لم أكن متفائلاً بأن تجد المعارضة السورية حلاً سياسياً مقبولاً في جنيف، فالنظام الذي استدعى الاحتلالين الإيراني والروسي ليدمرا سوريا ويقتلا شعبها ويشردا إثني عشر مليون مواطن، لن يقبل بأي حل سياسي يزعزع بقاءه مستبداً يحتكر السلطة ويقبض أرواح شعبه.
وكنا في الهيئة العليا للمفاوضات التي تشكلت بعد مؤتمر الرياض قد استجبنا لدعوة الدول الداعمة لإيجاد حل سياسي للقضية السورية، وقد مثل المؤتمر أوسع شرائح المعارضة وضم إليه لأول مرة فصائل ثورية تمثل «الجيش الحر»، وأعلن المعارضون جميعاً سياسيين وعسكريين أنهم يقبلون بالحل السياسي ضمن خريطة الطريق التي رسمها قرار مجلس الأمن 2254 وقد نص القرار على ضرورة التمهيد للمفاوضات عبر مرحلة حسن النوايا وبناء الثقة وحدد ما ينبغي عمله قبل التفاوض بأنه «الوقف الفوري لقصف المدنيين، وإنهاء الحصار على المواقع المحاصرة التي يتعرض سكانها للموت جوعاً والسماح بإيصال المساعدات الغذائية والدوائية إليها، وإطلاق سراح المعتقلين ولاسيما النساء والأطفال». وعلى رغم ما تعرضت له هيئة التفاوض من محاولات إرغامها على تجاهل تنفيذ هذه الالتزامات التي حددها قرار مجلس الأمن وترحيل الحديث فيها إلى مرحلة التفاوض، فإن الهيئة أصرت على ألا تبدأ المفاوضات قبل الوفاء بهذه المرحلة التي نصت عليها البنود 12 و13 من القرار، وقد أرسلت إلى المبعوث الدولي رسالة تحمل هذا الإصرار فجاء جواب «ديمستورا»، مؤكداً حق المعارضة بمطالبها الإنسانية واعتبرها فوق التفاوض. ولكن تعنت النظام ورفضه للتنفيذ مع نصائح من بعض الدول الداعمة بإهمال الملف الإنساني، جعل هيئة التفاوض تستشعر عدم جدية المفاوضات، فالعاجزون عن إدخال مواد غذائية للمناطق المحاصرة وإنقاذ آلاف الأطفال والمسنين من الموت جوعاً سيكونون أكثر عجزاً حين يأتي الحديث عن هيئة حكم انتقالية! ولكن أصدقاءنا سرعان ما تدخلوا قبل أن تعلن الهيئة انسحابها ما لم تنفذ دول مجلس الأمن قرارها، وقدم جون كيري تعهداً بأن يتم تنفيذ ذلك مع الذهاب إلى جنيف، وكذلك فعل عدد من وزراء خارجية الدول الصديقة، وشجعوا المعارضة على الذهاب، وقلنا حسناً نذهب، ليرى العالم كله جديتنا في الإقدام على الحل السياسي، ولنختبر الإرادة الدولية ونكشف زيف سلوك النظام وإصراره على الحل العسكري.
وقد انتظرنا في جنيف أياماً بدأ خلالها التباحث مع «ديمستورا» حول آليات تنفيذ مرحلة ما قبل التفاوض، ولكن تصريحات وفد النظام جاءت ساخرة ومستهزئة بالعملية السياسية كلها، حيث أعلن رئيس الوفد أن لديهم في النظام «قرآناً غير قرآن المسلمين»! وأن سورة «الفاتحة» تقول «لا تفاوض»! وقد منح «آيته» إمعاناً في السخرية حين قال بعدها «صدق الله العظيم»!.. وقد كان هذا الاستخفاف بآيات القرآن الكريم والاعتداء على مشاعر المسلمين لتأكيد رفض التفاوض، كافياً لكي نفهم استحالة قبول النظام بشيء من قرار مجلس الأمن.. وبتنا نشعر بأن المجتمع الدولي يقف عاجزاً عن تنفيذ وعوده والوفاء بالتزاماته، على رغم ما نجده من سفرائه ووزرائه من تعاطف وإقرار بمشروعية مطالبنا، وبكونها مطالب قرار مجلس الأمن ذاته.
وقد كانت الجلسة الختامية مع «ديمستورا» أمس الأول مكاشفة صريحة وشفافة عبر فيها المبعوث الدولي عن عجزه أمام رفض النظام تنفيذ المطالب الإنسانية، وكان تصعيد الهجمات الروسية على المدن والقرى الروسية بمثابة الرد على مطالب الشعب السوري، ففي حين نطلب إنهاء الحصار على مضايا والمعضمية وداريا والغوطة ودير الزور وسواها من المناطق يبدأ الروس بحصار حلب، ودرعا، وتتصاعد أعداد الموتى من المدنيين تحت الأنقاض، ويكفي أن نذكر أن روسيا نفذت 215 طلعة جوية لقصف حلب وريفها في يوم واحد.
وأمام هذا الإعلان عن العجز الدولي والرضوخ العالمي للغطرسة الروسية كان لابد من أن نعلن وقف المفاوضات، وقد طلب «ديمستورا» ألا نعلن انسحاباً كي لا تقتل العملية السياسية، وقال إنه سيرفع الأمر إلى الأمين العام للأمم المتحدة وإلى مجلس الأمن وسيدعو المجموعة الدولية الداعمة لاجتماع يعرض فيه ما حدث.
لقد تعرضت سوريا لعدد ضخم من الغزوات الخارجية كان أخطرها في تاريخنا الغزو المغولي والغزو الصليبي، ولم تتمكن تلك القوى العظمى من قهر إرادة الشعب، وأتوقع أن تبدأ مرحلة جديدة هي الكفاح الشعبي المسلح للتخلص من الاحتلالين الإيراني والروسي، ومن طغيان حكومة الديكتاتورية والاستبداد.
*نقلاً عن “الاتحاد” الإماراتية