غريبٌ أن أجدادنا ذوي الدماء المختلطة، بفعل الغزو و موجات الهجرة و الرغبات الجانبية، استطاعوا أن ينتجوا خصائص متشابهة، لكن، لسبب ما، علي الدوام، كانت نادرة هي الوجوه التي تلتقطها الأعماق بمجرد أن تلمسها العيون، و بلا شروط، وجه ” سعيد صالح “، بلا جدال، يأتي في مقدمة تلك الوجوه ..
ثمة تفاصيل في ملامح وجهه تُلحِق بكل من يراه خليطاً من الارتياح و الألفة، تفاصيل هزليٌّة تزخر بالبراءة، يستطيع معها كل إنسان أن يقف علي الجذور الحقيقية لأدق مشاعره ..
ربما، لذلك، استطاع، منذ بداياته، ليس أن يمرَّ فحسب، بل أن ينسحب في نعومة الحرير مباشرة إلي يمين القلوب، ويبني بها أعشاشه كواحد من أعظم فناني الكوميديا و صناع البهجة في تاريخ الفن العربي، بل الأعظم في هذا السياق علي الإطلاق، و لا أستثني أحدا ..
و ليس يوم ” سعيد صالح ” بواحدٍ من قلم نزف فيه هذه الشهادة، فهذه الشهادة تتحد بشهادة فيه لأحد الساخرين العظام، و أحد الذين لمسوه من مسافة قريبة في الوقت نفسه، لذلك، هو يستطيع، بوصفه ساخراً قبل كل شئ، أن يصطاد كل أبعاد شخصيته في حرارتها المجردة دون أن يضيع وقتاً للتنظير لها، إنه الأستاذ ” محمود السعدني ” ، لقد قال عنه في كتابه ” المضحكون ” :
( يأتي بعد ذلك ” سعيد صالح ” في المقدمة من شلة العيال، و هو أخفهم دماً، بل هو أخف دم مضحك على الإطلاق، و هو قادر على إضحاك الطوب بحركته أو بلغته أو بإشارة من إصبعه الصغيرة، ثم هو، لأنه نجا بمعجزة من عملية حشو الرأس بشعارات المثقفين، ودعاوى الأدعياء، و لأنه نبتٌ شيطانيٌّ فهو ابن الطبيعة، و هو ممثل لأنه خُلق ليحترف هذه المهنة، و هو يشترك مع ” علي الكسار ” في ميزة هامة لأنه لا يعتمد التمثيل، و لكنه يتحرك على المسرح كما يتحرك في الشارع، ويتكلم بين شلة من الأصدقاء المقربين ) ..
هذا الكلام أصدق ما يمكن أن يقال في ” سعيد صالح ” أو عنه أو حوله، فهو أبداً لم يكن ممثلاً، إنما كان كما قال ” السعدني ” : يتحرك علي المسرح، و أضيف، و أمام الكاميرا، كما يتحرك في الشارع، و يتكلم بين شلة من الأصدقاء المقربين، فيقلق قوانين المكان، و هذه هي ذروة النقطة في موهبة كل فنان، و هذا هو مكمن جمال ” سعيد صالح “، أيضاً، للأسف، هذا هو مكمن انحراف نجمه عن مكانه الطبيعيِّ في سماء الفن الشاهقة إلي سماء متوسطة، أو فلنقل، مزدحمة بالنجوم الشاحبة علي الأقل!
أمام تلك القدرة علي تفجير السخرية بأدوات بسيطة، ليترك المتلقي مشحوناً بالبهجة لساعات طويلة، و تلك القدرة علي مضغ المرارات، لا مفر من أن تحب “سعيد صالح “!
لا مفر أيضاً من أن تأسف لضمور نجمه، و للتعاسة التي كان يمرُّ منحنياً تحت أقواسها منذ سنين طويلة..
لا مفر، أخيراً، من أن تتذكر ” سعيد صالح ” دون أن يطرأ عليك من كل جانب ” عادل امام “، و أن تستنكر ذلك الفارق الرهيب في العقود الأخيرة بين شحوب نجم ” سعيد ” و بريق نجم ” عادل امام ” علي الرغم من أن هذا الفارق كان في البداية يصب في صالح ” سعيد صالح “، و أن تتسائل : لماذا و كيف و متي حدثت هذه الفجوة ؟
و هنا، لابد أن نلمس بعمق البعد الرئيسي، و الوحيد، من أبعاد شخصية ” سعيد صالح”، ” سعيد صالح ” الإنسان، فلا أعتقد أن الممثل ” سعيد صالح ” يمثل بعداً من أبعاد شخصيته، ربما، لهذا السبب وحده، كان ضمور نجمه ارتكاب نفسه لا ارتكاب الآخرين، و خطيئة طيبته، بل سذاجته علي الأرجح ..
ربما، لا يعرف الكثيرون أن ” عادل امام ” الذي لم يحضر، لسبب ما، تشييع جثمان ” سعيد صالح “، كان في جلسات العمل الأولية للمسرحية الحدث ” مدرسة المشاغبين “، مرشحاً لدور ” مرسي الزناتي “، لكن، حدث، بناءاً علي طلب من ذكاء ” عادل امام ” لصديقه، أن تنازل له ” سعيد صالح “، عن طيب خاطر، عن دور ” بهجت الأباصيري “، و هنا، كانت البداية الحقيقية للفجوة التي الآن بينهما، و التي اتسعت فيما بعد بعصبية شديدة ..
أيُّ كلام تريدون مني بعد ذلك عن نقاء ” سعيد صالح ” و بياضه؟
لقد طُبِعَ ” سعيد صالح ” علي عدم الهوس برأي الآخرين فيه، و لم يكن يقيم وزناً للعلاقات الاجتماعية التي تمتص قدرا لا يستهان به من التفكير والطاقة، و كان من الممكن أن نغفر له هذا الطبع لولا أنه بذَّر في ظلال الكسل كل الأوقات التي ادخرها من المساحة المفترضة للعلاقات الاجتماعية، لذلك، لم أستغرب وداعه غير اللائق و عزوف زملائه، أو لأكون أقل حدة، عدم اكتراثهم لتشييع جثمانه إلي حفرته الأخيرة !
لم يدرك فقيدنا الممتاز أبداً أن عدم الهوس برأي الآخرين فيه، و أن اللا مبالاة بالعلاقات الاجتماعية طبعٌ يليق بأي صاحب مسار ما عدا الفنان، و أزعم أنه لو فطن إلي هذه البديهية ما كان شئ ليكبحه عن التحليق في مطلق أشد بريقاً من مطلق رفيق دربه و الخشبة، ” عادل امام ” !
من الجدير بالذكر أن الأخير استوعب هذه البديهية منذ البداية حتي جذور أعصابه، لذلك، واظب علي حراسة نجمه اللامع، و تنشيطه كلما لمس هبوطه، و حمايته من الغبار الذي يثيره المنافسون في كل وقت، و الحاقدون أحياناً، و الدماء الشابة في أغلب الأحيان!
من أجل هذا، في كل محطة من محطات رحلته في هذا الوسط، القاسي جدا، عمل ” عادل امام” علي استقطاب كتيبة من الصحفيين و الاعلاميين ذوي الأرواح الهشة المتآكلة، و هولاء كثر، و هولاء أوتار مشدودة علي الدوام لتسخير أقلامهم و أصواتهم لمن يجود بأي شئ، و إن كان دعوة علي حفل عشاء، و إن كان حتي ” كارت شحن ” أحياناً، آه و الله!
و هؤلاء هم الذين جعلوا من ” عادل امام ” صنماً صناعياً لا يهتز لمد الزمان وجذره، و لا لعوامل التعرية و الشعر الأبيض، و هو صنم من ضوء كاذب و حروف مدفوعة الأجر علي كل حال، حتي أن التدليس في ضوء ” عادل امام ” و حجمه الطبيعي تجاوز المبالغة في أرقام ايرادات أفلامه و أجره إلي الاحالة، و الحقيقة التي لا تقبل القسمة علي اثنين أن ايرادات خمسة أفلام من أفلامه لا تعادل ايرادات فيلم واحد للفنان ” أحمد حلمي “!
لا يمكن أن نغفل في هذا السياق أهمية اصطياد مقعد حول موائد المهرجانات المتعفنة، و بعضها رخيص الثمن جداً ..
و ماذا عن ” سعيد صالح “، ذلك الطيب القلب، و الغبيُّ اجتماعياً؟
في الوقت الذي كان ” عادل امام ” ينمّي الضوء في اسمه يوماً بعد يوم، و يسخر الأقلام لإضفاء المزيد من الظلال الأسطورية علي صورته في أذهان الجماهير، نجد ” سعيد صالح “، كغالبية المصريين، كان مجرد غرفة انتظار مفتوحة علي مصراعيها لأي جديد بشرط ألا يطارد هو هذا الجديد، رد فعل للآخرين لا أكثر، و كان الكسل بالنسبة إليه اكتشافاً عظيماً، يرضي بما هو متاح، و إن كان دوراً ثانوياً في عمل من بطولة فنان محدث ضوء لم يكن، ربما، قبل أسابيع قلائل، ينظر اليه بوصفه كوميدياناً عظيماً فحسب، إنما كان، يري فيه نموذجاً يسعي إلي محاكاته، ثم يعود بعد ذلك للجلوس في انتظار أي متاح آخر، و يكتفي بتعرف رجل الشارع عليه، و ظل حاله هكذا حتي تسرب العمر من بين يديه كحبات الشعير، و انحسرت مواسم الاختيار، و تبددت الطاقة و ضمرت معها الفرص الكبيرة ..
سبب آخر، و الأهم، ساهم في إخماد الضوء في اسم ” سعيد صالح “، و هو علاقته السيئة بالسلطة، و للأسف، هو نفس السبب الذي اقتطف ” عادل امام ” من وراء القفز فوقه تلالاً من فاكهة الضوء المدبر!
من المعروف أن ” سعيد صالح ” كان أحد المغضوب عليهم من السلطة، نظام ” حسني مبارك ” تحديداً، و أنه، لذلك، واجه عقوبة السجن أكثر من مرة!
من المعروف أيضاً أن السبب الحقيقي وراء سجنه للمرة الأولي بالتهمة التي كانت في ذلك الوقت حدثاً غير مطروق، تهمة ” الخروج عن النص و خدش الحياء العام “، هو خروجه عن النص قبل ذلك فعلاً في مسرحية سابقة اسمها ” لعبة اسمها الفلوس ” التي قال فيها جملته الشهيرة:
” أمي أتجوزت ثلاثة مرات، الأول أكلنا المش، و التاني علمنا الغش، و الثالث لا بيهش و لا بينش “
واضح أنه اسقاط واضح علي رؤساء ” مصر ” الثلاثة بالتعاقب، ” جمال عبد الناصر “، ” السادات “، ” حسني مبارك “!
جَلَدَ ” حسني مبارك ” مرة أخري في اسقاط آخر و خروج آخر عن النص في مسرحية ” كعبلون “، و لعل سجنه للمرة الثانية في بداية التسعينيات كان تعقيباً علي هذه الحادثة ..
لا شك أن ” سعيد صالح ” كان متصل الظاهر بالباطن، كما يقول المصريون في لهجاتهم : ” اللي في قلبه علي لسانه”، و هنا، أتذكر أنني سمعته ذات مرة يشتم، كأنه، يعاتب ابنته علي الهواء، فهو لا يحرس الكراهية و لا يزيف ابتسامته و لا طباعه و لا ينقب كالآخرين عن اتجاه الريح، فمثلما، طبع علي عدم الهوس برأي الناس فيه، طبع أيضاً علي عدم الهوس برضا السلطة عليه، و هذا كان أكبر أخطائه علي الإطلاق!
لأنه، ببساطة، كل دولة يقف في القلب منها أحد العسكر لابد أن تعمل علي استبعاد الأغلبية لصالح أقلية بشرط أن تدور هذه الأقلية في دائرة مغلقة حول محور الزعيم الملهم الذي يعرف كل شئ، و يري أبعد، و تعمل بكل وسعها علي حراسة بقائه، هو أيضاً يعمل علي حراسة رسوخ هؤلاء في قمة محيطهم بمنحهم بعض الامتيازات الشخصية المنظمة، كتأمين وظائف لأبناء العائلة كل حسب درجة قربه من النظام، وراثة الابن مقعد أبيه في الهيكل الوظيفي لـ ” تكية الست كرامات “، أو الإنعام بمقعد في مجلس الشعب أو الشوري، أو حراسة ” العمودية ” في عائلة تتوارثها جيلاً بعد جيل، و هكذا!
في مثل هذه الظروف، يستطيع من يشاء بقراءة سريعة لنسيج قرية أو مدينة أو نجع أو حي أن يدرك مدي مراوحة التاريخ الآسن و الجغرافيا التي لا تتآكل للجسد الاجتماعي للقرية أو المدينة المستهدفة في نفس المكان، أقصد، أن القارئ لتاريخ و جغرافيا قرية أو مدينة سوف يجد ” عمدة ” القرية الآن، علي سبيل المثال، لابد أن يكون ابن ” عمدة ” القرية السابق، و أثرياء القرية في حمسينيات القرن الماضي هم هم أجداد أثريائها الآن، و ملاك الأرض هم سلالة ملاك الأرض، و تتابع التعاسة في لهجات فقراء القرية انتشارها، حتي اشعارآخر ..
و في مثل هذه الظروف، حتي التعليم لا يصلح جسراً للانتقال من طبقة إلي طبقة أكثر رقياً..
و في مثل هذه الظروف لابد ان يكون النفاق هو الخُلُق العام للمجتمع!
دائرة مغلقة، متي ضاقت هذه الدائرة و توترت حوافها، تبدأ الثورات!
و لا أدري، ألسوء حظ الفنان أم لحسن حظه، بسبب تأثيره علي البسطاء، و بسبب التفاف قلوب الحشود حوله و تحديقهم النظر اليه مثل فاكهة بشرية، وقع اختيار الأنظمة المولعة بالديكتاتورية عليه كأحد المنتمين، و إن قسراً، إلي الأقلية التي تدور في دائرة الحاكم، أو، لا يدور، فلهم أساليبهم أيضاً، و لابد من إجهاض الضوء المبهر في اسمه، لكنهم، لا يمانعون، بعد ذلك، من السماح لبعض الضوء المقنن الذي يسقط علي الحواف من أن يطال اسمه ..
و الضوء، قبل كل شئ، شئ نسبي، و كم من ملوث و غير حقيقي، كأنه الوهم، يكاد أن يختنق ضوءاً، و لحسن الحظ، ثمة أشياء جانبية أخري لا يستطيعون السيطرة عليها بالقوة، أشياء أهم و أطول عمراً، لا يعرفونها ..
تلك الغابات من القلوب التي آوت ” سعيد صالح ” دون شروط و دون انتظار لمنحة أهم، التاريخ الذي خارج سيطرة الجلاد أهم، و لسوف ينصف ” سعيد صالح ” دون شروط، بكل تأكيد ..
قبل نهاية كلامي هذا، أحب أن أقول شيئاً صغيراً يرج حتي الآن جماله و بساطته و عفويته في قلبي، كاد والله حين اعترض عينيَّ أن يربَّي فيهما الدموع ..
الأسبوع الماضي، فوجئت بمستخدم خليجيٍّ علي تويتر، أنشأ حساباً باسم ” صدقة جارية للفنان سعيد صالح “
أيُّ جائزة، حتي الأوسكار، تعادل قيمتها هذه المشاعر الصحية التي لم تتسرب يوماً إلي قلوب ذوي القلوب المتسخة؟..
وداعاً ” سعيد صالح “، كم أتمني، و الحشود، أن يُنْزِلُ بك التاريخ ذكراً لم يطرأ يوماً علي مخيلتك، بقدر ما منحت البسطاء من متعة مجانية، و بلا شروط ..
ارقد في سلام ..
محمد رفعت الدومي