تحرير العراق من صدام والبعث الفاشي
كما يراه / د. عبد الخالق حسين !
**
مقدمة كاتب السطور :
لا أحد من السياسيين العراقيين ,الذين برزوا بعد تحرير العراق من
الطاغية صدام ونظامه البعثي الفاشي ,كان شجاعاً كفاية وصادقاً مع نفسهِ والناس ,ليقف ويُصارح الشعب بحقيقة الموقف فيما لو لم يحدث التحرير.
غالبيتهم بما في ذلك مَنْ وصل الى السلطة والبرلمان كان يسمّي الحدثَ الكبير في تأريخ العراق الحديث ,إحتلالاً !
وأكثر مايبعث على الضحك الى حدّ البكاء في هذا الأمر أنّ رجالاً مثل علاوي والچلبي وغالبية مَنْ يُطلق عليهم أنّهم وصلوا على ظهر الدبابة الأمريكية ,هم أيضاً يسمّون الحدثَ إحتلالاً .
مع أنّهم قاموا بأنفسهم طوال سنوات (معارضتهم) بإقناع الإدارة الأمريكية للإقدام على هذا العمل ,قائلين حينها (وفقط في هذا كانوا صادقين) ,أنّ كلّ خيارات التغيير في العراق مسدودة أمام الشعب نظراً لقسوة وجبروت وطغيان صدام نفسه .
فهو رغم ضعفهِ الشديد الظاهر في سنيّهِ الأخيرة إلاّ أنّهُ مُمسِك بزمام السلطة بأظافره وأسنانهِ بواسطة جلاوزته وأقاربه القذرين .
ولن تلاقي أيّ محاولة للتغيير سوى الموت والبطش الشديد !
ما تقدّم هو أحد أسباب عزوفي مؤخراً عن متابعة أخبار بلدي العراق .
كوني اُصبتُ بأكثر ممّا يُسمى إحباطاً (ولعلّهُ يأساً) من وجود سياسي واحد نزيه يقول الحقيقة للناس ,ويدفعهم للتفكير السليم !
ناهيك طبعاً عن كميّة الفساد والأنانية والطائفية التي (إنكشفت) في نفوس الغالبية للحصول على حصّتهم رغم شعارات الديمقراطية الرنانة .
تخيّلوا حتى الداعشيين يتحدّثون عن الديمقراطية مقابل التهميش .
رغم ماكشفته صحيفة ال( لوفيجارو) الفرنسية مؤخراً ,ونقلاً عن مختار لاماني (ممثل الأمم المتحدة السابق في دمشق) ,من أنّ معظم كوادر تنظيم داعش هم من ضباط ومخابرات صدام حسين ,وأنّ المانحين خليجيين ! (الرابط الثالث ,لمن يشاء الإطلاع على التفاصيل)
والحال الذي تأبى الغالبية الإعتراف به هو أنّ إزاحة ثمّةَ قفلاً حديدياً (صدّام) عن السجن العراقي الكبير ,أنتج كلّ هذه التداعيات والتناقضات والصراعات التي كانت مكبوتة مخزونة مضغوطة في النفوس بفعل الطاغية !
فمن الطبيعي أنّ المظلومين يتوحّدون ويتشاركون الهموم أمام ظالمهم .
لكن بعد تبخرهِ (بمعجزة مُفاجئة) تحصل الصدمةُ الكبرى والرغبة الجامحة في إستراداد ما فاتَ من حرية وهناء ورفاه بلحظة واحدة .
نعم الشعب العراقي عموماً أراد بعد التحرير و بضغطة زر أمريكي واحدة ,تحوّل جحيم العراق الى جنّة عدن أو ولاية فرجينيا أو مشيغان الأمريكية ,دون حتى بذل أدنى جهد يُذكر في سبيل ذلك النهوض الحالم .
وعندما إصطدم بالواقع الأسود المرير بسبب سلبياتنا وتراثنا والتركة الثقيلة لحكم الطاغية ,راحَ يلعن سنسفيل الأمريكي الذي جاءَ من آخر الدنيا لتحرير العراق !
وفي هذا المجال تكاد لا تُفارقني تلك اللقطة التي يرّد فيها مواطن عراقي بائس على صحفي يسألهُ بعد التحرير : هل أنتَ مقتنع بالوضع الجديد ؟
فيجيب ببلاهة شديدة ,كيف أقتنع ؟ اُنظر الى حالنا ,كلّ شيء كما كان .
اُنظر الى الأزبال والقمامة تملأ المكان ,هل هذا هو العراق الجديد ؟
أنا اُدرك تمام الإدراك أنّ النهوض الحقيقي لايتّم بتغيير أسماء الجامعات والمؤسسات والمُدن والطرق والجسور من (صدام والبكر والبعث) .. الى (الكاظم والصدر والعباس) !
وهو لن يتّم بخطّة أمريكية أو حتى رغبة كلامية شعبية عراقية عارمة .
إنّما بالعمل والجهد والإعتراف بالسلبيات لأجل توفير بداية صحيحة .
ومهما قلنا ف (الحتمية التأريخية) لن يتّم تجاوزها أو القفز عليها ,ولن يتّم حرق المراحل ,فهذا واقعنا وعلينا الإعتراف به ,والبدء بالتحوّل من كوننا (ظاهرة صوتية) ,الى إشاعة مباديّ العمل والعلم والنهوض الحضاري الحقيقي !
***
د. عبد الخالق حسين !
هو أحد القلائل من الكتّاب والباحثين السياسيين التنويريين الذين يعرفون البير وغطاه ,ويسمّون الأشياء بأسمائها .
لقد كتب هذا الرجل كثيراً لأجل تحليل الواقع بصدق في محاولة للخروج من النفقِ المُظلم الذي طال أكثر ممّا هو متوّقع (حتى مع الأخذ بالحسبان سلبياتنا الأزلية).
وطالما قوبلَت مقالاتهِ بالتخوين والتشكيك والطائفية من الأطراف المتناقضة في العراق .
وهذا يذكرني بفكرة مُعلمّي الأوّل (د. علي الوردي) الذي يُعتبر خيرَ مَنْ حلّل شخصية الفرد العراقي والمجتمع عموماً .
يقول ما معناه : [ في بلدنا ,الويلُ للباحثِ المُحايد الذي يهتّم للحقيقة من دون إرضاء أحد الأطراف ,فغالباً سوف يخسر تعاطف الجميع ]
وهذا ما اُلاحظهُ عن كثب من أسماء الكتّاب والمُعلقين الذين يعترضون بشدّة على كتابات د.عبد الخالق حسين .
على كلٍ هذا المقال هو مساهمة متواضعة منّي لإيضاح الصورة .
وهو عبارة عن تلخيص لأفكار الرجل ونظرته المستقبلية لحال البلد الجريح أوضحها من خلال مقال رائع بجزئين بمناسبة الذكرى الحادية عشر لتحرير العراق من أبشع طاغية عرفه التأريخ .
وكلّ جملة أو معنى تُناقض ماكتبَ الدكتور عبد الخالق ,فكاتب السطور مسؤول عنها !
***
في الجزء الأوّل من المقال
يعرض لنا د. عبد الخالق حسين ,بعض الأسئلة الجدليّة التي مازالت تدور بين المُهتمين بالوضع العراقي حتى بعد مرور 11 عام على التحرير ,مثل :
هل يستحق الأمر كلّ تلك التضحيات ؟
أما كانت هناك طريقة أفضل لإسقاط النظام ؟
وهل أصبح العراق والعالم عموماً أكثر أمناً بعد زوال صدّام ؟
يقول :
المشكلةُ الأولى أنّ مُعظم الناس في بلادنا مُبرمجين على عداء أمريكا عمّال على بطّال .مثلما هم مُبرمجين (ولايوجد سبب واحد مُقنع لذلك) على أنّنا خير اُمّة اُخرجت للناس وأنّنا وحدنا على طريق الخير سائرون أمّا الباقي المختلف عنّا فإلى الجحيم ذاهبون .
نعم العراق أفضل اليوم ممّا كان عليه في عهدِ صدام الفاشي !
في الديمقراطيّة ,يكاد يكون البلد الوحيد في المنطقة (ماعدا إسرائيل طبعاً) يتمتع شعبه بها .بل يُبالغ البعض في فهم الديمقراطية ويتخيلونها سبّاً وشتماً للإدارة الحكومية على طول الخط ,دون المشاركة بالبناء والإصلاح .
هناك فرق واضح في حال الشعب ,إقتصادياً وإجتماعياً وسياسياً وخاصة في حرية التعبير والتنظيم .
اليوم هناك عشرات الفضائيات والإذاعات ومئات الصحف أغلبها مُلك القطاع الخاص ,إضافة إلى آلاف مواقع الإنترنت ومئات الأحزاب السياسية وأكثر من 4000 منظمة إجتماعية وثقافية .
ناهيك عن الكومبيوتر والموبايل والساتلايت التي كانت حُلم بعيد المنال .
بينما أعداء الديمقراطية والوضع الجديد (وجُلّهم من البعثيين) يضيفون كلّ تركة صدام من حروب وخراب ومآسي وفواجع وأرامل وأيتام ومعوّقين ,يقولون عنها هذا ما جاءت به أمريكا .
أفهكذا تُقاس الأمور ؟ أم هذا هو الإنصاف ؟ وكيف يكون الجحود إذاً ؟
إصغوا لما قالهُ توني بلير لل
BBC
في العام الماضي:
[ .. إنّ قضية العراق تبقى خِلافية…لقد إقتنعتُ منذُ مدّة بعدم جدوى محاولة إقناع الناس بأن القرار الذي إتخذناهُ كان صائباً ] ,ثمّ أضاف :
[ ..فلو أنّنا لم نزح صدام حسين من السلطة ,ما الذي كان سيحدث لو أنّ هذه الثورات العربية قائمة وصدام يحاول قمع إنتفاضة في العراق؟
علماً أنه أسوأ من بشار الأسد بكثير ]
هذا القول في الواقع يذكرني بمقولة (ونستون تشرشل) أعقاب تحرير الإنكليز للعراق من أبغض إحتلال عرفه التأريخ (هو الإحتلال العثماني بالطبع) .مع ذلك أوصى بعض رجالُ الدين البلهاء, الناسَ بالخروجِ عليهم في ثورة العشرين .فقال تشرشل يومها قولته المشهورة :
[ آهٍ من العراق ,يا لهُ من بركان ناكر للجميل ! ]
واليوم هل يمكن أن نتوقف برهة لنسأل أنفسنا السؤال الصريح :
مَنْ كان أنفع لنا : العثمانيين الأتراك ,أم الإنكليز ؟
صدام ونظامه الفاشي ,أم الأمريكان ؟
أوّاه علينا وعلى مستقبل أجيالنا إذا لم نجرؤ حتى على الإعتراف بالواقع!
***
يستمر د. عبد الخالق حسين في حديثه :
ليس هناك إنسان سليم العقل يرغب بالحرب ,خاصة على بلاده .
لكن ما العمل إذا كان البديل هو الأسوء شرّاً ؟
(ضحايا صدّام في الإنتفاضة الشعبانية فقط تجاوز الثلث مليون إنسان)
لذلك نعتقد أن حرب تحرير العراق كان لا بّد منها ومُبررة !
فنظام البعث كان حرباً دائمة على الشعب العراقي .ناهيك عن حروبه ضدّ إيران والكويت والعالم أجمع لو قُدّر لهُ ذلك .
وفي هذا الخصوص يقول الفيلسوف الكوبي خوسيه مارتي :
[ مُجرم من يخوض حرباً يمكن تفاديها.ومُجرم من لا يخوض حرباً لا يمكن تفاديها ]
والواقع أثبتَ لنا أنّ الحرب على الفاشية البعثية لم يمكن تفاديها البتّه !
***
إعتراضات أعداء تحرير العراق
يعترضون بالقول : أنّ بوش وبلير قد رتّبا إسقاط نظام صدام بناءً على الكذب بامتلاكه أسلحة الدمار الشامل .
وأنّ ذلك لم يكن لسوادِ عيون العراقيين ,أو لإقامة نظام ديمقراطي .
بل لنهب نفط العراق وإستعباد شعبهِ وقتله خدمةً لإسرائيل .
وأنّ الحربَ غير مشروعة ,لأن أمريكا لم تحصل على تخويل من الأمم المتحدة .
ثمّ يتلون قولهم : “ما بُني على باطل فهو باطل” !
والرّد على تلك الإعتراضات هو التالي :
كلّنا نعلم أنّ صدام إمتلكَ أسلحة دمار شامل (الكيمياوي مثلاً) بل إستخدمها ضدّ شعبه .وقد صرف جزءً مهماً من ثروات البلد على هذا النوع من التسليح .وكونهم لم يعثروا عليها لا يعني عدم وجودها فقد يكون نقلها الى النظام السوري قبل سقوطه بأيّام حسب نصيحة روسية !
أما أمن إسرائيل فهو جزء من إستراتيجية أمريكا وباقي الدول الغربية ,
وهذا ليس سرّاً يخفونه .
لكن هل حقاً كان صدام حسين يشكل خطراً على أمن إسرائيل ؟
أي مراقب سياسي مُبتدء ,يعلم أنّ سياسات صدام الطائشة قد خدمت إسرائيل بقدر ما أضرّت القضية الفلسطينية والعرب عموماً .
عن طريق زعمهِ (الأجوف) بحرق نصف إسرائيل ,ودعمهِ للإرهابيين أمثال أبو نضال ,وإحتلاله الكويت .
وعن مصلحة أمريكا وسواد عيون العراقيين فهذه حقيقة لا يُنكرها عاقل
إذ لاتوجد وجبة مجانية
(There is no free lunch)
حسب المثل الإنكليزي .إنّما الجانب الآخر من تلك الحقيقة ,أنّ مصلحتهم إتفقت وكانت تصّب في نفس النهر ,ألا وهو تحرير العراق وشعبه من قبضة الطاغية صدام .
وأثبتت الأحداث اللاحقة (الربيع العربي) أنّ عملية تحرير العراق كانت هي المفتاح السحري !
وعن كون أمريكا جاءت لنهب النفط العراقي !
فهذه أغبى مقولة يُناقضها الواقع الذي يقول بصرف أمريكا مايفوق التريليون دولار .عدا خسارة مايقرب من 4500 من شبابهم .ثم خروجهم بخفيّ حنين .
وهم حالياً يشترون بعض النفط العراقي بأسعار السوق السائدة ,
وليس كمثل زمن صدام الذي كان مستعداً لإعطائهم النفط بالمجان مقابل الإبقاء عليه .فعلى مَن تعبر تلك الإكذوبة البائسة ؟
كما أنّ تراخيص الإستثمار التي وقعّتها الحكومة العراقية مؤخراً تمّت مع شركات تابعة لدول وقفت ضد الحرب على صدام (روسيا والصين مثلاً)
أمّا الشركات الأمريكية فكانت هي المُتضررة.
وهذا يدحض جميع الإدعاءات القائلة أن أمريكا أسقطت صدام من أجل نهب ثروات العراق النفطية !
أمّا كون هذه الحرب لم تحضَ بموافقة مجلس الأمن الدولي ,فهل حظيت الحرب في البلقان (على الفاشي الصربي ميلوسوفيج) على تلك الموافقة ؟
علماً لولا تدّخل أمريكا لاُبيدت شعوب البلقان عن بكرةِ أبيها ,خصوصاً مُسلمي البوسنة وكوسوفو,على حدّ تعبير(علي عزّت بيكوفيتش) أوّل رئيس لجمهورية البوسنة والهرسك .
***
ولماذا أقدمت أمريكا إذاً ,على إسقاط حكم البعث ؟
السبب واضح ,فصدام نفسهُ هو الذي جعلَ القضية العراقية قضية دولية
بشنه الحرب على إيران وغزوه للكويت وبرناوجه النووي وإدعائه الزائف بحرق إسرائيل, وإشاعته بنفسه لفكرة إمتلاك أسلحة الدمار الشامل, فحتى لو كان كاذباً إلاّ أنّهُ تجاوز كلّ الخطوط الحمراء !
وفي هذا الصدد ذكر صموئيل هانتنغتون (صاحب كتاب صِدام الحضارات), مايلي :
[ لو أنّ صدام حسين أجّلَ إحتلال الكويت لثلاث سنوات,لما استطاعت أمريكا إخراجه منها ,كونه سيمتلك السلاح النووي خلال تلك الفترة ]
ولاننسى دور عملية 11 سبتمبر 2001 الإرهابية في تغيير موقف أمريكا من الأنظمة المستبدة المارقة كحكومة طالبان وصدام والقذافي وغيرهم ,فقرّرت محاربتهم بعد أن كانت إستفادت من طيشهم .
وعندها إنقلب السحر على الساحر فإستفادت الشعوب المضطهدة من إزاحة هؤلاء الطغاة .
وهذا هو حكم التاريخ العادل ,أو ما يسمى بمكر التاريخ !
***
ثمن الخلاص من حكم الطغيان !
لا أحد يُنكر الثمن الباهض المدفوع (والمستمر الى يومنا) لإسقاط حُكم البعث والطاغية صدام .لكنّهُ بالتأكيد أقّل بكثير (نوعاً وكمّاً) ممّا لو بقيّ صدام في الحُكم ,وسلّمه بعده لأولادهِ ثمّ أحفادهِ !
[ إنّ كلّ هذهِ الفظاعات لا تقترب بشيء من إستمرار حكم الطغيان ]
هذا قول المفكر (كانت) عندما سُئِلَ عن رأيه بأحداث الفوضى أعقاب الثورة الفرنسية .علماً بأن الملك لويس السادس عشر كان أقل ظلماً من جميع أسلافه من ملوك فرنسا .وهو بالتأكيد يُعّدُ ملاكاً مقارنة بصدام حسين !
لو لم تقم أمريكا بإسقاط نظام صدام ,لأستمريّنا في دفع الثمن طوال الحياة
ولأستمرَ معها ترحيل حلّ تلك المعضلة للأجيال القادمة .
وهذا هو أسوء أنواع الحلول قاطبةً !
يقول المفكر الأمريكي
( Thomas Penn) :
[ إذا كان ولا بدَّ للشر من أن يقع ..فليقع في زمني ! لأنّي أريد أن يعيش أولادي بسلام ]
ويقول الشاعر التونسي الخالد أبو القاسم الشابي :
ومنْ يتهيّب صعودَ الجبالِ … يعشْ أبدَ الدهرِ بين الحُفَرْ !
إنتهى الجزء الأوّل
****
الجزء الثاني من المقال
يستمر د. عبد الخالق حسين في مقاربة الواقع وطرح الأسئلة :
هل ما تحققَ بعد إسقاط حكم البعث من أرباح يفوق الخسائر أم العكس ؟
ماذا لو لم يسقط حكم البعث ؟
هل كان بالإمكان إسقاط حكم البعث بخسائر أقلّ ,كما يعتقد البعض ؟
ثم يجيب على تلك الأسئلة كما يلي :
مشكلة بعض المُساهمين في هذا الجدال (من أصحاب النوايا الحسنة) أنّهم ينظرون إلى المسألة نظرة شخصية ,فيصورون الأمور كما يتمنّون . قائلين أنّ أمريكا كدولة عظمى كان بإمكانها إسقاط حكم البعث بأسهل الطرق وأقلّها تكلفة .لكنها تعمّدت إتباع أخطر الطرق وأكثرها خسارة لأنها تريد نشر الفوضى في العالم ,خدمةً لإسرائيل !
( مقولة الفوضى الخلاّقة التي يستعين بها أصحاب ذلك الراي ,تحتاج مقال منفصل لإيضاحها / كاتب السطور )
يكمل د. عبد الخالق حسين حديثهِ :
في الحقيقة هذه مجرد تكهنات ورغبات غير قابلة للتطبيق .
إذ كما يقول المثل الانكلزي: بعد وقوع الحدث ,الكل يصبح حكيماً !
(after the event everybody is clever)
فالكل يعرف أن صدام حسين هو صاحب عبقرية في الشرّ
(criminal genius) .
وذلك بما عُرف عنه من سلوك عدواني دموي وعقلية تدبير إنقلابات خيالية من أجل إستدراج الانقلابيين المحتملين لإيقاعهم في المصيدة. (راجع كتاب ليلة الهرير/ للسيد أحمد الحبوبي)
وكان قد خطط لتحويل العراق إلى إمارة بعثية تحكمها سلالته إلى أمد غير منظور (على طريقة كوريا الشمالية) !
فصدام كان قارئاً نهماً لكتب التاريخ والسياسة والخُبثِ والدهاء .
جمع بين القديم والحديث من الأفكار التي تخدم أغراضهِ لإحكام قبضتهِ على رقاب العراقيين والحفاظ على السلطة بشتى الوسائل .ولقد طبق نظرية بن خلدون في تأسيس سلطة السلالة (توافرالعصبية) وطوَّرها وحولها إلى مختلف العصبيات :الأسرية والقبلية والحزبية والطائفية وحتى المناطقية .ثمّ وظّف كلّ تلك العصبيات للحفاظ على سلطته !
كما أنفق مليارات الدولارات من أموال الشعب على تكوين كوادر إعلامية وتعليمية ,لنشر آيديولوجية البعث الصدامي ,وللهيمنة على تفكير الشعب العراقي وسايكولوجيته وتوجيهه وقولبته وفق مبادئ الحزب والعشيرة ,وزرع اليأس والإحباط في نفوسهم .
فصار العراقي يعتقد بأن حُكم البعث كالقدرِ المحتوم لا مفرّ منه .
وإلاّ فإنّ مصيره السجن أو النفي أو الإعدام !
وأمام ذلك البلاء إنشق المجتمع العراقي الى فرق عديدة منهم النفعيين الإنتهازيين,ومنهم المستسلمين لقوى غيبية ,ومنهم اليائسينَ من أيّ إصلاح الذين فرّوا بجلودهم الى الخارج وإصطفوا مع المعارضة ,وصنف رابع مارسّ القتل والإجرام كي يعيش !
***
أهو دفاع عن أمريكا ؟
عندما نطرح هذه الحقائق وغيرها يتّهمنا البعض بأننا ندافع عن أمريكا وبالخيانة الوطنية .
في الحقيقة نحن لا ندافع عن أمريكا ,إنّما ندافع عن شعبنا وعن عقولنا لأننا نرفض تصديق التلفيق والتزييف والكلام العاطفي المؤدلج .
آخرون يبرّرون كراهيتهم وهجومهم على أمريكا ,لوجود مُفكرين أمريكان ينتقدون سياسة حكومتهم .
هذا صحيح في الواقع ,لأنّ امريكا دولة ديمقراطية ليبرالية ,وحرية الرأي والتعبير فيها مُقدّسة . ثمّ أنّ أمريكا ليست دولة صغيرة قد يجتمع شعبها على رأي رجلٍ واحد .إنّها تكاد تكون قارة متكاملة ,وإقتصادها لوحده يفوق ربع الإقتصاد العالمي مجتمعاً ,وحتماً سوف نسمع هناك كلّ الآراء المتضادة في قضية واحدة .
لكن في شأن الحرب على صدام فقد كانت أكثرية الشعب الأمريكي موافقة بدليل إنتخاب (جورج دبليو بوش) لولاية ثانية بعد تلك الحرب !
ولاحظوا النقطة التالية : يقول كارهوا أمريكا أنّها الشيطان الأكبر ومصدر الشرّ في هذا العالم .
حسناً فهل هذا (الشيطان) من الغباء ليصرف تريليون دولار ( تذكروا الأزمة المالية وأسبابها عام 2008 ) وأكثر من 4500 قتيل وأكثر من 30 ألف إصابة .في حين أمامهُ طريق آخر أقلّ خسارة وتكلفة ؟
إن تلك إلاّ مجرد تمنيّات وأفكار رغبوية ليس أكثر !
ثمّ أنّ هنالك حالات يُضحّى فيها بخسائر معيّنة مقابل خسائر مُستقبلية مُضاعفة عشرات أو مئات المرّات .
مثال الحرب العالمية الثانية ومواجهة دول المحور (النازية والفاشية)
التي كلّفت أوربا نحو 55 مليون قتيل وأضعاف هذا العدد من المعوقين والأرامل واليتامى .وعشرات المدن سوّيت بالأرض وأوصلت أوربا إلى الإفلاس التام والخراب الشامل لولا خطة مارشال الأمريكية لإعادة بنائها
لكن مع ذلك أثبت التاريخ أن هذه الحرب كانت ضرورية ,ولولاها لكانت البشرية الآن مُستعبدة تحت نيرِ الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية وطغيان العسكرية اليابانية !
نفس العواقب المُرعبة كانت ستتكرر في العراق ومنطقة الشرق الأوسط لو تركت أمريكا صدام يحكم العراق ويعيثُ في المنطقة فساداً .
ويرى البعض أنّهُ كان يجب إزاحة صدام وبعض معاونيه فقط ,والإبقاء على المؤسسات العسكرية والأمنية والثقافية على حالها .
وهذا مستحيل أيضاً إذ كما يقول الإنكليز
(Easy said than done)
فصدام جعلَ من الدولة العراقية أشبه بهرم مقلوب قائم على رأس صدام نفسه فما أن يسقط هو حتى وتنهار الدولة بجميع مفاصلها ومؤسساتها !
يريد هؤلاء (سامحهم الله) تحويل الجحيم الى جنّة عدن بعصا سحرية ودون أدنى خسارة ,ولا حتى مشاركة بالعمل .
فلماذا نهضت الشعوب التي ساعدتها أمريكا كألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية , بينما لم ننهض نحن ؟ ألا يعني ذلك أنّ العيبَ فينا ؟
والآن صار معلوم للجميع ,أنّ ثقافة الديمقراطية تحتاج الى وقت ليس بالقصير ليهضمها شعبنا الذي عاش طيلة حياتهِ تحت حُكم الإستبداد والطغيان !
***
ماذا تحقق بعد إسقاط حكم البعث ؟
نعود أخيراً الى السؤال المُهم وبيت القصيد في هذه الإشكالية :
ما هي المنجزات المُتحققة للعراقيين ليستحق الأمر كلّ تلك التضحيات ؟
رغم كلّ ما قيلَ ويُقال ,ورغم الحملات الإعلامية التسقيطية من أعداء التغيير ,فلا يستطيع مراقب مُحايد إنكار الحقائق التالية :
1/ تحقّق حُلم العراقيين بإسقاط أشرس نظام دكتاتوري عرفته المنطقة .
2/ تمّ إصدار دستور دائم محترم بمستوى دساتير العالم الحُرّ ,
رغم بعض النواقص التي تعتريه وتحتاج المعالجة مستقبلاً .
3/ إحترام التعددية بجميع أشكالها ,القومية والدينية والمذهبية والسياسية .
4/ خلال السنوات الماضية اُجريت ثلاث إنتخابات برلمانية والرابعة على الأبواب .ومثلها إنتخابات لمجالس بلدية محلية نزيهة .
5/ بناء مؤسسات الدولة الخدميّة (المستشفيات والمدارس والمعاهد والجامعات) ,وإعادة بناء المؤسسات العسكرية والأمنية وغيرها .
6/ إرسال آلاف البعثات الدراسية الى الجامعات الغربية دون تحيّز .
7/ صيانة وتأهيل المؤسسات النفطية ,العمود الفقري للاقتصاد العراقي . وزيادة انتاج النفط وبلوغه أرقاماً قياسية .
8/ بلغت التنمية في العراق 11% وهذا رقم كبير نسبياً بالقياس العالمي .
9/ تبنى العهد الجديد نظام إقتصاد السوق والإنفتاح الإقتصادي .
10/ بلغت ميزانية العراق السنوية 130 مليار دولار .
11/ إقامة شبكة واسعة من الاعانة الاجتماعية للمحتاجين .
12/ المباشرة بمشاريع إسكان جديدة ضخمة لسّد النقص الكبير .
13/ إعادة تأهيل المصانع العراقية التي توقفت في زمن صدام .
14/ إختفاء ظاهرة السجين السياسي ,وإقتصار السجن على الإرهابيين .
15/ الجيش أصبح تطوعياً وحرفياً ,وهذا همّ كبير اُزيح عن كاهل الشباب الذين كانوا يقضون زهرة شبابهم في الحروب العبثية لصدام .
16/ حرية الصحافة وحرية الفكر والمُعتقد والتعبير والنقد والتنظيم الحزبي ,والفضائيات وأغلب أصحابها من معارضي الوضع الجديد .
17/ زيادة دخل الفرد العراقي مئات المرّات ,بعد أن كان راتب المهندس أو الأستاذ الجامعي ,يعادل بضعة دولارات في أواخر زمن صدام !
18/ توأمة الجامعات العراقية مع كبريات الجامعات العالمية الغربية .
19/ معالجة معضلة الطاقة الكهربائية بحيث سجلت ولأول مرة في تاريخ العراق فائضا قدر بـ 1000 ميغاواط .
20/ البدء بمشاريع مستقبلية عديدة من بينها ربط العراق بمحيطه بشبكة أنابيب نفط والسعي لإقامة خط سكة حديد يربط العراق بأوربا .
وغير ذلك كثير ,لا تراهُ عيونَ الأشرار وكارهي العراق الجديد عراق ما بعد صدام حسين ,الذي توّقفت فيهِ الحياة أو كادت !
(إنتهى تلخيص مقال د. عبد الخالق حسين .. بجزئيه )
***
الخلاصة :
شعوبنا عموماً لا تقرأ !
وإن قرأت ,فأيّ نوع سوى ما اُسمّه (القراءة الصفراء) تلك التي تزيد الطين بلّه وتُبلّد العقول والضمائر .
وبدل خلق مواطن يفكّر بطريقة عقلانية علمية نقدية واعية .
فكتب تُراثنا وتأريخنا (وغالبيتها مُزوّر أو مُبالغ فيه) تقود الى التفكير الظلامي بحديثها عن إنتصارات دونكيشوتية وهميّة .أو ربّما هي حقيقيّة ,لكنها أصبحت في عالم اليوم تُعّد جرائم يندى لها جبين الإنسانية ولاينبغي التفاخر بها على أيّة حال !
وفي حالتنا العراقية الراهنة فقلّما قرأتُ مقالاً علمياً واقعياً عن هذا الحدث
في بداية تعرّفي عليه ,كنتُ اُسمّي (د.عبد الخالق حسين) مُعلمي في السياسة .لكنّهُ لسماحة نفسه يأبى ذلك, ويدعوني صديقاً أو زميلاً .
ربّما إيماناً منهُ بفكرة نيتشه :
((إنّها لمكافأة رديئة للمعلّم أن يظّل المرء على الدوام مُجرّد تلميذ )) .
في الواقع إحترامي لهذا الرجل ليس فقط كونه يقول الحقيقة التي يؤمن بها ويدافع عنها بعقلانية وهدوء دون تطرّف وتشنّج وسباب, معروف عند غالبيتنا كعراقيين .
الأهمّ من ذلك كلّه ,أنّهُ لا يتجاهل الحقائق ولا يهرب منها .
بل يُسمّي الأشياء بأسمائها ومعانيها .وهذا ما نحتاجهُ من دون اللف والدوران والرقص على الكلمات والعقول .
وسؤالي الوحيد للعراقيين عامةً :
أكان ينبغي علينا عدم الإقتراب من (القفل) الى الأبد ؟
يقول الكاتب الأمريكي الشهير أندي روني :
تجاهل الحقائق .. لا يُغيّرها !
***
الروابط
1/ رابط الجزء الأوّل
(من مقال د. عبد الخالق حسين / إسقاط حُكم البعث في الميزان)
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/index.php?news=643
2 / رابط الجزء الثاني
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/index.php?news=644
3/ قادة داعش من مخابرات صدام والتمويل خليجي
http://alakhbaar.org/home/2014/4/166842.html
تحياتي لكم
رعد الحافظ
22 أبريل 2014