الصلاة والزكاة في القرآن الكريم توأم أو أختان، فلا يقول القرآن “الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ” إلا ويردفها “وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ”، فهما من ناحية الفرض والوجوب سيان، ولا يمكن التفريق بينهما. وقد فطن إلي ذلك الخليفة أبو بكر عندما أعلن الحرب على الذين رفضوا دفع الزكاة وقال لا أفرق بين الصلاة والزكاة.
وأطلق على هؤلاء في الكتابات الإسلامية اسم المرتدين. وكانوا فعلاً مرتدين، ولكن ليس ردة عقيدة لأن منهم من كان يؤمن بالله والرسول ويقيم الصلاة، ولكنهم رفضوا الزكاة، وكان هذا الرفض مبررًا ليستحقوا هذا الوصف الرهيب مرتدين.
وطوال عهد الرسول وعهد أبي بكر وعمر كان أخذ الزكاة ممن يتوفر لهم النصاب وإعطائها لمستحقيها فرض لا يختلف عن إقامة الصلاة.
ولكننا بعد فترة، خاصة عندما قلب معاوية بن أبي سفيان الخلافة إلى ملك عضوض، بدأنا نلمس ظاهرتين هما توثين الصلاة من ناحية وإغفال الزكاة من ناحية أخرى. ويمكن ربط علاقة جدلية عكسية بينهما، فبقدر ما يزداد الاهتمام بالصلاة بقدر ما يزداد إغفال الزكاة.
وانتهى الأمر بعدم قيام الدولة بتحصيل الزكاة، وبالطبع عدم توزيعها على مستحقيها.
في هذا الوقت وصل توثين الصلاة أن اعتبر من لا يؤديها كافراً. وكتبت المجلدات عن الصلاة بدءًا من الوضوء حتى التسليم. وأخذ ذلك من مسند الإمام أحمد بن حنبل سبعة أجزاء كبيرة كل جزء في أكثر من مائتي صفحة من كتاب “الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل”، بدءًا من الوضوء ثم أبواب أوقاتها والآذان والأوقات والمساجد والقبلة وحق الصلاة والركوع والسجود والقنوت والتشهد والأذكار بعد الصلاة وما يتصل بالصلاة وسجود السهو وصلاة الليل والوتر وصلاة التراويح وصلاة الضحى وصلاة الشكر والجمع بين الصلاتين وصلاة الجماعة وخروج الإنسان من المساجد والإمامة والمأمومين وموقف الإمام، ثم صلاة الجمعة وصلاة العيدين وصلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء.. الخ .
وبجانب هذا الإسهاب والتفصيل في أحكام الصلاة، كان هناك اتجاه مقرر يزداد جيلاً بعد جيل لتقديس الصلاة وضروراتها وأنها الفرض الذي لابد منه للإنسان حتى وهو مريض ولو كان يحتضر، إذ يستطيع أن يصلي برموش عينيه.
كما اعتبر تارك الصلاة كافراً إذا كان يعتقد عدم وجوبها، وفاسقاً يُعزّر (أي تفرض عليه عقوبة) إذا كان يتركها تكاسلاً أو إهمالاً. وقيل أنها هي العلامة بين الإيمان والكفر واستشهدوا بحديث “العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة”، وتناسوا أن ذلك إنما كان لأن الصلاة هي الشعيرة الجماعية الجهرية الوحيدة، بحيث يمكن التعرف عما إذا كان القوم مؤمنين. ومضت عملية التقديس حتى وصلت إلى مرحلة التوثين عندما قال الشيخ الشعراوي أن الطبيب إذا سمع إقامة الصلاة وكان يعمل عملية جراحية، فعليه أن يدع العملية الجراحية ويسرع للمشاركة في الصلاة. وقد أوردنا هذه الواقعة في الجزء الأول من كتابنا “نحو فقه جديد” وأوردنا اعتراضنا عليه.
ولا جدال في أن الصلاة فريضة مؤكدة ولها صفة خاصة. ولكن هذا لا يعني أن أهميتها تَجُب القواعد والمبادئ التي وضعها الإسلام للتشريع من اعتبارات خاصة بظروف الفرد وظروف المجتمع، وما أوجده من قواعد “المقاصة” أو التوبة أو الاستغفار، وأن الله يغفر الذنوب جميعًا إلا الشرك.
وفي الإسلام فروض أخري واجبة الإعمال كالجهاد، والزكاة، والصوم، والحج، فضلاً عن أن العبادات كلها إنما هي جزء من الإسلام، لأن الإسلام يتميز عن بقية الأديان بما وضعه من خطوط عريضة في الاقتصاد والسياسة والاجتماع وما تضمنه من قيم كالشجاعة والإخلاص والصدق والحرية والعدالة. وقد أدي اختزال الإسلام في العبادات لأن يكون الإسلام مرادفًا للصلاة، وأصبح السؤال الأول للتثبت من إسلام فرد ما “هل يصلي؟”، نقول إن هذا الاختزال في الوقت الذي أبقي علي الصلاة، فإنه أغفل فروضًا أخري قد يكون بعضها أهم من الصلاة.
والمشكلة في الصلاة هي أن الأمر المحقق معها هو شكله. فالناس تركع وتسجد وتتلوا القرآن أو تسبّح.. الخ، ولكن أن تنهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر، كما افترض القرآن ذلك، فهذا أمر لا يمكن التحقق منه وأغلب الظن أنه غير محقق بدليل التدهور العام في المجتمع الإسلامي الذي ما كان يحدث لو أمرت الصلاة المصلين وهم جمهرة المجتمع عن الفحشاء والمنكر.
والنتيجة أن اختزال الإسلام في الصلاة جعل من الممكن التضحية بالاتفاق والصدق، والسماحة، والعدل، وكلها فضائل يمكن التثبت منها، في حين أن هذا لا يمكن في الصلاة.
بل إن ذلك جعل من الممكن إغفال الزكاة.
وهنا نأتي إلي القسم الثاني من هذه الكلمة أن الملك العضوض لم يجد مما يجديه أن يطبق الزكاة لأن ما سيؤخذ من مال الأغنياء سيئول إلي الفقراء، وهذا أمر لا يهم الملك العضوض. فرأى أن يغض النظر عن الزكاة ووجوبها بنص القرآن حتى يستطيع أن يثقل الناس بالضرائب التي ستصب في خانته، ولم يستطع الفقهاء أن يعترضوا.
ونحن لا نجد توثيقًا للزكاة في أعمال الدولة الإسلامية من أواخر الدولة الأموية حتى نهاية الخلافة.
فقد المجتمع الإسلامي الزكاة، فانعدمت بذلك الخدمات والتأمينات والضمان الاجتماعي والتكافل الاقتصادي، وهي عناصر تعد ضرورية لكل مجتمع سليم، وأصبح جمهرة الشعب يعانون الفقر المدقع ويروحون ضحايا للمرض أو الحوادث. ولولا أن عددًا كبيرًا من أفراد المجتمع آمن بالزكاة، وأصبح يقدمها بطريقته الخاصة للمحتاجين والمعوزين الذين يعرفهم لهوي المجتمع الإسلامي وتحلل.
إن توثين الصلاة وإغفال الزكاة كانا أشبه بحدي مقص. فتوثين الصلاة أفقد الدين روحه ومعنوياته وإغفال الزكاة أفقد المجتمع تماسكه الاقتصادي.
المطلوب الآن أمران:
الأول: وضع الصلاة موضعها، كفريضة هامة ومتميزة، ولكن لا توثن ولا تجب الفرائض الأخرى، ولا تختزل الإسلام، كما أن من يقصر فيها لا يعد خارجًا من الملة، وإنما شأنه شأن التقصير في بقية العبادات، بمعني أن عليه أن يؤدي من الحسنات وأن يستغفر الله، والله تعالي عليم به، ورحمته وسعت كل شيء، ويجب أن يعلم أن هناك من فرائض الإسلام ما يعدلها، وما يفوقها في كثير من الحالات.
الثاني: أن تؤخذ الزكاة مأخذًا جادًا، وأن ينتهي هذا الموقف المتخاذل المستسلم، الذي يقبل أن تهدر فريضة هي كما قلنا أخت الصلاة وتوأمتها فتوثن الأولي وتهدر الثانية. هل نجد في هذا العصر أبا بكر جديد “يعلنها حربًا علي النظم المرتدة التي لا توجب الزكاة”؟ ثم بعد هذا توضع لها الترتيبات التي تكفل تحصيلها ثم تكفل إنفاقها في مصارفها وهي بالاختصار كل حالات المرض والبطالة والعوز وكفالة الاحتياجات الأخرى. ومن الضروري أن يجري التطوير اللازم الذي يتلاءم مع ظروف الحياة، وأن لا نأخذ بما ذهبوا إليه في تحديد النصاب أو طريقة التطبيق. فالزكاة واجبة علي كل فرد يجاوز المستوي الاقتصادي الذي تحدده الدولة، تبعًا لاختلاف الأوضاع الاقتصادية، والذي يحقق الحياة الكريمة، من دخل وما يبقي بعد ذلك من مال وأملاك.. الخ، بعد ذلك تؤخذ عليه الزكاة.
وتفاصيل هذا هو مما يضيق به مجال مقال وما يستحق كتابًا.
نقلا عن جريدة الراية القطريةجمال البنا – مفكر حر