لطالما خطر لك أن حكاما سارعوا، قبل أي شيء آخر، لمحو التاريخ، من أجل أن نتذكرهم وحدهم. لا. هناك سبب أكثر عجلة وإلحاحاً: أن يزيلوا إمكانية المقارنة. كلما قرأت شيئاً عن تاريخ ما قبل النظام العربي، أدركت أن فطنة النظام الأولى كانت في إلغاء الماضي وإزالة جميع الشواهد.
مثل كل تاريخ في العالم، مثل كل تواريخ البشر، لم يكن تاريخ ما قبل النظام العربي نقيّاً كلّه. كان فيه ضعف وثغرات ونواقص. لكن لم يكن كله ثغرات وأخطاء وكوارث. ألغى النظام العربي قواعد القياس والمعايير وأزال علاماتها. لم تعد أصول الحكم في ما هو مطلوب أو مفروض أو مُفترض، بل في ما هو معروض أو مكبّر.
كلما تهاوت البلدان أمامنا وتداعت سُبل البناء وسُدت طرق المستقبل بالانهيارات، أقول في نفسي: ماذا لو قدِّر لنا أن نطوِّر الدولة العربية الماضية بدل أن نترك للفلتان «إبادتها»؟ ماذا لو بقي في مفهوم الدولة والناس أن على السياسي أن يتحلّى بشيء من سعد زغلول ومصطفى كامل وأشياء من مصطفى النحاس وطلعت حرب؟ وماذا لو ظل البرلمان السوري ينتخب رجالاً في سلوك وأخلاق شكري القوتلي؟ وماذا لو بقي في العراق حكم يحاول أن يجمع بين شتى الاتجاهات ضمن الدولة، لا في السجون؟ وماذا لو لم يخرج ذلك الملازم من ثكنة بنغازي وعلى جانبي صدره مشكال من الأوسمة، حاملاً بين يديه عصا من الذهب المرصَّع، معلقاً على قبَّعته خريطة أفريقيا، خاطباً في الناس أن يهاجروا إلى السودان لأنه لا عمل في ليبيا؟
ماذا لو بقيت الدولة العربية في أيدي أناس مثل شعوبهم، بشر عاديين لا يؤلَّهون ولا يُعبدون ولا يَسجد لهم طلاب المدارس مثل السجون للزعيم المبجل في دولة الرعب والصمت والموت ومذيعة التلفزيون التي تولول وتنتحب وهي تعلن انقضاء أجل الزعيم؟
تحاكم مصر رئيسين، هي التي كانت تخشى الشعراء فترسلهم إلى المنفى المريح، سواء أحمد شوقي أو بيرم التونسي. وسوريا أبقت الرؤساء السابقين في السجن حتى الموت، لا رحمة ولا شفاعة. والعراق ذبح وقصَّب وسار بالجثث فوق جثث أناس لم يعرف عنهم جريمة سياسية واحدة.
لماذا انقلبنا عليهم ورمَّدنا كل ما سبق من تاريخ؟ لأن السابقين يشعروننا بالخجل من أنفسنا. كان يمكن أن يوصلنا تطوير الدولة الماضية إلى دول سوية وشعوب غير مقهورة وأوطان غير مفتتة. من كان منكم ضعيف التحمُّل، فلا يقرأ كتب التاريخ. كلها مؤلمة.
منقول عن الشرق الاوسط