بقلم أحمد الجمال ٩/ ١/ ٢٠١٣
أشرت فى مقال الأسبوع الفائت إلى «الديالوج»، الذى جرى بين مجموعة حزب «التحرير الإسلامى»، الذين كانوا محكوماً عليهم فى القضية الدموية المشهورة باسم «الفنية العسكرية»، وكيف أنهم أقاموا جماعة منفصلة لصلاة الجمعة داخل عنبر سجن الاستئناف، وكادوا يفتكون بالعبد لله، لأنه تجرأ على مناقشة ذلك المسلك فى خطبة الجمعة، التى اضطررت لإلقائها بعد ضربهم إمام المسجد وخوفه من أن يقتلوه.. وأستكمل اليوم الوقائع التى جرت- فيما بعد- بسجن ليمان أبوزعبل، حيث تم ترحيلى مع بقية المسجونين السياسيين المتهمين على ذمة قضية انتفاضة يناير ١٩٧٧.
المهم وصلت أبوزعبل واستقبلنى أحمد فؤاد نجم ومعه مجموعة متميزة من الأصدقاء الشيوعيين المنتسبين لأكثر من تنظيم، وحللت معهم فى زنزانة رقم ٧، وكان المحكوم عليهم من شباب حزب «التحرير الإسلامى» يقضون عقوبتهم فى العنبر نفسه، ولكن فى زنزانة أخرى.
وقد انتظمت الحياة فى الحبسة، ثم جرى مصرع الشيخ الذهبى، وقبض على المتهمين بقتله، وجرى ضغط الزنازين ونقل المساجين من زنزانة لأخرى، وكان من نصيبى ومعى زملائى من الناصريين أن نحل محل جماعة «الفنية العسكرية»!
كنت قد تواصلت معهم إثر وصولى الليمان، وبدأنا نواصل الحوار الذى كان قد بدأ فى سجن الاستئناف، وركنت أؤدى الصلاة معهم فى زنزانتهم، غير أننى لم أستطع الاستمرار لإصرارهم على استطالة وقت أداء الفرض لدرجة مرهقة، ابتداء من ضبط استقامة الصف وتلاحمه كتفا بكتف وساعدا بساعد وجنبا بجنب وفخذا بفخذ وساقا بساق، حتى لا ينفذ الشيطان من أى فرجة! وليس انتهاء بتلاوة سورة كاملة من طوال السور فى الركعتين!!
ومن عجائب ذلك الحوار جدل حول التصوف، وحول إمكانية امتلاك البشر قدرات تخرق الزمان والمكان، وهم الأولياء الذين يعترف بهم ويحبهم ملتمسو المعرفة الصوفية من أمثالى، وطبعا رفضوا هذا الأمر وأنكروا التصوف والولاية والخوارق، وضربت مثلا بواقعة النبى سليمان بعدما جرى مع الهدهد، وقلت: إن الذى عنده علم من الكتاب هو الذى أحضر عرش ملكة سبأ، قبل أن يرتد طرف سليمان إليه، وتغلب بذلك على عظيم الجن «العفريت»، وأنه كان رجلا اسمه آصف بن برخيا.. واحتجوا وقررنا الاحتكام لتفسير «ابن كثير»، الذى يقتنونه فى محبسهم وأحضروه فإذا به يؤكد كلامى، وإذا بهم يصيحون بأنها نسخة مزيفة.
وذات يوم نادى شاويش العنبر أن غادروا زنزانتكم لتحلوا محل مجموعة «الفنية»، وخرجنا فى دقائق، مثلما فعل كل سكان الزنازين، وظللنا ننتظر أن تنتهى مجموعة «الفنية العسكرية»، من لم «العزال» دون جدوى، ومضى الوقت من الثامنة صباحاً حتى نادى الشاويش «التمام يا أفندية» الساعة الخامسة مساء، وهم لم ينتهوا.. وفى الخامسة والنصف تقريبا سمحوا لنا بالدخول لنفاجأ بالمشهد التالى. وأقسم بالله أننى لا أبالغ.. وأظنهم مازالوا أحياء يشهدون، الجدران التى كانوا قد طلوها بالزيت حاولوا إحراقها، والجزء الذى لم يحترق عجنوا أوراق الصحف المحترقة وهببوا بالعجينة بقية المساحة، ثم إنهم خلعوا الحنفيات من فوق حوض الغسيل ومن الحمامين ووضعوا مكانها خوابير خشبية.. ثم قاموا بعجن خليط من الجبس والأسمنت وسدوا عينى المرحاضين، ثم خلعوا صفا أو اثنين من بلاط الزنزانة، وهما الصفان اللذان كانا يغطيان السراديب التى أفرغوها لتخبئة ما يريدون، ثم خلعوا الكورنيشة الخشبية من تحت حلق الشباك.. المهم دمار شامل للزنزانة!
وذهبت من فورى إلى الشاب ماجد، الذى توسمت فيه اعتدالاً، لسماحة وجهه، ولم أقترب طبعا من الأمير سعيد دربالة، وسألت: ما هذا الذى فعلتموه؟ وجاءتنى الصاعقة: لقد عقدنا اجتماعا مطولا بقيادة الأمير وتناقشنا نقاشا حادا وطويلا، واتفقنا على تدمير المكان تأسيسا على قاعدة فقهية لدينا تقول: «إذا ترك المسلمون ديارهم لغير المسلمين فعليهم ألا يدعوا عامرا إلا وخربوه»!. وسألته: وهل نحن غير مسلمين، ألم أصلَّ معكم وزملائى كثيراً من الفروض، ثم ألم تعلموا أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – نهى أصحابه عن ردم الآبار وقطع الشجر ومهاجمة دور العبادة، فى حالة الحرب مع غير المسلمين، ولذا حتى لو كنا فى حرب فلا يجوز ما فعلتموه فى مصادر الماء؟!! وكان رده غمغمة غامضة!
نسيت أن أذكر أننا ذات صباح خلال شهر أغسطس استدعينا، الأستاذ الفنان زهدى وأنا لنقابل قائد العنبر المقدم عبدالعزيز عبدالله ونزلنا فإذا به يقول: لدىّ شكوى منكما، وهى أن مجموعة حزب «التحرير الإسلامى»، جماعة «الفنية العسكرية»، يشتكون من خروج أحمد فؤاد نجم مرتديا «شورت» قصيراً وفانلة بحملات إلى الممرات خارج الزنازين، وأنهم يخشون على أنفسهم من الفتنة الجنسية!.. وعدنا إلى «نجم» الذى أقسم أنه لن يتردد عن الخروج عاريا.. وطبعا كانت نكتة الحبسة أن يبدو جسد ووجه أحمد فؤاد نجم مثيراً للرجال!
هذا هو نمط التفكير.. ونمط التطبيق.. وأستغفر الله العظيم ولا حول ولا قوة إلا بالله. محمد البدري (مفكر حر)؟