الرحلة في القطار نيويورك – واشنطن تستغرق ساعتين و45 دقيقة. لكن إذا أردت مقعدا منفردا لا يجاوره جار يروي قصة حياته ويستفسر عن قصة حياتك، فالكلفة باهظة جدا. سألت عن الكلفة في درجة الأعمال، فقيل إنها كلفتان، واحدة بمقعد محجوز، وثانية بمقعد له جار، وللجار قصة حياة تروى.
هل من حل ثالث؟ لا حل ثالثا. السعر من أمامكم والجار عن يساركم. لم أقبل الاستسلام. قطعت تذكرة الجوار المفتوح، وصعدت مبكرا إلى الحافلة وجلست إلى جانب النافذة. حملت كتابا عربيا واضح الغلاف.
وبعد قليل تدفق الركاب. وبما أنني في أول صف في الحافلة فقد كانوا يهمسون بصورة عفوية بوضع الحقيبة على الرف ثم الجلوس. وتكرر المشهد: الراكب يضع الحقيبة ثم يبدأ بالجلوس، فيطالعه عربي منهمك في قراءة كتاب ذي أحرف عربية. فورا، يقف الراكب المسكين ويستعيد حقيبته ويمضي يبحث عن مقعد آخر، أو حافلة أخرى.
لست على خبث أو خداع. لكنْ للظروف أحكام. وقد تذكرت وأنا أشتري التذكرة ما حدث لمجموعة من الطلاب الهولنديين على طائرة «إيزي جِتْ». فقد شاهدوا شابا إيرانيا يقرأ في الكومبيوتر أمامه، وظنوا اللغة عربية، فرفضوا السفر خوفا. قررت أن أستخدم هذا السلاح البريء، وأنا أشعر بالخجل الآن. لكن الحقيقة أن ما وفرته كان يستحق التجربة. ولم تكن تجربة اقتصادية فحسب، بل كانت تجربة إنسانية مخزية، أي أن يصير للحرف العربي الجميل مثل هذا المفعول في هذا الزمان.
عندما أشرت إلى حادثة هولندا سابقا، كتب قارئ كريم إلى البريد أن المسؤول عن الصورة العربية هو الإعلام الغربي. صه.. أيها الإعلام الغربي المتآمر. ألم تشبع من القتل والدمار في سوريا؟ ألا يكفيك ماذا تفعل بالعراق؟ كفّ الآن، وفورا، عن السطو على النفط الليبي وبيعه. وأنت، أجل أنت، أيها الإعلام الذي يتقدم مسيرة الحوثيين إلى صنعاء.
ورانا ورانا، الإعلام الغربي. يفبرك الأفلام ويوزعها على التلفزيونات. يفجر المساجد في طرابلس. يغلي الرؤوس في مطابخ «داعش»، ويصور مجاعات الموت في مخيم اليرموك. ورانا ورانا، هو وأسياده الإمبرياليون الذين لا همّ لهم سوى تشويه صورة هذه البحيرة الساكنة المعروفة بلقب العالم العربي. نحو مليون قتيل مدني بين لبنان والجزائر وسوريا والعراق في أربعة عقود، والإعلام الشائن لا همّ له سوى تشويه صورة الأبوة والأخوة ووحدة عربية خالدة.
اطردوا الإعلام المتآمر. على الأقل إعلامنا التلفزيوني لذيذ، يخبرنا أن الطائرة الماليزية خطفها الأميركيون إلى قاعدة غارسيا لأن عليها علماء صينيين خبراء في الذرّة. بينما العالم الأهبل يفتش عنها في المحيط الهادي. أف!
نقلا عن الشرق الاوسط