من المفهوم أن يلح الأتراك على الأميركيين يطالبونهم بوقف تسليح التنظيمات الكردية في سوريا، تحديدًا حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، لأنهم يعتبرونها تمثل خطرًا على استقرار ووحدة تركيا نفسها. فقد اختارهم التحالف الغربي وكيله داخل سوريا لمحاربة تنظيم داعش.
الأتراك، عندما أدركوا اللعبة الكردية السورية، بادروا إلى شن معاركهم ضد «داعش» في عملية «درع الفرات»، وكذلك «جبهة النصرة»، لاحقًا، إلا أن هذا لم يوقف الاعتماد الأميركي على الكرد وتسليحهم. وعزز موقف الأكراد السوريين أن تلك الخطوة كانت مقبولة من الروس، الذين لا يَرَوْن في الحزب الكردي خصمًا للنظام السوري. كما أن روسيا وإيران سبقتا الأميركيين بتمكين الأكراد من التمدد فيما وراء مناطقهم على الحدود السورية التركية بحجة تطهيرها من الإرهابيين، وهي العملية التي أيقظت أنقرة التي رأت فيها مؤامرة لإقامة مناطق كردية معارضة على حدودها تهددها مباشرة. ومن الواضح من لعبة لوح الشطرنج السوري، أن الإيرانيين والروس نجحوا في نقل المعركة ضد أبرز خصوم نظام دمشق، أي الأتراك، وتهديد أمنهم مباشرة، الأمر الذي أسهم في تقليص الدعم التركي للمعارضة السورية.
واضحة لعبة المحور الإيراني، لكن الذي لم يكن مفهومًا التحول الأميركي نحو دعم الأكراد، وتسليحهم بقوة، رغم مخاطره على تركيا، حليفتهم في الناتو. ومع خروج إدارة باراك أوباما، ومجيء دونالد ترمب، متعهدًا بتغيير مواقف سلفه، ظهر الأمل في أن يشمل التغيير الأميركي إدارتهم للأزمة في سوريا، على الأقل تكتيكيًا إن لم يكن استراتيجيًا. ومن المبكر معرفة الأفكار والخطوات الجديدة، لكن الدعم الغربي للأكراد مستمر، والخطر من «داعش» و«النصرة» يزداد في الداخل التركي إلى جانب استقواء الأكراد بالتحالفين الروسي والأميركي في آن.
الصورة باتت أوضح لأنقرة، فالمشروع الإيراني الذي يريد أن يكون القوة الإقليمية الرئيسيّة يريد إضعافها ضمن الصراع الإقليمي وليس فقط حماية النظام السوري. وهي نتيجة طبيعية للتوسع الإيراني في الشمال العربي، العراق وسوريا ولبنان، الذي يتطلب تحييد أنقرة كونها الدولة الموازنة لإيران، وهي تحتاج إلى تعزيز نفوذها في المنطقة أكثر من ذي قبل لفرض نفسها على الإدارة الأميركية التي تعتبر طهران خصمًا لا شريكًا، بخلاف إدارة أوباما.
ولا شك أن تركيا ارتكبت سلسلة أخطاء في التعامل مع الأزمة السورية، منذ انتقال الانتفاضة السلمية إلى ثورة مسلحة. عدم التدخل العسكري في مناطق نفوذها داخل سوريا، والضغط على دمشق آنذاك نحو حل سياسي توافقي مع المعارضة، ثم أخطأت في التهاون في مواجهة المعارضة الإسلامية المتطرفة، والتعاون المتأخر مع الحكومات الدولية التي كانت تشتكي من عمليات تجنيد مواطنيها من قبل التنظيمات الإرهابية الذين يعبرون من الأراضي التركية إلى سوريا. من المتوقع أن المجتمع الدولي سيقلق ويتحرك عندما يجد أن جماعات إسلامية متطرفة بدأت تتشكل في أي مكان في العالم، ومن المحتم أنه سيتحرك لمحاربتها.
تركيا تحاول أن تداوي عدة جروح في آن؛ فهي تصر على ملاحقة أشباح تنظيم فتح الله غولن في أنحاء العالم، الذي قام بالمحاولة الانقلابية. وتشن حربًا على التنظيمات الإرهابية مثل «داعش» داخل تركيا وفِي العراق وسوريا. وإقناع الغرب بالتوقيف عن تسمين التنظيم الكردي السوري. والتوصل إلى حلول براغماتية مع الروس والإيرانيين في سوريا. إنما خيارات تركيا في القضايا الإقليمية الأكبر أصبحت تضيق، فانتصار الإيرانيين في سوريا والعراق هو على حساب أنقرة وسيجعلها في حالة قلق مستمر، حيث لا ننسى أن سوريا كانت مركز النشاطات المعادية للأميركيين في العراق طوال سنوات وجودهم هناك، استضافت: «القاعدة» و«المقاومة العراقية»، ومن أراضيها انطلقت عملياتها.
مع هذا، تبقى تركيا دولة إقليمية كبرى، تملك من الإمكانات العسكرية ما يجعلها لاعبًا قادرًا على الحسم، وهو الأمر الذي تحاشت ممارسته طوال فترة الأزمة السورية، ثم أصبح غير قابل للتفعيل بعد دخول الروس، حيث لم يعد ميزان الصراع في صالحها. وكل الأطراف الآن تنتظر الخطوات الأميركية المقبلة، هل تنهي الصراع لصالح نظام دمشق وحده على اعتبار أنه المنتصر، أم تفرض مصالحة سورية سورية لحفظ التوازن وعدم تمكين فريق إقليمي واحد من الانتصار، أم يوضع المزيد من الحطب على النار وتستمر الحرب؟
* نقلا عن “الشرق الأوسط”