الشرق الاوسط
يؤمن كثيرون بضرورة إخفاء عيوبنا ومشكلاتنا الذاتية، وأؤمن بأن كشفها هو الصواب، وأنها تقتل من يؤجل مواجهتها أو يهرب ويتهرب منها.
وكانت هناك لفترة غير قصيرة مدرسة شمولية في السياسة ترى في أي حديث لا يقوم على إطرائها والإشادة بها أو على ستر عيوبها جريمة لا تغتفر وتزويدا للأعداء بمادة مؤذية لن يلبثوا أن يستعملوها ضد ما كانوا يسمونه بخشوع «القضية»، وخيانة الأمانة، والغدر بأعضاء ومناصري أحزابها وجمهورها.
يحدث الشيء نفسه اليوم بالنسبة إلى المعارضة السورية عامة والجيش الحر وما يخالطه من جيوش غير حرة في ميادين الحرب والمقاومة بصورة خاصة. ثمة تجاوزات مخيفة تحدث في كل مكان، تتظاهر من خلال محاور ثلاثة: اشتباكات تقع بين كتائب تدعي الانتماء إلى الجيش الحر في أماكن عديدة.. فلتان أمني لا قيد عليه في مناطق تعتبر محررة، مع أنها مستعبدة تماما من صعاليك فاسدين هم لوردات حرب حقيقيون.. وأخيرا، اغتيالات وعمليات تشبيح واعتقال وخطف وتدمير وترويع تمارسها تنظيمات تابعة لكيانات سياسية خارجية، أصولية الهوية والطابع، لعبت دورا كبيرا في تخريب بلدان إسلامية وعربية، وتشن اليوم حربا متصاعدة ضد الجيش الحر بحجة أنه كافر.
وقد طرحت هذه الحالة المدمرة سؤال «ما العمل؟» على الثورة، فأصابها طرحه بالحيرة والإرباك، ما دام الرد على العنف بالعنف سيخدم النظام في الوضع السوري الراهن، ومثله السكوت عن تقويض الجيش الحر وتصفية كوادره وتدمير قدراته وقطع طرق مواصلاته والانقضاض على قواعده وقياداته، التي تستهدفها قوى مذهبية متزمتة. لم يخطر ببال أي سوري أن ثورته من أجل الحرية ستتحول إلى صراعات مذهبية وطائفية وتطرف أعمى سيخرجه، إن هي وصلت إلى السلطة، من تحت الدلف إلى تحت المزراب، كما يقول اللسان الشعبي.
هذه الحال، التي ننزلق إليها منذ أشهر، تم السكوت عنها خلال فترة طويلة نسبيا، فاعتقد العالم أن الجيش الحر يحمي الأصولية، خاصة بعد أن أطلقت تصريحات غير مدروسة صدرت عن قادة في المعارضة ومسؤولين في الجيش الحر، هونت من خطورة ما يجري من انحراف يبعد الثورة عن الحرية كهدف جامع لشعب سوريا الموحد، ويستبدل بها سياسات تقسيمية تمزيقية تشحن الثورة بخلافات وتناقضات تمعن في إضعافها وإرهاق المقاومة وتقويض ما فيها من وحدة وتماسك. خلال هذه الفترة، تعالت أصوات دولية ضخمت حجم الظاهرة الأصولية، بينما صمتت المعارضة السياسية والعسكرية عن تبلور وبروز ظاهرة تنظيمية مذهبية مختلفة هيكليا وبنيويا عنها ومضادة لها، وضع تشكلها الثورة بين نارين، وشكل عامل ضغط خطيرا عليها، يمكن أن يسهم في سحقها تحت الضربات التي ستتلقاها من فوق، على يد جيش النظام، ومن تحت، بقوة هذه التنظيمات التي تزيحها عن مواقعها المجتمعية، وتحل محلها سلطة ميدانية يعني قيامها طي صفحة الحرية والكرامة والعدالة في المناطق التي ابتليت به.
كالعادة، لم يكن تقدير حجم الظاهرة وسرعة نموها صحيحا. وتم التعامل معها بروحية تحاشت أخذ موقف واضح وعقلاني منها، يسورها بتدابير تحول دون تناميها، ويقيدها بسياسات تضعها في مواجهة الشعب وتعزلها عنه، تثلم فاعليتها وصدقيتها لدى الناس وتكشف تناقض أهدافها وبرامجها مع أهداف وبرامج الثورة، وتحاصرها بقوات متفوقة تقيم أفضل العلاقات مع المواطنين وتمدهم بالعون وتحميهم وتصون بيوتهم وممتلكاتهم من جموحها وفلتانها، وتبعد الشباب عن غوايات سلاحها ومالها السياسي، من دون أن تصطدم بالضرورة معها في كل مناسبة ومكان.
لم يحدث شيء من هذا. وحين بدأت الظاهرة تنتشر وتستفحل، تبين أن إيجاد حل غير عنيف لمشكلتها يكاد يكون مستحيلا، وأن الأخذ بحل كهذا كارثة يخشى الجميع عواقبها، علما بأن قضم الجيش الحر على يد هذه التنظيمات لم يتوقف، وعجزه عن حماية منتسبيه والسكان الراغبين في الخلاص منها فاضح واضح.
ماذا ستفعل المعارضة المستهدفة بجناحيها السياسي والعسكري؟ لا أعرف شخصيا ما يفكر فيه الآخرون، لكنني أعتقد بضرورة وضع خارطة معلومات دقيقة ومدروسة تطاول أعداد وأماكن انتشار هذه التنظيمات، ومصادر قوتها ونقاط ضعفها، والقائمين عليها والمنضوين فيها، وعلاقاتها مع الشعب، ونوع تسليحها ونمط تدريبها… إلخ، على أن يكون لكل حادث حديث بعد ذلك، إن هي ظلت خارج مؤسسات الثورة عامة والجيش الحر خاصة، وواصلت اعتداءاتها على المواطنين.
لا يجوز الاستهانة بما تفعله هذه التنظيمات ضد الثورة وبما أنجزته حتى اليوم من تهديد لوحدة وسلامة شعب سوريا ودولته. ولا يجوز في جميع الأحوال الاستمرار في تجاهل مخاطرها، ومع أن البديل المتاح اليوم يجب ألا يمر بالضرورة في شن حرب شاملة عليها تغطي كل مكان من أماكن انتشارها، فإن تجاهلها خطأ قاتل، وخطأ بالقدر نفسه التعامل معها انطلاقا من الفكرة التي ترى في التناقض مع النظام أولوية يمكن أن يدفعها الاقتناع بها إلى مهادنة الجيش الحر وبقية أطراف المعارضة، فهي لا تعتبر هذا التناقض من أولوياتها، وتظن أن المعارضة جزء تكويني من النظام يحسن التصدي له والقضاء عليه ما دام هو الجزء الأضعف في بنيته، لذلك سيعني شطبها إضعاف السلطة القائمة وحرمانها من طرف يخدمها ويقويها، فالأولوية في نظرها هي إذن لمقاتلة الجيش الحر، وحتى في حال قاتلت النظام، فإنها تفعل ذلك لاعتقادها أن مقاتلته تقويها هي لأنها تكشف تهاونه وتقوض مكانته لدى الشعب، وهذان أمران يعدان في رؤيتها من مستلزمات إخراجه من ساحة العمل العام، وتبلور وضع تكون هي فيه القطب المقابل للنظام، فتدور المعركة الحقيقية لتحرير الشعب ضد هدف الجهاد الحقيقي: الكفر والزندقة.. ولا يبقى غير القضاء على النظام قبل استعادة دولة الخلافة، التي سيعود التاريخ بقيامها إلى مساره الصحيح، وتنشأ الشروط الملائمة للجهاد ضد الكفر على مستوى العالم.
وبتناقض أولويات الجيش الحر مع أولوية هذه التنظيمات تنتفي إمكانية إقناعها بهدنة تلتزم بها ريثما يسقط النظام، وبأن ما تفعله يخدمه ويجعل يوم قيام الخلافة أو غيرها من أشكال الحكم الإسلامي المطلوبة خارج متناول أيديها. بذلك، تواجه مؤسسات المعارضة السياسية والعسكرية سؤالا مفصليا حول موقفها من التخلق التدريجي لنظام مذهبي بديل يقوض الثورة من داخلها ويحرفها عن هدفها الأصلي ويزج بها في معركة جانبية ليست من أولوياتها ومن غير الجائز أن تخوضها، لأنها ستدمر موازين القوى القائمة بين الشعب والنظام، وتهدد قدرته على مواصلة المعارك بالوتيرة التي نعيشها منذ عامين ونيف، وأخذت تشهد بعض التوازن خلال الفترة الأخيرة، بعد تباطؤ هجوم النظام الشامل في كل مكان، وما أدى إليه من نجاح نسبي في تحقيق إنجازات وقتية على الأرض، ربما كان من أهدافها الرئيسة الاستبدال بقوى الجيش الحر ووحداته وحدات ومقاتلي هذه التنظيمات، التي يفضل النظام مقاتلة أصولييها على مقاتلة طلاب الحرية، لاعتقاده أن قطاعات واسعة من الشعب ستفضل بقاءه على قيام حكومة تديرها، ترفض مبدأ وفكرة الحرية، وتعتبرهما كفرا وزندقة لا بد من القتال ضد أنصارهما وقتلهم.
لا يجوز أن يكون القرار المطلوب قصرا على فئة صغيرة بعينها، عسكرية كانت أم سياسية، فالقرار وطني الأبعاد والنتائج ولا بد من مناقشة موضوعاته على مستوى وطني شامل، يشترك فيه المقاتلون الميدانيون، والمجالس المحلية والتنسيقيات ومنظمات المجتمع المدني داخل سوريا وخارجها، وتنظيمات وفصائل المعارضة، وقادة الجيش الحر، ومواطنو المناطق الخاضعة لاستبداد وعنف التنظيمات الأصولية، التي تمارس أنشطة محض إرهابية ضدهم، تستهدف أساسا أعداء النظام الأسدي ومن يقاومونه ويقاتلونه، ولا تستهدفه هو. ومن المنطقي والمطلوب أن تختار المعارضة لجنة خاصة تتفرغ لجمع معلومات دقيقة وتفصيلية حولهم، وترسم سياسات تتخطاهم إلى الوسط الاجتماعي والثوري السوري، من شأنها عزلهم وكشف حقيقة سياساتهم ورهاناتهم وممارساتهم العسكرية، وتتكفل بتوعية الشعب بما يفعلونه، وبتعبئة حراكه المدني المتصاعد ضدهم في جميع مناطق وجودهم وكل مكان من سوريا، التي تجأر اليوم بالشكوى منهم.
لننتقل من الاستهانة بالخطر إلى مواجهته، ولنواجهه بصورة شاملة لا تبقي له ثغرة ينفذ منها أو يتمكن من الالتفاف بواسطتها على ما بقي من الثورة، وهو ليس كثيرا، فإما أن ندافع عنه ونستعيد ما فقدناه منه، أو أن نسمح بالقضاء على الباقي منه، ونقر بهزيمة قوى الحرية ونعلن فشلها بلا مواربة.