غالبية العرب والمسلمين لا يقرون للغرب بتفوقه الحضاري. هم يقرون له بتفوقه التكنولوجي أو المادي، لكنهم ينكرون أنه حقق أي تقدم أو تفوق ثقافي وأخلاقي. هناك تجاهل، متعمد في جانب منه وعفوي في جانب آخر، للمنجز السياسي والقانوني الغربي، أو تبخيسه بالإشارة إلى ما يبدو لهم أنه تناقضات تنسف هذا المنجز من أساسه. يبدو هذا واضحاً في الاعتراف بالقدرات الصناعية الهائلة للغرب، وفي الوقت نفسه بوصف هذا الغرب بالانحلال الثقافي وانعدام الانضباط الأخلاقي لديه. معظم التيارات والمدارس الفكرية في العالم العربي تلتقي حول هذه النتيجة، وإن اختلفت في ما بينها في تبريرها وتوصيفاتها وتفاصيلها. لم يسأل أحد نفسه هذا السؤال: هل يمكن لثقافة منحلّة وغير منضبطة أخلاقياً أن تكون أساساً لقدرات صناعية هائلة؟ ربما لهذا السبب تكشف الأيام بأن الموقف العربي الإسلامي من الغرب فادح في رؤيته، ومسوغاته، وفي نتائجه. هو موقف يكشف استمرار ارتهان الرؤية العربية الإسلامية (ربما باستثناء ماليزيا وإندونيسيا) لماض لم يعد من الممكن إعادة صياغته إلا بشكل مدمر. لكنه فادح بما هو أخطر من ذلك، لأنه يعبّر عن عجز وانسداد حضاري أكثر منه تعبيراً عن موقف سياسي متماسك، أو رؤية حضارية، أو مشروع حضاري بديل. والأكثر دلالة على تهافت وفداحة هذه الرؤية أنك تجد البعثي والناصري والسني والشيعي والمسيحي، والسلفي والإخواني، والقومي واليساري، كل هؤلاء يلتقون عند هجاء الغرب، والاستهزاء بتهافته الأخلاقي، وتحقير منجزاته السياسية، أو تجاهلها تماماً. وهذا فادح في كلفته لأنه ليس تعبيراً عن إجماع حقيقي، بقدر ما أنه تسابق على ممارسة انتهازية فارغة ليس لها مضمون سياسي، وتفتقر لأدنى صدقية أخلاقية.
هذا تحديداً ما يجمع على سبيل المثال لا الحصر المرشد الإيراني علي خامنئي، وزعيم تنظيم ما يسمى بالدولة الإسلامية (داعش) أبوبكر البغدادي، والأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني حسن نصرالله، وزعيم «جبهة النصرة» أبو محمد الجولاني، ورئيس تكتل التغيير والإصلاح اللبناني ميشال عون، والرئيس السوري بشار الأسد الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي (فرع سورية). كان ينتظم مع هؤلاء في التيار نفسه كثر معظمهم رحل عن دنيانا مثل صدام حسين، وحافظ الأسد، وعبدالناصر، وعبدالكريم قاسم، وعبدالسلام عارف، وغيرهم كثيرون. كما يجتمع معهم أيضاً مشايخ سلفيون وإخوانيون، ومن مختلف المدارس والمشارب. وقد انضم إليهم أخيراً زعيم الحوثيين عبدالملك الحوثي. واللافت الآن، ومما له دلالة أن كثيراً من هؤلاء حيث يجتمعون حول انتهازية فجة، يختلفون في كل شيء آخر. يتصادمون ويتقاتلون بشكل دموي بشع في ميادين حروب دينية في العراق وسورية، من منطلقات طائفية لا يخجلون من إعلانها ورفع راياتها.
أعد النظر، وتأمل معي المشهد الذي يمتد عمره الآن لأكثر من قرن من الزمن: زعماء سياسيون، ورجال دين، ومثقفون، ومدارس فكرية وإعلامية، وفنية، ودينية، يمتهنون هجاء الغرب، وتبخيس تفوقه الحضاري، لا ليقدمون بديلاً، وإنما لينتهي بهم الأمر دائماً وأبداً إما إلى اقتتال وحروب بينهم، أو تبرير لمعارك وحروب لا تنتهي. قد يبدو غريباً أن ما يشبه الإجماع هذا على هجاء الغرب وتبخيس إنجازه الحضاري لم يعزز في يوم ما ما يسميه هؤلاء «وحدة الصف» (العربي والإسلامي). بل كان ولا زال يزيد من تمزيق هذا الصف وتبديده، ويزيد دائماً، ياللمفارقة، من مسوغات الحروب والاقتتال بين أطرافه التي لا تمل من الهجاء في الوقت نفسه. كلما زاد الهجاء وارتفعت وتيرته، زادت الخلافات، والانقسامات وارتفعت وتيرتها أيضاً. والأغرب أنه كلما زاد الهجاء تكاثرت أسباب ومبررات الحروب بين الهجائين أنفسهم. ماذا يعني هذا؟ قبل الإجابة، وتمهيداً لها سجل الملاحظات الثلاث التالية: الأولى أن الربيع العربي وصل (لا يمكن القول بأنه انتهى بعد) في معظم بلدانه إلى خريف، بل وشتاء قارس وقاتل. بما وصل إليه تبين لكثيرين أن الربيع مناسبة للعودة، مرة أخرى، إلى المؤامرة، وسيناريوات تقسيم المنطقة. كأن هذه المنطقة إناء من الشوكولاته، أو الفاكهة تنتظر دائماً من يقتسمها ويوزعها من الخارج. هل كان معمر القذافي شريكاً في مؤامرة التقسيم المتوقع في ليبيا؟ وهل الرئيس بشار الأسد شريك أيضاً في تقسيم سورية الفعلي حالياً؟ هل علي عبدالله صالح وعبدالملك الحوثي شريكان في مؤامرة لتقسيم اليمن؟ لن تجد إجابة عند أتباع نظرية المؤامرة. ليس لأنه ليس هناك إجابة، وإنما لأن هؤلاء، مثل الهجائين، مشغولون بتوجيه تهمة المؤامرة للغرب. المؤامرة مريحة تعفي من صداعات التحليل، ومن آلام مواجهة الذات، وتحمل المسؤولية.
الملاحظة الثانية أن الأكثر التزاماً والأرفع صوتاً في هجاء الغرب وتبخيسه ومقاومته، هو الأكثر تخلفاً سياسياً، والأكثر طائفية، والأكثر توحشاً ودموية ضد العرب والمسلمين، وتحديداً ضد الشعب الذي ينتمي إليه ويحكمه. لندع «داعش» جانباً لأنه يقدم نفسه بنفسه. هناك نموذج أقدم من «داعش»، مثل القدوة للأخير وهيأ له البيئة. هو النموذج الذي اجتمعت فيه دائماً صفات الهجاء والطائفية والتوحش. هو النظام السوري. كان ولا يزال أكثر ما يتميز به هذا النظام منذ 1963 هو تلازم التوحش والدموية مع هجاء الغرب، وادعاء مقاومته. ليس مفاجئاً والحال كذلك أن رئيسه الحالي قاد سورية إلى أسوأ وأبشع حرب أهلية في تاريخها. وبعد مقتل أكثر من 300 ألف، وتشريد أكثر من نصف سكان سورية، يملك الرئيس بشار الأسد صفاقة ادعاء أنه يحارب الإرهاب. في السياق نفسه تجد أن «حزب الله»، وهو الأكثر ادعاء للمقاومة ورفع شعاراتها، الأكثر ولوغاً في الدم العربي الإسلامي في لبنان وسورية والعراق، ويحاول فعل الشيء ذاته في البحرين واليمن. من الذي يعمل على تقسيم سورية في هذه الحالة؟ هل هم الروس؟ الأميركيون؟ الاتحاد الأوروبي؟ السعودية وقطر وتركيا؟ أم الإيرانيون وميليشياتهم الشيعية؟ أم قيادة النظام نفسه وحلفائها في الداخل والخارج؟
الملاحظة الثالثة أن الغالبية الساحقة من المهاجرين العرب الذين يفرون من مآسي الحروب الأهلية العربية لا يذهبون إلى دول عربية، ولا إلى إيران. هل تتصور إمكان ذهاب لاجئين سوريين إلى إيران، خصوصاً وأن معظمهم سنة وليسوا شيعة؟ بالمعنى ذاته هل تتصور أن لاجئين شيعة من العراق، أو علويين من سورية سيذهبون إلى الأردن أو السعودية؟ عندما ذهب بعض اللاجئين إلى الأردن ولبنان انتهى بهم الأمر إلى أن أصبحت حالتهم مضرباً للمثل في سوء الاستقبال والإسكان وتقديم الخدمات، وحفظ الكرامات والحقوق. وهذا على رغم أن العرب هم أكثر من يتحدث عن الكرامة، وليس عن الحقوق، وعلى رغم هيمنة حزب «المقاومة والممانعة» الأول في لبنان، الذي وجد مناصروه لجوءاً كريماً في سورية عام 2006. ترى ماذا تقول مفارقة (بحسب منطق الهجاء العربي الإسلامي) أن اللاجئين السوريين في تركيا، وأوروبا أو الولايات المتحدة الأميركية، هم الأفضل حالاً بكثير؟
تكشف هذه الملاحظات بوضوح أن هجاء الغرب، وتبخيس تفوقه إنما هو هرب من الواقع، وتبرير مزر للذات وعدم القدرة على صناعة النجاح. هو تبرير للتزمت والانغلاق الديني، وتبرير للطائفية، وقبل ذلك وبعده للاستبداد. تحول الهجاء، والتبخيس مع الزمن إلى آلية سياسية وآيديولوجية لإعادة إنتاج ثقافة بالية عفى عليها الزمن، يستند إليها الاستبداد وتعتاش منها الطائفية، حليفة الاستبداد. ما ليس واضحاً بعد أن هجاء الغرب، وتبخيس تفوقه تحول بذاته إلى عقدة حضارية باتت مع الزمن عقبة كأداء في وجه العرب أنفسهم. كيف ذلك؟ محاولة الإجابة هي موضوع الأسبوع المقبل.
*نقلاً عن “الحياة”