جورج كدر – كاتب وباحث وإعلامي من سوريا
سنعلب قليلًا مع كلمة “مرحبا”، لنقدم وجهة نظر في “تاريخ” اشتقاق هذه الكلمة التي نتبادلها للتحية والسلام يوميًا. واضح من نطقنا للكلمة أنها تتألف من مقطعين “مار” و”حبا”، وهي بداية ستساعدنا على تفكيك الكلمة وما يقف خلفها.
أول من قال “مرحبًا وأهلًا” هو أحد ملوك اليمن القدماء -ذائع الصيت- سيف بن ذي يزن
كلمة “مار” في اللغات القديمة تعني “إله، قديس، سيد”.. ولا تزال إلى اليوم في اللغة السريانية تسبق أسماء كبار رجال الدين. أما “حبا”، فقد اختلف علماء اللغات القديمة في ترجمة هذه الكلمة ترجمة دقيقة، رغم أن الإطار العام لهذه الترجمات متقارب ومتوافق، فأحيانًا تأتي بمعنى “الهدية، العطية” وهو اسم مفرد مذكر معروف قديمًا، وأحيانًا أخرى تعني “حب، صدر، حضن، خصب”.
في كتابه “معجم المفردات الآرامية القديمة”، يقول المتخصص في اللغات القديمة سليمان الذيب: “لا أستبعد أن يكون اشتقاق هذا الاسم من الجذر “ح ب ب”، بحيث إن الباء الأولى قد أدغمت في الثانية، والألف للتعريف، والجذر عرف في العديد من النقوش السامية الأخرى مثل عبرية العهد القديم واللجهة الآرامية الفلسطينة واليهودية والثمودية والصفوية والحبشية”. وفي اللغة السريانية ورد الجذر “ح ب” كاسم مفرد مذكر بمعنى عزيز، صديق، ودخل على العربية الشمالية: بمعنى نقيض البغض، الوداد. كما تشير دراسة معجمية لألفاظ النقوش الآرامية القديمة التي أعدها أحمد بني سليم لنيل درجة الماجستير في جامعة اليرموك عام 2000.
وبذلك يكون معنى كلمة “مرحبا” بعد تفكيكها من اللغات القديمة “مر: الإله، السيد”، “حبا: محبة، خصب، حب، سلام، أمان”، وما يؤكد وجهة النظر هذه أن اللغويين العرب ربطوا بين كلمة “مرحبا” وبين كلمة الله، عندما أصبحت الكلمة واحدة في اللغة العربية وليس كما في اللغات القديمة كلمتين، جاء في “لسان العرب”: “قال شمر: سمعت ابن الأَعرابي يقول: مَرْحَبَكَ اللّهُ ، ومَرْحَباً بك اللّهُ”.
جاء في كتب التراث العربي ومنها كتاب “الأوائل” لابن عساكر ص 86: “إن أول من قال: “مرحبًا وأهلًا” هو أحد ملوك اليمن القدماء -ذائع الصيت- سيف بن ذي يزن، قالها لعبد المطلب بن هاشم، جد الرسول، لما وفد إليه مع قريش ليهنِّئه برجوع الملك إليه فرد عليهم الملك التحية بالقول: “مرحبًا وأهلًا وناقة ورحلًا ومناخًا سهلًا وملكًا ربحلاً يعطى عطاء جزلاً. ومعنى مرحبًا وجدت رحبًا أي سعة، وأهلًا أي وجدت أهلًا كأهلك.
رسولة الحب “حبى”
نلاحظ في مطالعتنا لكتب التراث العربي أن اسم “حُبا أو حُبّى” كان معروفًا إلى حد ما عند العرب القدماء، ومنهم اسم امرأة قمتُ بتأليف كتاب عنها 2012 وعنوانه “سقيفة حبّى”، صدر ضمن مشروع الجنس عند العرب الذي أنشره بالتعاون مع “دار أطلس”. وقد ظهر من خلال الكتاب أن “حُبا أو حبى” كان في الحقيقة اسمًا على مسمى لامرأة كشف البحث عنها، عن وجه آخر للثقافة العربية عكس ما روجه المستشرقون عنها… فـ”حُبى” التي عاشت في القرن الهجري الأول كانت “رسولة للحب” وكانت تسكن في يثرب (المدينة المنورة)، وجعلت من سقيفة منزلها مدرسة تعلم رجال ونساء المدينة فنون الحب، لتكون أول مدرسة للحب تأسست في ذلك العصر واستمرت لأكثر من نصف قرن.
الإله مرحب
ليس هذا فحسب، بل كان عند العرب القدماء إله حمل اسم “مَرْحَب”، أفردتُ له حيزًا في كتابي “معجم آلهة العرب قبل الإسلام” (دار الساقي 2013)، وكان لـ”مرحب” صنم بحضرموت اليمن، وتكشف التلبية التي كان يهلل له بها حجاجه أنه من آلهة الحب والخصب، تقول تلبية من نسك له: “لبيك لبيك، إننا لديك، لبيك، حبنا إليك”.
كلمة “هالو
Hallo”
في اللغة الإنجليزية، وكثير من اللغات الأوروبية، هي ذاتها “هلاو” أو “هلا”
وفي قاموس العرب، تدل كلمة “المرحَب” على سعة العيش ورغده، وربما اعتمد عُبّاد هذا الإله، اسمه كوسيلة للتحية السلام عند التواصل فيما بينهم، واليوم نجد أن تحية العرب بدوا وحضرا لا تزال “مَرحَب بك” أو “يا مَرحَب”، أي انزل في الرّحب والسعة، ويقولون أيضًا: مرحبًا وأهلًا، أي أَتَيْتَ أَهْلًا، فاسْتَـأْنِس ولا تَسْتَوْحِشْ. وفي اللسان: أَبو مَرْحَبٍ: كنية الظِّلَّ.
Hallo أو هلا
يقول الفراهيدي في كتابه “العين”: “والعرب تقول: مرحبًا وأهْلًا، ومعناه: نزلت رُحْبًا، أي: سعة، وأتيت أهلًا لا غرباء”. ونجد أيضًا لدى أهل الخليج والشام تحية “هلا ومرحب” ثم اختصر ليصبح السلام: “مرحبا”، والرد بـ” “هلا”، أو “أهلا”، وفي لهجة أهل العراق نجد أن “هلاو” مع مد الألف، قد تستخدم للتحية بدلًا من “مرحبا”.
واللافت أن كلمة “هلا” أو “أهلا” أو “هلاو”، أصبحت اليوم هي كلمة السلام والتحية عالميا، فكلمة “هالو
Hallo”
في اللغة الإنجليزية وكثير من اللغات الأوروبية هي ذاتها “هلاو” أو “هلا” بإسقاط الألف أو إبدالها بواو، والـ”هلا” العربية هي الأصل الذي لا لبس فيه للتحية الناس في القارتين الأوروبية والأمريكية.
الأصل في “أهلا وهلا” من الـ”هلل”، وهو رفع الصوت بالغناء فرحًا في حالتين، الأولى لرؤية وجه الإله القمر بظهور الأول كـ”هلال” بعد غيابه حيث يسود الظلام خلالها، والثانية تهليلات القدماء عند رؤية سحاب المطر، والـ”هلالو”
Alālu
أصلها موجود في اللغات القديمة ومنها الآكادية والسريانية وصولًا للعربية. جاء في كتاب “الامتاع والمؤانسة” لأبي حيان التوحيدي: قال سفيان الثوري: “إني لألقى الرجل فيقول لي: مرحبًا، فيلين له قلبي، فكيف بمن أطأ بساطه؟”.
نعثر على أثر اللغة العربية في كثير من اللغات العالمية، ولعل خير هدية يقدمونها للبشرية كرسالة على الحب والسلام، هي الكلمة الاولى التي ينطق بها إنسان بإنسان آخر: “هلا ومرحبا”، أو
Hallo،
أي ليحل عليك سلام الإله وبركاته وخصبه.
المصدر موقع لترا صوت