بعد ان هدأت العاصفة قليلا حول وفاة الرئيس الفنزويلي … و ان لم .. ولا أتوقع ان تنتهي هذه العاصفة لأسباب لا تتعلق بظاهرة تشافيز و إنما ايضا بنواة لمشروع بديل… اود ان اسميه … مشروع الواقعية الحالمة…. لذلك ارتأيت الانتظار قبل ان انشر مقالتي التي كتبت أساسا في خضم العاصفة كي اسلط الضوء على بعض عناصر المشروع من خلال قراءة اولية للسلوك السياسي للرجل الظاهرة.
عادة يتصف الثوريون … بل أنهم هم أنفسهم يحبذون هذه الصفة… و هي أنهم حالمون … يحملون امال شعوبهم… و رغم أن البشرية لم تقدم أبدا ما يفهم منه بانه الحلم النهائي … إلا ان صفة الحالم أو صفة الحامل أحلام الناس يوضع دوما في مواجهة الواقع … و عادة يصر الثوريون على أن الواقعية هي خنوع بل و خيانة و الثورية تعني العمل على تجاوز الواقع بأي ثمن حتى و أن كان بالعنف و القتال و خلق الدمار…
هذاالإطار العام للحالة الثورية التي شهدتها مختلف مجتمعات العالم و تحت قيادة حركات و جماعات تستند إلى أيديولوجيات و أفكار و مناهج تنظيمية مختلفة يبدو و كانه يعيش إعادة تشكيل مكوناته في السنوات القليلة الأخيرة…حيث ظهر هذا الرجل العسكري و الحامل لتأثير حركات التحرر ضد الاستعمار التي سادت العالم الثالث في أوائل و أواسط القرن الماضي… نعم ظهر هوغو تشافيز ليقدم نموذجا آخر الحالة الثورية … اود أن اسميها الواقعية الحالمة…
هذا الرجل… خلافا للكثيرين ممن سبقوه من الثوريين الذين وصلوا إلى الحكم و اصبحوا من اعتى دكتاتوريات التاريخ ابتداء من الرفاق في الاتحاد السوفيتي و مرورا بالكتلة الشرقية كلها و الصين و كوريا الشمالية و بعض دول أفريقيا و طبعا العالم العربي … فان هذا الرجل اصبح اقربا إلى الناس فهو يغني و يعزف الموسيقى و يراقص النساء و يقبل ايدي الناس… و لكن أيضاً بخلاف كل الشعبويين فهو كان يعمل بجد لتحسين ظروف الناس وقد حقق الكثير من ذلك خلال سنوات قليلة…
ربما نتحدث هنا عن ارث و ثقافة خاصة بتجارب شعوب أمريكا لاتينية … لكن من المؤكد أيضاً أن ما حدث في العقود القليلة الأخيرة يمثل ظاهرة جديدة في قيادة المجتمعات لان تجرية دي سيلفا في البرازيل كانت أضخم بكثير و أكثر نجاحا اقتصاديا و أن كان اقل شعبوية و اقل ثورية وفق المقاييس التقليدية للثورية فلم يكن هناك عنف و لا قتل و لا حتى أيديولوجية حاكمة….
تجربة تشافيز و أن تخللتها صراعات سياسية داخلية و خطاب معادي للهيمنة الأمريكية التاريخية على دول أمريكا اللاتينية إلا أن خوض الصراع نفسه كان مغلفا بكوميديا ساخرة تجعل حتى أسوأ الأعداء يضحكون… منها قوله عن الرئيس بوش… أن الشيطان كان هنا… تشافيز عمل أيضاً على أسس إنسانية في العلاقات الدولية خاصة في علاقاته مع الانظمة في امريكا اللاتينية لكن ايضا مع الرئيس اوباما رغم ان الأخير هو رئيس الدولة الإمبريالية الأولى في العالم و الذي من المفروض ان يجعل منه الهدف لانتقادات تشافيز…
أما في الشرق الأوسط فقد حاول تشافيز أن يكون صديق الجميع من رجعيين و تقدميين و ديمقراطيين و دكتاتوريين و كذلك من يساريين و أصحاب المشروع الإسلامي… و لعل اقرب … و ربما اغرب…علاقاته كانت مع احمدي نجاد حيث زاره في ايران 13 مرة و استقبله في فنزويلا 6 مرات…مما شكل شيئا يمكن ان يطلق عليه العلاقة التبادلية المبنية على أساس واقعي و ليس أيديولوجي دوغماتي أو منفعي براجماتي…
في محاضرة ألقيتها في جامعة البورغ في شمال الدنمارك قبل سنتين و كان يحضرها بعض الباحثين من أمريكا اللاتينية … قلت … لا ادري أن كان أي منهما ترك أثرا أكبر عند الآخر … لان تشافيز الذي كان يسمي نفسه اشتراكيا و ربما ماركسيا بشكل ما كونه كان متأثرا بخط تروتسكي المعادي لستالين بدا يتحدث عن الله بل و يدعو الله إلى مساندته … بينما أصبحت ملابس احمدي نجاة التي يرتديها في ظهوره التليفزيوني تشبه ملابس أفقر الناس أي ما يشبه هندام الجيل الأوائل من الثوريين في أمريكا اللاتينية و غيرها من مناطق العالم في بدايات و أواسط القرن الماضي … طبعا باختلاف بسيط و هو أن احمدي نجاد لا يرتدي ملابس عسكرية كما يفعل معظم اولئك الثوريون الأوائل ….
مهما كان الرجل يحمل في قلبه الا من المؤكد أن تشافيز لم يكن قديسا كما وصفه احمدي بعد وفاته … بانه سينزل مع النبي عيسى … أو كما وصفه خليفته مندورا… بانه هو الذي أوحى بتعيين البابا الجديد للفاتيكان من الأرجنتين لكي يهدم العرش البابوي البرجوازي و يعيده إلى الفقراء الذين كانوا الهدف الحقيقي لقيام النبي عيسى..
تشافيز كان يحلم ببناء مجتمع يحضى فيه الفقراء بحقوقهم كما يحضى الأغنياء… كان حلما واقعيا سماها اشتراكية القرن الواحد و العشرين… لكن التساؤل هو … هل ستسمح هيمنة القوى الكبرى بقيام هكذا يتمتع و لو بعدالة نسبية ..؟؟..
الاتهامات المباشرة و التقارير و الدراسات التي تصدر من مصادر مختلفة حول استخدام أمريكا لوسائل تكنو-بيولوجية لقتل الزعماء اليساريين في أمريكا اللاتينية و الحروب التي يتم اشعالها هنا و هناك في أجزاء مختلفة من العالم… كل هذا يشكل قلقا حقيقيا حول إمكانية ديمومة و انتعاش مشروع الواقعية الحالمة…
سنتابع الموضوع في مقالات لاحقة…أكرم هواس (مفكر حر)؟