تقريظ نسيم يوسف داود: يهودي عربي في عالم الإسلام

farhodiraqاميل كوهين

معظم المترجمين هم أبطال مجهولون. فإذا كانت ترجمة عمل أدبي أو قصيدة سيئة يلقى اللوم على المترجم لعدم التقاطه المعنى الذي يرمي إليه الكاتب، وإذا كانت ترجمة العمل جيدة يُمجد الكاتب ويُنسى المترجم. لم يكن الأمر كذلك في حالة نسيم داود؛ فاسمه معروف جيداً ارتباطاً بترجماته من الأدب العربي الكلاسيكي للقرون الوسطى إلى اللغة الإنجليزية، لأنه كان قادراً على التقاط المعنى، وروايته بلغة إنجليزية معاصرة مع الحفاظ على النكهة المميزة والإيقاع الأصلي.

ولد نسيم يوسف داود في بغداد، العراق في عام 1927 من عائلة من الطبقة المتوسطة. كان والده تاجراً، وكانت والدته متحدثة جيدة باللغة الإنجليزية وتعلّم اللغة منها، بحيث أنه عندما بلغ من العمر 12 عاماً كان قادراً على إعطاء الدروس للطلاب الأكبر سناً. طور بقوة تعلقه باللغة الإنجليزية بالإضافة إلى اللغة العربية وانجذابه للكُتاب باللغة الإنجليزية. أصيب بشلل الأطفال في سن مبكرة لكن ذلك زاد من تصميمه على التفوق أكثر من ذي قبل.
وقبل بلوغه سن 18 بدأ الكتابة في الصحف المحلية وانتبه إليه كامل الجادرجي، وهو زعيم حزب سياسي، وشخصية ديموقراطية وليبرالية يحظى باحترام كبير في العراق وصاحب صحيفة الأهالي ذات النفوذ الواسع والشعبية الكبيرة. أُعجب الجادرجي بهذا الرجل اليساري الشاب، وبين الحين والآخر، كان يكلفه بترجمة بعض المواد باللغة الإنجليزية لصحيفته عندما لم يكن نسيم قد بلغ الثامنة عشر بعد. وفي وقت لاحق أصبح مدرساً للغة الانجليزية لابنه رفعة الذي أصبح فيما بعد مهندساً معمارياً مشهوراً ومفكراً حراً.
رشحت الدولة العراقية نسيم لمنحة دراسية للدراسة في انجلترا والتي، في ذلك الوقت، لم تكن تمنح في ذلك الوقت إلا إلى الطلاب الواعدين المتفوقين، ونادراً ما كانت تمنح لدراسة مواضيع غير علمية، والأكثر ندرة لطالب يهودي يُبعث للدراسة في انكلترا. وللحصول على المنحة كان بحاجة الى كفيل، وبطبيعة الحال، لم يخيب السيد الجادرجي أمله.
وهكذا غادر نسيم داود العراق في عام 1945 لدراسة الأدب الإنجليزي واللغة العربية في جامعة لندن، وأراد المضي قدما لدراسة الدكتوراه ولكن زواجه في عام 1949 وضع حداً لطموحاته إذ كان عليه إعانة أسرته. عمل مدرساً وصحفياً وفي نفس الوقت كانت تدور في ذهنه فكرة ترجمة شكسبير إلى اللغة العربية. بيد أنه، بعد حضور محاضرة إي في ريو
(E.V. Rieu)،
مؤسس سلسلة بنگوين الكلاسيكية
(Penguin Classics)
ومترجم هوميروس، تأثر به جداً وغيّر مساره. أكد ريو في محاضرته أن المترجم يجب أن يسعى إلى أن يكون كاتباً جيداً وليس فقط مترجماً دقيقاً. أرسل له نسيم ترجمته لمقدمة ألف ليلة وليلة. فأرسل له ريو عقداً للنشر، وتم نشر الكتاب من قبل دار بنگوين عام 1954.

أحبَّ ريو الأسلوب المعاصر والسلاسة في اللغة الإنجليزية لدى نسيم داود على عكس الترجمات السابقة التي تمت بأساليب قديمة. وفي وقت لاحق من ذلك العام قام بنشر المزيد من الكتب مثل سندباد وحكايات أخرى والعديد من كتب الأطفال التي كانت سلسلة جداً بحيث ان نصوصها اقتبست لتذاع في هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي). وسرعان ما اكتسب شهرة كمترجم مختص بالكتابات الكلاسيكية العربية.
في عام 1956، اتصل بريو عارضاً عليه ترجمة القرآن. لم يكن ريو متحمساً للفكرة إذ انه كان يعتقد أن قلة من القراء في أوروبا ستكون مهتمة بها، لكنه وافق بشرط أن لا تكون الترجمة مسايرة للنمط القديم السابق. وهكذا بدأ داود بإنتاج نسخة قابلة للقراءة باللغة الإنجليزية المعاصرة. كان أسلوبه في استخدام المصطلحات يهدف الى ابراز الجمال الشعري والخطاب البليغ للأصل العربي. وأصبحت هذه الترجمة تحفة في مجالها، ونشرت لأول مرة في عام 1956 وصارت تخضع بانتظام للمراجعة والتعديل في ضوء دراسته المستمرة لأسلوب ولغة القرآن، وأصبحت أقرب إلى الأصل حسب ما تسمح به مصطلحات واستعمالات اللغة الإنجليزية. أجرى داود 9 تنقيحات رئيسية على النص المترجم، وأعيد طبعه سبعين مرة، وكان آخر مراجعة للنص في مايو/أيار 2014. كان عدد صفحات الطبعة الأولى 432 صفحة، وعدد صفحات أخر طبعة 612 صفحة.
انتشرت ترجمة داود للقرآن في جميع أنحاء العالم العربي وأوروبا وأمريكا. وكان تأثيرها كبيراً، وتعتبر الأكثر موثوقية في تقديم النص بالإنجليزية. يعتقد المسلمون أن القرآن هو كلمة الله المعصومة وتحفة أدبية ولذلك فإن الترجمة كي تكون مقبولة يجب أن تكون دقيقة.
أود هنا أن أقتبس الآيات الافتتاحية للقرآن الكريم، كما ترجم من قبل نسيم داود، وهي المعروفة بسورة الفاتحة:

“In The Name of God, the Merciful, the Compassionate
Praise be to God, Lord of the Universe,
The Merciful, the Compassionate,
Sovereign of the Day of Judgement!
You alone we worship, and to you alone
We turn for help
Guide us to the straight path,
The path of those whom You have favoured
Not of those who have provoked Your ire
Nor of those who have lost their way.”

“بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ.”

ان الترجمة بسيطة، سلسة، معاصرة وتستخدم المصطلحات الشائعة في اللغة الإنجليزية. يدعي البعض أن ترجمة نسيم داود للقرآن الكريم كان عاملا مساعداً لاعتناق الإسلام من قبل بعض الأجانب في العالم الغربي وساعد كذلك في توثيق الدين الإسلامي لدى أبناء المهاجرين المسلمين، ممن لا يعرفون اللغة العربية، من خلال تسهيل فهم النص القرآني بالإنجليزية.
في عام 1958 أسس نسيم داود شركته التجارية الخاصة لتقديم خدمات الترجمة

(The Arabic Advertising & Publishing Company)

، الشركة العربية للإعلان والنشر (أصبح اسمها لاحقاً أرادكو في إس آي

Aradco VSI).

وقتها أصبح الشرق الأوسط سوقاً جديدة للمنتجات والخدمات الغربية، واستثمر داود مهاراته في ترجمة مستنسخات الدعاية والمطبوعات الأخرى لمجموعة واسعة من المنتجات الاستهلاكية، بما في ذلك الشاي، والمواد الصيدلانية والسيارات والمعدات الدفاعية. وامتدت مهاراته في صياغة الملصقات الإعلانية ووضع أسماء للمنتجات مثل شاي ليبتون، وفاصوليا هاينز، صابون لوكس، والسجائر. كما أنه ابتكر رسم الحروف للعديد من الأوراق النقدية والطوابع البريدية والعلامات التجارية في العالم العربي. بالنسبة لبعض المنتجات، فإن اللغة العربية، كلغة قديمة، لم تمتلك المفردات اللازمة المقابلة لهذه المنتجات، ولعب داود دوراً رئيسياً في تقريب اللغة العربية للتوائم مع العالم الحديث، من خلال نحت كلمات جديدة والمساهمة في وضع القواميس المتخصصة.

كانت حماسته للغة العربية يقابلها حبه لشكسبير والمسرح. قرأ تاجر البندقية عندما كان صبياً في بغداد مستخدماً القاموس للبحث عن معاني معظم الكلمات. ولكن، إبان نضوجه، عندما تحسنت حالته المالية، اشترى كوخاً قرب مدينة ستراتفورد أبون آفون ليكون قريباً من مسرح شكسبير الملكي. أنتج داود العديد من الكتب، وكان كاتباً متحمساً في كتابة الرسائل إلى صحيفة تايمز، وكتب العديد من مراجعات الكتب. وقد قرأتُ له رسالة جميلة في تأبين زميل مترجم وكاتب من أيام شبابه في صحيفة الأهالي، نعيم طويق.

وافته المنية يوم 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2014 مخلفاً زوجة وثلاثة أبناء مع تركة من الترجمات ستظل محفوظة في ذاكرة القراء. ومع ذلك، فإنه سيُعرف دائماً باليهودي العراقي الذي ترجم القرآن الكريم. بطلٌ يُشادُ به لليهود والمسلمين معاً.
ترجمة مصباح كمال

ولد اميل كوهين في البصرة في العراق عام 1943. بعد انهاء دراسته في بغداد، أُرسل إلى المملكة المتحدة لدراسة الهندسة عام 1959. في عام 1964، وبعد تغيير النظام في العراق، تم تجريده من جنسيته ومواطنته العراقية. في السنوات القليلة الماضية أخذ يعاني من تجربة الحنين إلى جذوره، وهكذا بدأ البحث في تاريخ اليهود العراقيين. شارك في تنظيم الحفلات الموسيقية العراقية، وفي عدد من البرامج التلفزيونية حول اليهود العرب في البي بي سي والمحطات الإخبارية العربية.

عنوانه الإلكتروني:
Emile.Cohen100@gmail.com

المصدر ايلاف

This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.