“د. مرسي” الآن في مواجهة الإعدام وفي مواجهة الماضي في آن معًا، لكنه، حين أرادوا إذلاله أذلهم وروي للعالم كله من قفصه الزجاجيِّ نَسَبَ الأسد، كما أكد سلامة تصريحه الشهير بانخفاض جذوره إلي قبيلة “بني عبس” الشهيرة، تلك الجمرة من جمرات العرب وأحدّ قبائلهم شوكة، ذلك أن التحفز الطبيعي للقتال الذي أفصح عنه منذ أول ظهور له في الأسر، واهتزازات جسده العصبية، كان من أهم ما اختزنته ذاكرة التاريخ عن طقوس “عنترة بن شداد” في قلب المعركة، ولقد كنت من البداية علي يقين تام الدوائر بأنه سوف يتصرف هكذا!
وإن أنس لا أنسي مقولته الشهيرة:
– لا يقبلون الضيم!
كلمات عادية جدًا وأليفة جدًا، غير أن إيقاعاتها العميقة كانت مشحونة بامتدادات جعلت أصدائها تتجاوز اللحظة التي قيلت فيها إلي عشرات السنين المؤجلة، كأنه، عندما قالها، حشد لها كل جوارحه، أو، كأنه، قبل أن يقولها، زوَّدها بأجنحةٍ أنهكها القفص المزمن والعذابات فطارت بعيدًا وسوف لا تقبل أن تحط قبل أن تكتشف الحرية مجددًا أرض مصر!
وكما أن النسب قيمة لا يمكن تجاهلها عند تحليل أبعاد شخصية الإنسان كذلك المكان، وبالنسبة إلي “د. مرسي” فشخصية المكان تتسق تمامًا مع نسبه أو تنسجم معه علي الأقل، فهو من أبناء محافظة الشرقية، وهذا بعدٌ إضافيٌّ يصلح وحده تعليلاً لثباته المنقطع النظير!
فمما لا يخفي علي المصريين أن لكل إقليم في مصر شخصيته التي تميزه وتنسحب بالضرورة علي سكانه، ومما لا يخفي عليهم أيضًا أن الكرم هو أهم ما يميز إنسان الشرقية!
بلدياته، القاص الأكثر بساطة وامتلاكًا لأدواته “د. يوسف إدريس” قال ذات يوم:
“كون الشراقوة بلدياتي كرماء، مسألة لا نقض فيها ولا إبرام”
ثمة بعد آخر من أشهر أبعاد شخصية الشرقاوي وهو: ليس الاستعداد الدائم للدخول في عراك فقط إنما خلق الذرائع لاستدعائه!
لذلك، كانت للشراقوة وحدهم عادة اجتماعية خاصة فضحها بلدياتهم “يوسف إدريس” وثبتها علي الورق في مجموعته القصصية “حادثة شرف”، ولقد احتشد خلال كتابتها جدًا لكن قلمه لم يبلغ مرتفعاتٍ من الإبداع غير مسبوقة إلا في قصتين من قصص هذه المجموعة: “سره الباتع” و “تحويد العروسة”، والأخيرة، علي الرغم من إغراقها في الكوميديا، إسقاط مؤلم وشديد الواقعية علي الوضع الهزلي الذي الآن يعيشه المصريون!
ببساطة، لقد اتفق شراقوة ذلك الزمان علي تقليد غريب، وهو، إذا تزوجت فتاة في قرية غير قريتها لابد أن يخرج علي طول الطريق بين القريتين رجلٌ من أهل كل قرية أو كفر أو عزبة يمر بها الموكب لاعتراضه وتقديم عرضٍ باستضافته، وإذا قبل الموكب الاستضافة و “حوَّدوا” العروسة فهذا تبوُّل علي طهارة القرية كلها ووصمة عار لا تمحي، لذلك، كان أهل قرية العروسة يوم الدخلة يعلنون التعبئة العامة، ويجهزون مبكرًا كل أدواتهم القتالية، ويحرصون علي أن لا يتخلف عن الرحلة كل ذي ذراعين صالحين للعراك!
لابد إذاً أن يرفض الموكبُ التحويد كما لابد أن يصر المعترض علي استضافته بالقوة، هذا التضارب في الرغبات بالطبع سبب وجيه لاندلاع المعركة التي تبدأ عادة برجل أو رجلين ثم تترهل سريعًا إلي حد تصبح معه السيطرة عليها دون خسائر مستحيلة، يستعرض خلالها كل طرف قوته ومهاراته في الضرب والضرب بـ “الروسية” واللكم والركل والتحطيب والعض ولا تنطفئ قبل أن ينهك أحد الطرفين خصمه ويستهلك قوته حتي آخر قطرة، يحدث هذا طبعًا بعد أن تسيل دماء كثيرة وربما تزهق أرواح!
مسافة بين قرية وقرية لكنها مليئة باللذة والواقعية معًا، ولعل هذه العادة كانت، آنذاك، تسليتهم الكبري، أو، رياضتهم المحلية، لعلها، أيضًا، كانت السبب المفصلي في كثرة زواج الأقارب هناك، فليس معقولاً أو مقبولاً أن يُلقي عاقلٌ بنفسه وبأهل قريته في التهلكة تكريمًا لصهرٍ غريب لا تصل ابنته إليه إلا بعد آلام وأهوال إلا أن تكون ابنته قد بلغت سن الكساد وهذا الزواج المحفوف بالمخاطر هو فرصتها الأخيرة أو يكون هو من مشجعي تلك الرياضة الغريبة!
ومثلها مثل عادت كثيرة كانت وزالت، كان لابد أن يجئ يوم تنهار فيه تلك العادة، حدث هذا بفضل الشيخ ” رجب أبو شمعة “، رجل عصامي يحب المشي في ظلال الجدران، امتلك أفدنة قليلة لا عن طريق الوراثة إنما من الكد والجوع، وهو لم يختطف الضوء قسرًا إنما وضعته الأحداث صدفة في مقدمة الموكب علي حمارته القصيرة وفي قلب دائرة صنع القرار، لكنه، لحسن الحظ، كهل مجربٌ يستوعب حالة أهل قريته تمامًا ويحصي قدراتهم، وعندما اتخذ قراره كان علي يقين بأنهم لا يجيدون تربية المعركة وسوف يفرون بعد لحظات من اندلاعها، هو أيضًا مثلهم، لقد أصابه ما يشبه الذهول عندما اعترضهم عبدٌ فارع الطول وطلب منهم تحويد العروسة إلي قصر سيده، ولتهدئة ذعره لم يستغرق وقتاً طويلاً قبل أن يستدير إلي الخلف دون مقاومة ويصيح:
– حوِّدْ!
لم يكن يتصدي لخوفه فقط إنما للماضي أيضًا يحاول حلحلته، لكنه دون أن يقصد أجهز علي الماضي تمامًا، ذلك أنه بتصرفه هذا غير المألوف تسبب في طرد العبد “عنبر”، ذلك الماضي الأسود الذي لتحجره وركود عقله لم يستوعب حجم المياه الكثيرة التي جرت في النهر ولا أعداد النجوم التي احترقت منذ كان في خدمة سيده الأول، ولا أظن مثله قد استوعب أن الدنيا تغيرت حتي وهو يري الغضبَ يمرح علي وجه سيده الثالث الذي لم يعش أصلاً تلك العادة ولا هو احترمها عندما فوجئ بالموكب في ساحة القصر بحميره وجماله وخيوله، وأدرك، وهو المفلس، أن عليه الاستدانة لإطعام كل هذه المخلوقات وإلا سوف يشتعل انخفاض مكانته الاجتماعية السريِّ كفضيحة!
لقد فعلها “رجب أبو شمعة” رمز التجسير بين الماضي والحاضر وقدرة الإنسان علي إبداع التصدي بأساليب غير تقليدية، وهو لم يتوقف عن التمسك بأسلوبه الخاص في المواجهة حتي نهاية الرحلة، بل حتي الإحساس بلذة المهانة، ذلك أنه، علي طول الجبهة، كلما اعترض الموكب أحد، أي أحد، وإن كان قد تقدم بعرضه علي محمل السخرية أو لمجرد إبقاء العادة نشطة ومتصلة، وإن كان طفلاً عابثاً يمسك في يده عودًا من ذرة، استدار قبل أن يتم المعترض كلامه وأرسلها حية صاخبة:
– حوِّدْ!
هذا جعل العروسة تصل إلي بيت عريسها بعد أيام من بداية الرحلة التي لا تستغرق في غير هذه الظروف ساعات معدودة، وهذا أيضًا أبطل تلك العادة إلي الأبد، لقد أدرك “رجب أبو شمعة” أن الرغبة في العراك هي علة تلك العادة وما عرض الضيافة إلا الذريعة المؤقتة، ولأن وضوح الرؤية والتفهم السليم لباطن المشهد هو أول خطول في طريق النصر، استطاع بيسر شديد أن يهزم الماضي!
“د. مرسي” في رأيي هو المعادل الإيجابي المتوهج إلي حد الاحتراق للشيخ “رجب أبو شمعة”، فهو لم ينقض علي المقدمة إنما وضعته الظروف فيها وفي مواجهة “عنبر” أو العسكر ومحاولاتهم العقيمة والمهزومة حتمًا للتمسك بالأطلال وحراسة الماضي بالقوة، بالاعتداء علي أي موكب يحمل الحرية إلي المصريين وتحويده إما إلي القبور وإما إلي المعتقلات، لكن القوة وحدها لم تعد الآن تكفي، لقد تغير قانون الحياة، والعالم سوف لا يسمح بحدوث هذا طويلاً!
فأي غرابة في أن يسجنَ سجَّانَهُ شخصٌ مثل “د.مرسي”، وهو الذي، بالإضافة إلي أن دمائه تتصل بدماء قبيلةٍ احترفت الغارة، وينتمي إلي هكذا قوم احترفوا لعبة تحويد العروسة، وربما كان بعض أجداده قّتَلَوا أو قُتِلَوا لمجرد القتل المسلي خلالها، ينطلق من ثقافة إسلامية غير مشوبة تتبني القصاص كقيمة كبري من الواجب أن يلجأ إليها المسلم متي جار عليه جائر؟ لابد أن يتصرف هكذا، وأن يتصرف هكذا جدًا، ولا خوف منه أو عليه، لقد تراجعت الجدران أمام تقدم عينيه وصار يري الآن ما وراء الكواليس بوضوح عميق ويستطيع أن يزن المجازفات ويميز بين البدائل، إنما الخوف كل الخوف ممن يديرون المعركة في الهواء الطلق وتضارب انحيازاتهم وازدحام أساليبهم!
كما أن “السيسي” ليس أحسن حظاً، هو أيضًا في مواجهة الإعدام، لكن، وهذا هو الفارق الرحب، هو أيضًا في مواجهة المستقبل، وهو يدرك هذا، ولهذا، هو يريد أن يختطف مصر كلها إلي المحرقة، وكلما تقدم الانقلاب في العمر ازدادت الخسائر بمتوالية هندسية صاعدة الوتيرة، ولكبح الخسائر المؤجلة، أصبح من الواجب علي جميع المتضررين والمتضررين المؤجلين أن لا يسمحوا بحدوث هذا، وأن يتحدوا قبل نفاذ الوقت، وأن يعملوا سريعًا علي تنمية الجسور بين أيديولوجياتهم المختلفة، وأن يضعوا عطرًا نقياً يلائم نهاية منتصف العام وأن يكسروا صمت الميادين وخواء الشوارع لتحويد هذا الموكب الفاشل وإعاقته قبل أن تدهم مصر مواسم الأطلال!
محمد رفعت الدومي