو مؤشر عجز أمام التحدي …. أم أنه دعم لبناء الوطن وفق مبداً غريب اي عن طريق نشر الأمراض و التلوث … هل مؤشر لبناء المستقبل ام انه المزيد من الدمار و الهدم.؟؟…. ربما تكون البوصلة غيرت مؤشرها..!!..
من الإحصاءات التي قدمها لنا هذا الشاب الثوري أن هناك أكثر من نصف مليون عاطل عن العمل ممن يحملون شهادات عليا وان العدد الكلي للبطالة تقترب من ثلاثة ملايين بالإضافة الى البطالة المنتشرة لكن غير المعلنة في المناطق السياحية و أنه منذ الثورة اقدم أكثر من مائتي شاب على الانتحار حرقا كما أن عدد المنتحرين بصورة عامة يتجاوز المئات.. مؤشر آخر للعجز..!!..
طبعا لا املك أية إمكانية لتأكيد هذه الإحصاءات المختلفة التي قدمها هذا الشاب الذي احتفظ باسمه لكني لن أعلنه إلا إذا رغب هو في ذلك… لكن الشاب بدا واثقا من نفسه و مصادره و كان منطقيا جداً في كلامه و في إمكانياته الفكرية و اعتقد ان المشروع الذي كان يحمله يبدو طموحا و ان هشا لانه لا يتفق مع الواقع لكنه يمثل مسارا مهما من مسارات الثورة و توابعها في تونس و ربما أيضاً في بلدان عربية أخرى….
تذكرت هنا ما قالته سيدة تدير عملا مربحا أن اغلب الناس تشعر بالتهميش و أن الذين يمتلكون بعض النقود يقومون بانفاقها على اتفه الامور دون وعي و لا هدف… و تذكرت ايضا ما قاله متحمس لحكم النهضة… أن هذه الجماعات الثورية لا تملك أي مشروع و لا هدف غير الاستيلاء على السلطة… لقد حاولوا تطبيق النموذج المصري عن طريق حث الجيش تارة و المخابرات تارة اخرى على الانقلاب لكن المحاولات لم تنجح….. كما تذكرت أيضاً ما قاله لي احد الشباب من السلفيين.. أن الثورة يجب ان تكون فكرية.. و التغيير يجب أن يكون فكريا لكي نعبد الله بشكل افضل… أما التغيير على الأرض و محاربة الفقر فيأتي فيما بعد… !!…
لا ادري أن كان هذا المفهوم هو الذي يقود الحياة لكني لاحظت شيئا لم أشاهده في زيارتي السابقة… اغلب الفتيات متحجبات و بدل الموسيقى فان اغلب المحال تذيع آيات القران بكل دائمي….مرة أخرى… لا ادري أن كان ذلك يؤشر الى مشروع حضاري انه مثل الاتجاهات الأخرى و منها الماركسية يعبر عن إحباط و عدم وضوح الأهداف و الرؤى… في المقابل ما يبدو اكثر وضوحا ان أخلاق الناس أصبحت أكثر مادية حتى في التعبير عن القيم الأخلاقية …!!..
نتمنى أن تعود تونس خضراء بل أكثر خضارا و ازدهارا مع حبي واحترامي للجميع