بقلم د. عماد بوظو/
في تاريخ الإنسان، وفي الديانة المسيحية بشكل خاص، مجموعة من القصص التي يدور كل منها حول امرأة كانت في بداية حياتها خاطئة لكنها عرفت في ما بعد طريق التوبة، فتفرغت للعبادة والزهد حتى وصلت إلى درجة القداسة. أولى هذه الأمثلة مريم المجدلية التي تعتبر من أهم تلاميذ المسيح من النساء والشاهدة على قيامته وأول من ذهب إلى قبره.
لكن بعض القصص تذكرها كمثال عن الإنسان الخاطئ الذي تاب واكتشف طريق الله، “وبعض النساء كن قد شفين من أرواح شريرة وأمراض، مريم التي تدعى المجدلية التي خرج منها سبعة شياطين” لوقا 8:2. وقد شفاها المسيح، وتم الاعتراف بها قديسة ويحتفل بها في 22 تموز/يوليو من كل عام. رفض الكثير من رجال الدين المسيحيين الربط بين الشياطين التي أخرجها منها المسيح والخطيئة بمعناها الجنسي، واعتبروا أن هذه التفسيرات بعيدة عن الحقيقة وتسللت إلى الخيال الشعبي في العصور الوسطى.
لكن فكرة المرأة الخاطئة التائبة عادت للظهور في فترة لاحقة مع القديسة بيلاجيا التائبة التي عملت في بداية حياتها راقصة، تكشف أغلب جسدها وتغطي ما تبقى منه بالجواهر حتى كان لقبها باليونانية مرغريتا “الجوهرة”. ثم صلى من أجلها الأب نونيوس، أسقف الرها، واستجابت عناية السماء لصلواته، فكتبت له رسالة: “إلى تلميذ المسيح القديس من تلميذة الشيطان وامرأة خاطئة، لقد سمعت عن محبة الله للخطأة والزناة… فلا ترذلني إذا أنا راغبة أن أرى بواسطتك المخلص”. فسمح لها الأب نونيوس بالحضور ولما تأكد من صدق توبتها أعطاها سر المعمودية المقدس، فغيرت ملابسها وحلقت شعرها وانتقلت إلى مغارة في أورشليم واستمرت في حياة نسك وتعبد حتى فاح عطر قداستها في كل مكان.
تتأكد في قصة رابعة المفاهيم الاجتماعية والثقافية التي تركز على الجنس وتعتبره الخطيئة الكبرى
كذلك كانت حياة القديسة إميلي التائبة التي ولدت في مدينة قيصرية في فلسطين وكانت مغرورة بجمالها وتفتخر أنه ليس باستطاعة أحد مقاومتها، وسقطت في الخطيئة وانغمست فيها إلى أن أصبحت زانية مشهورة. حتى أنها حاولت إغواء القديس مرتيتيانوس فلبست أحسن ثيابها وتقلدت مجوهراتها وتطيبت وقامت تراوده عن نفسه فغادر مسكنه وحاول إحراق نفسه فلما رأته على هذه الحال خافت واضطربت وجثت عند قدميه وسألته أن يعينها على خلاص نفسها قائلة “أعني يا رب أنا الشقية التي طالما غظتك بأفعالي ولست قادرة أن أرفع وجهي إليك”. وسألت القديس: هل يقبل الرب إنسانة دنست الأرض بخطاياها؟ فأجابها القديس: إن كنت تتوبين من كل قلبك فالرب يغفر خطاياك لأنه مكتوب: فتوبوا وارجعوا لتمحى خطاياكم لكي تأتي أوقات الفرج من وجه الرب، أعمال الرسل 3:19، وقال أحد القديسين التوبة تجعل الزاني بتول”.
رابعة العدوية هي إحدى هؤلاء النساء الخاطئات ولكنها هذه المرة مسلمة. تتفاوت الروايات حول تاريخ ولادتها وموتها ولكن أغلبها يقول إنها ولدت عام 100 هجري بالبصرة وتوفيت عام 180. كما تتفق أغلبها على أنها ولدت بعد ثلاث بنات ولذلك سميت رابعة وأن أباها كان فقيرا وتوفي أثناء طفولتها وأنها تعرضت للاختطاف وبيعت كجارية وأن صوتها كان جميلا كما أنها كانت على درجة من الجمال.
أما حول جوانب حياتها الأخرى، فتوجد قصتان متناقضتان؛ بعض الكتب صورتها كامرأة لاهية قضت فترة من حياتها في الشهوات والخمر قبل أن تتجه إلى طاعة الله وعبادته، بينما قال آخرون إن هذه صورة مشوهة وأنها نشأت في بيئة صالحة وحفظت القرآن وقرأت ودرست الحديث وأنها قضت عمرها بتولا لأنها انصرفت منذ طفولتها إلى التعبد.
لو كانت رابعة العدوية زاهدة متعبدة لم تعرف الخطيئة طوال حياتها لفقدت قصتها معناها والعبرة منها، وانتفت الحكمة من انتقال قصتها جيلا بعد جيل إلى اليوم وهي باب الرحمة والمغفرة الذي فتحه الله أمام التائبين، كما أن قصتها بهذه الصورة لا تنسجم مع بعض الأشعار المنسوبة إليها مثل:
كأسي وخمري والنديم ثلاثة وأنا المشوقة في المحبة رابعة
والتي معناها المباشر واضح بين سطورها، وأبيات أخرى تقول فيها:
لقد جعلت في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
يحاول المدافعون عن صورتها المنزهة عن الخطيئة تأويل أشعارها بطريقة رمزية بعيدة عن معناها الحرفي والواضح رغم صعوبة ذلك.
لا يوجد دليل تاريخي على وجود حقيقي لشخصية رابعة العدوية، وهناك شكوك محقة حول صحة نسب الكثير من الأقوال والأشعار إليها. وعكست الصور المختلفة التي تركتها كتب التراث حول شخصيتها الفروقات بين توجهات الكتاب الذين أتوا على ذكرها، ابتداء من الجاحظ في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، إلى عدة كتاب صوفيين من القرن الخامس الهجري مثل الكلاباذي وأبو طالب المكي وعبد الملك الخركوشي، ثم الغزالي في القرن السادس ومعه فريد الدين العطار وهو أكثر من أسهب في الحديث عن رابعة العدوية ونسب إليها الكثير من المعجزات، لكن أغلب الباحثين وجدوا فيها مبالغة ورأوا أنها بعيدة عن التصديق.
وشهدت تلك الفترة نقاشات فكرية بين المذاهب والطرق الإسلامية يدور بعضها حول طبيعة العلاقة مع الله؛ يرى الصوفيون، وتعتبر رابعة العدوية من أهم رموزهم، أن الحب هو جوهر تلك العلاقة وليس الخوف من العقاب أو الطمع في الثواب الذي اعتبروا أنه عبادة التجار، وقد نسب إليها قول: “ما عبدتك طمعا في جنتك ولا خوفا من نارك وإنما لأنك تستحق العبادة”. ولم تقبل وجود أي وسيط بينها وبين معبودها حتى أن الجاحظ نقل عنها في كتابه البيان والتبيين وصفها للكعبة “بالصنم المعبود وأنه لا ولجها الله ولا خلا منها”.
ورغم التشكيك في ما بعد بنسب هذا الكلام إليها، لم يتفق بعض السلفيين مع أقوال هذه المتصوفة واعتبروا أفكارها دخيلة على الإسلام ومصدرها الديانة المسيحية ومعتقدات يونانية وفارسية. واستدل السلفيون على ذلك من أن كلمة “صوفي” مأخوذة عن اليونانية وتعني الحكمة. وقد نسب ابن تيمية دخول التصوف إلى العالم الإسلامي إلى ترجمة كتب الروم والفرس والهند إلى العربية، وإلى ازدياد نفوذ الموالي من غير العرب، حتى أن بعضهم اعتبر شطحات بعض الصوفيين كفرا صريحا.
يبدو أن الاختلاف في قصة حياة رابعة العدوية كان انعكاسا للتبدلات التي شهدتها المجتمعات الإسلامية عبر القرون؛ فإذا جنحت هذه المجتمعات نحو التشدد غابت صورة المرأة الخاطئة التائبة ليحل مكانها صورة العابدة الطاهرة من الولادة حتى الوفاة، لأن ثقافة التشدد لا تعرف التسامح ولا تؤمن بالتوبة. فقبول التوبة يعني إعطاء الفرص للمذنب ويلغي الحاجة لإنزال العقاب به ولتطبيق الحدود عليه، مما يحرم المتشددين من متعتهم في مشاهدة المخطئ وهو يتعذب! وإذا مالت المجتمعات الإسلامية نحو الاعتدال تنتشر مفاهيم التسامح وتعود للظهور صورة الله المحب الغفور الرحيم وتصبح شخصية رابعة هي المرأة الخاطئة التي قبل الله توبتها وغفر لها ذنوبها.
الاختلاف في قصة حياة رابعة العدوية كان انعكاسا للتبدلات التي شهدتها المجتمعات الإسلامية عبر القرون
لذلك، سادت خلال العقود الأخيرة، التي يطلق عليها الأصوليون اسم الصحوة الإسلامية، صورة رابعة العدوية التي لم تعرف الزلل طوال حياتها. حتى أن الكاتب والباحث الكبير يوسف زيدان أكد على وجهة النظر هذه من خلال قوله إن رابعة العدوية ليست نبيلة عبيد، في إشارة إلى السيدة التي قامت بتمثيل حياتها ورحلتها من حياة الخطيئة إلى التوبة والتعبد والزهد في فيلم سينمائي عام 1963.
في المقابل، كانت الصورة المتداولة لرابعة العدوية منذ نهايات القرن التاسع عشر إلى سبعينيات القرن الماضي مع الانفتاح الفكري والثقافي الذي رافق محاولات الدول الإسلامية دخول العصر الحديث، هي صورة امرأة خاطئة تعمل في حانة قبل أن تتوب وتدخل حياة الزهد والتعبد.
وتتأكد في قصة رابعة العدوية المفاهيم الاجتماعية والثقافية التي تركز على الجنس وتعتبره الخطيئة الكبرى وتهمل خطايا أخرى اتفقت على إدانتها كل التشريعات والديانات؛ فالوصية السابعة من الوصايا العشر في شريعة حمورابي والعهد القديم، هي النهي عن الزنا، ويسبقها في الأهمية وفي المرتبة الخامسة طاعة الوالدين. وفي القرآن يأتي الزنا ضمن الوصية الرابعة مع مجموعة من الأفعال التي تسمى الفواحش وليس كبند منفصل، ويسبقه أيضا طاعة الوالدين. في المقابل، تدور مواضيع الكثير من كتب التراث الإسلامي حول الجنس وتلصقه دائما بالمرأة وتجعله عارا وذنبا أبديا لا يفارقها ولا يقبل الغفران، بينما لا تلقى الوصايا الأخرى نفس درجة الاهتمام.
كما أن تحويل رابعة العدوية في هذا التراث إلى زاهدة متعبدة منذ بداية حياتها يقدم مثالا عن كيفية قيام رجال الدين بإعادة كتابة تاريخ الشخصيات الدينية بحيث يجعلونها منزهة عن الخطيئة طوال حياتها مما يحولها مع الوقت إلى شخصيات غير واقعية يختلط فيها التاريخ بالأسطورة. يجب أن يدفع هذا الأمر للنظر بعين نقدية إلى الكثير مما وصلنا في تلك الكتب بما فيها تلك التي تتحدث عن تاريخ بعض الصحابة والتابعين، إذ من غير المستغرب أن تكون قد تعرضت لتحويل أو تعديل لإضافة المزيد من القداسة إليها، رغم أن هؤلاء الصحابة والتابعين ليسوا سوى بشرا في النهاية وهم من غير المعصومين وارتكابهم لبعض الأخطاء ليس مستحيلا. كما أن رسم هذه الصورة الملائكية للشخصيات الدينية يجعل معايير محاسبة البشر العاديين على أخطائهم وهفواتهم أكثر صرامة وقسوة، مما يساهم بدفع المجتمع للمزيد من التشدد والتزمت، وهذه هي النتيجة الأهم لقيام رجال الدين هؤلاء بتطهير التراث من جميع الخطايا والآثام.
شبكة الشرق الأوسط للإرسال