في نهاية كل عام جامعي تقيم الشركات معرضاً لاستقطاب الخريجين الجدد المميزين، وتتسابق في استعراض امتيازاتها سعياً إلى استقطاب أكبر عدد منهم. في ظل هذه الفوضى التي يشهدها العالم العربي أصبحت «الشهادة» هي السلعة الرائجة لجميع الأطراف، فالكل يدّعي أنه بوابة الجنة والطريق الوحيد إليها ومن يموت معه فإن الجنان له مضمونة.
تستثمر الجماعات كل الزخم المعنوي للشهادة في الإسلام باعتبارها إحدى أهم نتائج الجهاد، ومن ثم تحور منطقها لبرهنة أن عملها هو الجهاد النقي وما سواه ردة وكفر بواح.
المشهد الأكثر تنوعاً في سورية: قتلى النظام الأسدي و «حزب الله»، ونحو 14 جماعة جهادية هم شهداء بحسب البيانات الرسمية لكل جهة، بينما المجندلون من الطرف الآخر فإلى جهنم وبئس المصير، ولا يختلف الحال كثيراً في العراق وليبيا. اللافت أن الجميع يتسابقون لنشر صور قتلاهم بوجوه مبتسمة يقينية الملامح للتأكيد على معنى الشهادة واستحضاراً لكل علامات الشهادة ثقافياً في الذاكرة الإسلامية واسترجاعاً لما ابتدعته التجربة الأفغانية من ملامح للشهادة.
الأحلام أياً كانت طبيعتها يفسرها المعبرون على أنها إشارات شهادة، فظهور امرأة في الحلم يشير إلى الحوريات، الابتسامة تعني اقتراب الشهادة، ركوب سيارة يدل على اقتراب الذهاب للجنة، أما إن كان الحلم من طرف معارض فإن التفسير يتبدل كلياً إلى الصورة القاتمة، فتكون المرأة دلالة الانغماس في الفساد، وركوب السيارة طريقاً إلى جهنم لأنها صناعة كفار.
كل الجماعات تتباين في أطروحاتها الشرعية ومنطلقاتها المذهبية، إلا حين يجيء ذكر الشهادة فتتفق جميعها على صفات محددة، لكنها تحرص على استدراجها إلى دائرتها الخاصة، ومحاولة مطابقة هذه الصفات على بصمتها.
الإعلام المهني لم ينج من هذه الانحيازات، بل لعله يكشف وجهاً مفارقاً للمهنية حينما يوظف مفردة «الشهادة» وفقاً لخلفيته السياسية. التلفزيون العراقي يقصر الشهادة على مقاتلي الجيش والميليشيات المرتبطة به من دون أن يدرج حتى الأكراد في ذلك. قناة «الميادين» تستهدي بوحي النظام السوري و «حزب الله» فقط، فلا تخرج الشهادة عنهما باستثناء ضحايا غزة. قناة «الجزيرة» تصنف كل الضحايا في غزة شهداء بمن في ذلك المسيحيون، وتضيف إلى ذلك الذين يموتون في مصر إن كانوا معارضين للنظام الحاكم فهم في حرب ضد أعداء الإسلام.
الشيخ الألباني حدد الشهادة بمستويين أولهما الشهادة الحقيقية: «هو القتيل مِن المسلمين يقعُ شهيداً في المعركة، وهو يُقاتِل في سبيل الله؛ فهذا هو الشَّهيدُ حقيقةً، وهذا له أحكامٌ معروفة في الإسلام.
فهو لا يُغسل، ولا يُكفَّن، ويُدفن في ثيابه التي تَضمَّخت بالدِّماء الزَّكيَّة، ويُدفن في المكان الذي وقع فيه صريعاً». فمن هم الذين تنطبق عليهم هذه الصفة بين كل هذه الجماعات والأنظمة المتناحرة؟ بعيداً من النقاش في موضوع القتال في سبيل الله ورسم أطره الواضحة، فإن المفارقة الصارخة أن أكثر هؤلاء الشهداء المفترضين، تبعاً للمشاهد المنقولة، يغسلون ويكفنون ولا يدفنون في أماكن قتلهم، بل تنظم لهم المسيرات الحاشدة وصولاً إلى المقبرة، فهل هذه المخالفة جهل بالقواعد أم دليل على أن التوظيف للشهادة رغبوي وسياسي فقط؟
التفاصيل لا تهم ما دامت هذه الدعايات تغري الشباب وتجتذبهم، وتدفعهم إلى الموت منغمسين بالفرح والسرور، محققين الغرض المطلوب.
في حمى هذا الصراع حول الشهادة نسي الجميع الشهداء العابرين الذين ينطبق عليهم المستوى الثاني: «الشهادة الحكمية» وهم الأبرياء الذين يموتون بين الطرفين حرقاً وهدماً وطعناً ودفاعاً عن أعراضهم وأموالهم، حتى أن وسائل الإعلام تنتفض لمهنيتها عند ذكرهم فتسميهم «قتلى»، لأن منحهم الرتبة العليا في الشهادة لا يخدم الغرض السياسي أو الآيديولوجي، بل يطعن فيه ويشوهه.
الأبرياء البسطاء المسالمون محرومون من كل حق حتى أن موتهم لا يلبسهم الشهادة التي يستحقون.