الشرق الاوسط
هذا العام جاء دوري في التكريم السنوي الذي تقيمه نقابة الصحافة اللبنانية لمن مضى عليهم أكثر من 50 عاما في المهنة. تغيبت عن الحضور والمشاركة. لم أحب أن أراهم في مكان واحد وصورة تذكارية واحدة، أولئك الشبان الذين كانوا يمضون الليل وراء المكتب، وبعد انقضائه يذهبون للمسامرة في مقهى «الدولتشي فيتا» على الروشة، ومن هناك يتجهون إلى مرابع الزيتونة حيث صداقات آخر.. آخر الليل في الانتظار!
لم أرد أن أصافح كل هذا العدد من الذكريات التي ابيض شعرها وذابت شموعها وتقف اليوم، مثلي، في متاهة التأمل، فترى الماضي بعيدا والحاضر أليما والمستقبل بلا أحلام. هذه مهنة يدعي أهلها التعب ولا يتعبون، والعلاقة مع القلم تتحول إلى علاقة مع الحياة. بعد رفقة قصيرة يصير هو الذي يملكك. خصبه من خصبك ومتانته من عودك. ودائما تخافه: إياك أن تكبو. وقفنا معا ونسقط معا.
عرفت على مدى نصف قرن وجوها كثيرة من أسياد هذه المهنة الذين عاشوا عبيدا لها، لم يحررهم سوى الغياب. ظل سعيد فريحة يملأ «الجعبة» حتى نفد الحبر والورق وحب الحياة. وظل غسان تويني لماعا براقا ومشعا حتى خانته قدرة الكلام. وكان رشدي معلوف (والد أمين) أستاذا من دون أستذة، وخلقا كبيرا كان.
لا تحص أسماء الذين زاملتهم تحت سقف واحد ولا أريد أن أظلم نفسي بإغفال أحد منهم، لكنها خمسون عاما تنقلت خلالها في صحف لبنان وصحف العرب وديار الله بمشارقها ومغاربها. فتحت لي هذه المهنة أبواب الكبار والمشاهير والنجوم. وعرفتني إلى الشعراء والأدباء والرسامين. وفتحت أمامي دفات آلاف الكتب. وربما أكثر. فعندما أُسأل كم كتابا قرأت؟ أعتذر عن الإجابة، لأن أي رقم قد يكون متواضعا أو متكبرا.
دخل هذه المهنة كثيرون وخرج منها كثيرون وظلت قاعدة النجاح واحدة: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه». البعض تقدم، البعض بقي حيث هو، والبعض انصرف سريعا ليبحث عن مهنة أكثر استقرارا. البعض دخل السجون والبعض تخلى عن الحياة في سبيل الحرية.
كانت الصحافة ركنا من أركان لبنان. أساء إليها كما أساء استخدامها بعض منتحلي الصفة، لكنها ظلت جزءا من سمعته وأحيانا من جمالياته. ومنها خرج كثيرون ليساهموا في إنشاء الصحافة العربية في الخارج. ومنها مجتهدون مجهولون لا نعرف عنهم إلا بعد مضي نصف قرن على رحلة السهر والتعب. وشكرا وتحية إلى النقيب محمد البعلبكي.