ستة أشهر على تسلم الرئيس الأميركي دونالد ترمب رئاسة الولايات المتحدة، كانت كافية لوضع المشروع التوسعي المذهبي الإيراني أمام وقائع جديدة.
من الأساس كان الانفلاش الإيراني في المنطقة نتاج فراغات استراتيجية، أكثر منه نتيجة المقدرات إيرانية، وإن كانت غير قليلة. الفراغ الأكبر كان نتيجة للابتعاد السعودي عن العراق. ثم السياسة الخارجية لإدارة الرئيس السابق باراك أوباما التي أسرت نفسها بأولوية التوصل إلى اتفاق نووي مع نظام الملالي، فكان أن أجادت إيران في إطالة أمد التفاوض، واستثمرت الوقت لتتمدد في دول الإقليم.
تغير الكثير خلال الأشهر الستة الماضية، وبدا أن مشروعاً جدياً قيد التبلور لتطويق إيران في ساحات عدة.
الاتفاق الروسي الأميركي الأخير لإنشاء منطقة هدنة في جنوب وجنوب غربي سوريا، ليس تطوراً بسيطاً في سياق منع إيران من إنتاج معادلة في جنوب سوريا تهدد الأردن وإسرائيل. دفعت إيران أكلافاً حقيقية لتطوير موقع لها في هذه البقعة تتصل بالبقعة التي تهيمن عليها ميليشيا «حزب الله» في جنوب لبنان.
وبمعزل عن الاتفاق الروسي الأميركي المرشح للتكرار في أماكن أخرى، تظهر خريطة الانتشار الأميركي في سوريا أن قضماً ممنهجاً يحصل للنفوذ الإيراني وقاعدته اللوجيستية من طرقات وقواعد ومساحات جغرافية متصلة.
لأميركا عشرات القواعد في سوريا بينها أربعة مطارات وهي تمسك إلى حد بعيد بالحدود العراقية السورية، مانعة هلال الحرس الثوري من الانسياب الطبيعي من طهران إلى مياه المتوسط. وأميركا موجودة في شمال سوريا مباشرة وعبر التفاهمات الاستراتيجية مع الميليشيات الكردية هناك.
سبق الدخول الأميركي على خط الاتفاق مع موسكو تفاهمات جدية بين الأخيرة وحكومة بنيامين نتنياهو، تسمح بضرب «حزب الله» بلا شروط، وهو ما اعترف نتنياهو للمرة الأولى علناً بأنه حصل عشرات المرات نتيجة تفاهمات بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لم نكن بحاجة للخطأ التقني في بودابست (هل هو مقصود؟!) عندما قال نتنياهو ما قاله أمام ميكروفون من دون أن يدرك أنه مفتوح لنعرف أن التفاهمات الإسرائيلية الروسية قائمة في هذا الصدد.
العراق يشهد هو الآخر مساراً تطويقياً إضافياً لإيران بعد طول انكفاء من خلال دور سعودي مستجد، وحيوية لافتة بدأت تعود للعلاقات السعودية العراقية بزخم غير مسبوق منذ 27 عاماً. الزيارات السياسية إلى الرياض وآخرها زيارة وزير الداخلية العراقي قاسم الأعرجي، وهو قيادي بارز في منظمة بدر، ولقاؤه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أنتجت حزمة تفاهمات للتعاون في مجالات الأمن الحدودي ومكافحة الإرهاب والزراعة والتجارة والاقتصاد، وفتح المعابر البرية، على أن تكون البداية من منفذ جديدة عرعر، بالإضافة إلى الإعلان الاستراتيجي عن إعادة فتح الخطوط الجوية بين البلدين.
كان سبق ذلك زيارات مهمة بين مسؤولي البلدين أرفعها زيارة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير إلى بغداد وزيارة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي إلى جدة ولقاؤه الملك سلمان، والأنظار مشدودة إلى إنشاء مجلس أعلى للتنسيق بين البلدين يضع إطاراً ثابتاً ومتواصلاً للعلاقات الثنائية. وما إن غادر الأعرجي حتى أعلن عن وصول رئيس الأركان السعودي الفريق أول الركن عبد الرحمن بن صالح إلى بغداد. ولا يخفى في هذا السياق التنسيق المصري السعودي بغية دفع العراق إلى المزيد من التقارب مع محيطه العربي، من خلال رؤية تعتمد أعلى درجات الواقعية السياسية والاعتراف بالتركيبة السياسية للسلطة الراهنة في العراق.
في لبنان، يتخذ تطويق إيران بعداً محدداً يتصل بالعقوبات المالية المرتقبة على «حزب الله»، والمتوقع أن تكون شديدة القسوة، رغم كل محاولات اللوبي المصرفي والسياسي اللبناني التخفيف من أضرارها الجانبية على عموم القطاع المصرفي والاقتصاد. العقوبات قادمة لا شك، ولن تكون منزوعة الأسنان كما العقوبات الماضية، وهي تندرج في سياق حرب ناعمة متعددة الجبهات على النفوذ الإيراني ومشروع طهران المذهبي في الإقليم، بكل أبعاده التخريبية.
وهذه مجهودات تتقاطع مع القرار العربي الاستراتيجي بتصفية البنية التحتية، المالية والسياسية والإعلامية لتنظيم الإخوان المسلمين، بوصفه كان ولا يزال المنصة الأخطر للاختراق الإيراني للمنطقة وتمويه المشروع المذهبي الإيراني.
في مقابل هذه التطورات، إيران تعمل بدأب وتسعى بكفاءة لافتة لتوظيف كل أوراقها لا سيما أوراق اللوبي الإيراني في واشنطن الذي ما زال نشطاً على مستوى الكونغرس والإعلام، مستفيداً من الفراغ الكبير في إدارة ترمب، حيث لم يعين الرئيس سوى بضع مئات من أصل 4500 منصب فيما يسمى الإدارة الأميركية.
كما أن غياب عقيدة سياسية واضحة تقود عمل الرئيس الأميركي السياسي، تفرمل حماسة الرهان على هذه الموجة الجديدة في الشرق الأوسط، وتضع المزيد من المسؤوليات على صانع القرار العربي ليرفع منسوب شراكته في صياغة القرار الإقليمي والدولي المواجه لإيران وعدم تركه للأميركيين والروس.
*نقلاً عن “الشرق الأوسط”