لم يهدأ بال لحكومة حزب العدالة والتنمية الاسلامي، حتى طرد آخر مسيحي من تركيا. فمنذ أن وصل الحزب الى السلطة 2002، وحكوماته تنتهج وبإمعان سياسية التميز العنصري (ديني وعرقي) تجاه المسيحيين. لم تتوقف عناصدار القوانين والفرمانات الجائرة، التي من شانها تشديد الخناق والحصار على من تبقى من أحفاد الناجين من “الابادة المسيحية” التي ارتكبها الأتراك العثمانيون عام 1915. آخر هذه الفرمانات الجائرة، مصادرة مئات العقارات التابعة للكنائس المسيحية، بذريعة وقوعها ضمن المخطط التنظيمي الجديد لمدينة ماردين بعد توسيعه مؤخراً ليمتد بعمق عشرات الكيلومترات في هضبة”طور عابدين”، حيث تتمركز التجمعات السريانية الاشورية المتبقية في تركيا. قرار مصادرة ممتلكات الكنائس، يندرج ضمن النهج القائم على تطهير تركيا من جميع المسيحيين، وينسجم مع سعي (حزب العدالة والتنمية الاسلامي) للعودة بتركيا الى دولة “الخلافة العثمانية الاسلامية”. أنه فصل جديد في مسلسل (تطهير المشرق، مهد المسيحية، من سكانه الأوائل) . القرارالجديد الجائر بحق المسيحيين ، كشفت عنه صحيفة ( آغوس) الارمنية، التي تصدر من استنبول، مؤسسها الصحفي الارمني (هرانت دينك)، اغتيل أمام مقر الصحيفة في إسطنبول من قبل شاب مسلم يدعى ” اوجون صاماست” في 19 يناير 2007 بدوافع الكراهية الدينية والعرقية. جدير بالذكر، أن السلطات المحلية في “ولاية ماردين” كانت قد شكلت عام 2012 “لجنة تصفية” ممتلكات الكنائس والمؤسسات المسيحية، تمهيداً لمصادرتها، بذريعة عدم تسجيلها في السجل العقاري. ومازالت عشرات القضايا في المحاكم التركية ،من غير أن يتم النظر فيها، تتعلق بالممتلكات والكنائس والأديرة المصادرة منقبل الدولة التركية أو من قبل مسلمين استحلوها وسطوا عليها. ناهيك عن أن عشرات الكنائس دمرت وأحرقت والكثير منها تم تحويلها إلى مساجد. جامعأولوجاميا” أكبر مساجد مدينة ديار بكر، كان كنيسة “مار توما”. كنيسة “آياصوفيا” في استنبول هي واحدة من الكنائس الاكثر شهرة في العالم ، تنتظر حكومة اردوغان الفرصة المناسبة لتحويلها الى “مسجد”.
وفق ما افادنا مصدر كنسي سرياني، اتصلنا به في مدينة (مديات) التابعة لولاية ماردين، أن الكنيسة السريانية الأرثوذكسية ،وحدها ستخسر نحو (50 عقار) بين (دور عبادة ومقابر ومدارس وعقارات سكنية وزراعية).العقارات(الغير دينية)، مثل المقابر والبساتين وغيرها، بموجب قرار الاستملاك الجديد، باتت “أملاك دولة” وتحت تصرف بلدية ماردين. أما ملكية دور العبادة ( أديرة وكنائس ومراكز دينية) بعد أن كانت “وقف مسيحي” بات “وقف اسلامي” ،لرئيس الشؤون الدينية( المفتي) في تركيا حق التصرف بها . بمعنى ، أديرة ومدارس دينية، يقيم فيها رهبان وراهبات وتضم عشرات الطلاب، قد تتحول في اية لحظة الى (مساجد ومراكز اسلامية)، إذا ما قرر ذلك رئيس الشؤون الدينية الاسلامية.
قرار مصادرة ممتلكات الكنائس في ولاية ماردين، له خلفيات وابعاد تاريخية وسياسية ومجتمعية. مدينة (ماردين ) تعود الى (العصر الآشوري) في الألفالأولى قبل الميلاد ،وهي تعني بالسريانية “القلعة”. لماردين أهميتها التاريخية ومكانتها الدينية لدى المسيحيين وبشكل خاص لدى الأرمن والسريان الآشوريين، لوجود فيها وفي محيطها ، العديد من الأديرة والكنائس التاريخية القديمة منها ( دير مار كبرائيل و دير الزعفران و دير مار ميخائيل). هذه الأديرة مازالت عامرة ، يحج اليها سنوياً ملايين الناس من مختلف انحاء العالم. ماردين كانت ذات هوية مسيحية (ارمنية – سريانية) بامتياز، قبل الابادة الجماعية لمسيحيي السلطنة 1915. القرار التركي، استهدف بشكل اساسي “المجتمع السرياني” عقاباً للسريان على رفضهمإعادة الكرسي البطريركي للسريان الأرثوذكس الى تركيا، الذي تم نقله من “دير الزعفران” القريب من ماردين الى سوريا في ثلاثينات القرن الماضي. إعادة الكرسي البطريركي للسريان الى تركيا، هدف تسعى اليه الحكومة التركية، ليس حباً بالسريان والمسيحيين ،وإنما لتجميل صورتها أمام العالم، من جهة أولى. وإذا ما تم نقل الكرسي من العاصمة السورية دمشق الى تركيا، فهذا من دون شك، سيشكل ضربة سياسية موجعة لحكم بشار الأسد “حامي المسيحيين والاقليات”، والذي تسعى أنقرة لإسقاطه، من خلال دعمها العسكري والسياسي للمعارضات السورية . قرار استملاك عقارات الكنائس،جاء رداً على مشروع قانون يقضي “بمحاسبة تركيا ومطالبتها بإعادةالكنائس التي خضعت لسيطرتها بعد إفراغ المنطقة من سكانها الأصليين”، اقرته يوم 26 يونيو من العام 2016، لجنة “العلاقات الخارجية في الكونغرسالأميركي”.
الى تاريخيه ، القرار لم ينفذ. في حال أصرت الحكومة التركية على تنفيذه ، سيكون له تداعيات وآثار خطيرة جداً على مستقبل الأقلية المسيحية المتبقية في تركيا. أضراره لن تقتصر على الماديات، بل الأخطر فيه، أنه يمس المشاعر الدينية للمسيحيين ويعد انتهاك صارخ لحقوقهم الدينة والاجتماعية،المحدودة أصلاً في تركيا. وإن تبدو فرص طي القرار ضعيفة في ظل حكومة اردوغان الاسلامية، تستعد الكنيسة السريانية لرفع دعاوى في المحاكم التركية لأجل طي القرار قبل أن يأخذ طريقه للتنفيذ. وإذا ما يئست من المحاكم التركية، سيُرفع ملف القضية الى “المحاكم الأوربية” والمنظمات الدولية المعنية بحقوق الانسان والشعوب المضطهدة .
باحث سوري مهتم بقضايا الاقليات.
shuosin@gmail.com
المصدر ايلاف