تاريخ الإسلام المبكر القسم الأول
تاريخ الإسلام المبكر القسم الثاني
تاريخ الاسلام المبكر القسم الثالث
تاريخ الإسلام المبكر 12 اليهودية في القرآن
(تقارب ـ قطيعة ـ صراع)
ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه
وجعلناه هدى لبني إسرائيل
ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون
عندما تم جمع القريانة الأولى اهتم الجامعون بالأخذ من توراة اليهود. ولذلك كثرت في السور الأولى قصص الأنبياء. بطبيعة الحال عند دراسة الترتيب الكرونولوجي لسور القرآن فإن هذا الترتيب غير دقيق وغير مضمون وإنما هو تقديري ومجرد تخمينات حاول المفسرون والمؤلفون وضعها. ولذا نجد الترتيب الكرونولوجي يختلف بين المفسرين وبين المستشرقين. ومع ذلك يمكن القبول بذلك الترتيب لأغراض البحث.
ولأنهم نصارى يؤمنون بشريعة موسى ويرغبون بتطبيقها مع إيمانهم بالمسيح ورسالته دون فكرة التجسد والفداء التزموا الأخذ من التوراة وجمع قصص أنبيائها وأحداثها في القريانة التي ستكون كتاب صلاتهم. لكن هؤلاء اليهود أصحاب التوراة لم يكونوا في الحجاز بحسب ما يقوله التاريخ وإن كان منهم عدد ضئيل جدا فليس إلى درجة التأثير بهذا الشكل. من هنا فإن التأثير اليهودي على القريانة نابع من كون تلك القريانة تم إعدادها في البلاد السورية وليس في بلاد الحجاز.
فالكتابات التي وضعت عن يهود الحجاز لا تستند إلى مؤلفات تاريخية معاصرة للحدث ولا إلى نصوص جاهلية عربية أو أعجمية لها علاقة باليهود. لكنها تستند إلى روايات إسلامية ذكرتهم وأشارت إليهم لمناسبة ما وقع بينهم وبين محمد من خلاف. وقد ورد شيء كثير بحقهم في القريانة ومن ثم في الحديث المنسوب إلى محمد. من الغريب انه لم توجد أي كتابات أصيلة سواء يهودية أو غير يهودية تتحدث عن يهود يثرب أو الحجاز. ورغم خطورة أحداث مثل حروب اليهود مع المسلمين إبان فترة ما يعرف بدولة المدينة وأحداث مثل إجلاء اليهود من المدينة فلا توجد أي كتابات موثقة عن هذه الأحداث سوى ما كتبه الرواة المسلمون الذين وضعوا سيرة الإسلام. وتشير دراسة بعنوان: دراسة سريانية آرامية للقرآن أن التاريخ لا يشير أبدا إلى وجود يهود في يثرب. ولذا فيكون موقع الأحداث في شمالي الحجاز أو جنوبي الأردن. وقد وجدت هناك آثار للإلهات الثلاث اللات والعزى ومناة. لم يوجد في المدينة أي نقش بالعبرية رغم أن حجارتها مليئة بالنقوش الثمودية والصفوية واللحيانية. لكن البحوث والحفريات أثبتت وجود يهود في شمالي الحجاز عند مدائن صالح وتيماء ولكن لا نجد نقشا عبريا واحدا في يثرب مع أن الموروث والتقليد الإسلامي أخبرنا بوجود اليهود فيها مدة قرون.
لقد كان اليهود بحسب ما تذكر الروايات يدعمون تلك الدعوة النصرانية التي بدأت تتحول تدريجيا إلى دين مستقل. وتشير روايات إلى أن اليهود في العراق مثلا كانوا يخرجون لاستقبال جيوش المسلمين بالحفاوة والإكرام لأنهم كانوا يؤثرونهم على غيرهم إذ يرون فيهم قوما يؤمنون باله موسى وإبراهيم. وازدادت تلك الروابط متانة مع الوقت إلى أن دخل اليهود في جيوش المسلمين ليناضلوا معهم في الأندلس. ويعتقد ولفنسون انه لو ظهر شخص يهودي ذو عاطفة ربانية قوية ودعا العرب إلى الدخول في دين جديد يشبه اليهودية في جوهره ويبقى عربيا في عاداته وتقاليده لكانت دعوته قد وجدت آذانا مصغية وقلوبا واعية. فماذا فعل عبد الملك عندما جمع النصارى على ملة واحدة ووضع لهم القريانة سوى أن دعا إلى التوحيد الخالص مثلما يدعو اليهود ومجد إله إبراهيم وموسى مثلما يفعلون وأبقى على الإطار العربي الذي هو التقليد المعروف إلى الآن.
وما يقال عن يهود المدينة يقال عن يهود مكة. فهؤلاء لم يكتب عنهم أحد ولم يشر إليهم أحد في أي نص أو نقش أو كتابة أو شعر خارج نطاق المرويات الإسلامية المتأخرة. وان كان هناك البعض منهم فإن عددهم كان ضئيلا مثلما الأمر في المدينة لا يستحق الكتابة.
يذكر الموروث أن محمد قام بطرد قبيلتين يهوديتين من يثرب وأباد قبيلة ثالثة عن بكرة أبيها. لكن أحدا خارج الكتابات التقليدية الإسلامية لم يذكر هذه الأحداث ولا حتى من اليهود أنفسهم. وربما كان اختراع مثل هذه الأحداث وبهذه القسوة محاولة لإثبات أن الدين الجديد نشأ في الحجاز بحسب الرواية المتأخرة التي وضعت في السنين التالية.
التقارب والمودة بين النصارى واليهود في البلاد السورية دام ستة قرون تقريبا إلى أن أراد اكليروس الدولة الأموية تأطير النصرانية بنص مقدس مستقل. في البداية كانت النصوص ودودة مع اليهود، متسامحة مع عقيدتهم وداعية لهم لكلمة سواء. تحدث النص في البداية عن إيمان اليهود ولم ينتقص منه وترك الفصل فيه لله يوم القيامة. واستعمل معهم الترغيب والترهيب فقال لهم أن شاهدا من بني إسرائيل شهد على مثله فآمن واستكبرتم. يريد النصارى من اليهود الإيمان بالمسيح الذي رفضوا نبوته من الأصل. كان أبرز ما يشير إلى التقارب مع اليهود ومحاولة استمالتهم هو التزام شريعة موسى ومن ثم إنكار الصلب بما يتضمن تبرئة اليهود من دم المسيح وهم الذين قالوا بحسب الإنجيل دمه علينا وعلى بنينا. فإنكار الصلب بحسب العقيدة النصرانية يحمل أكثر من معنى. فهو أولا تبرئة لليهود وإلقاء الملامة على الرومان الذين قاموا بالتنفيذ. وهو ثانيا محاولة للتأكيد على فكرة توراتية بأن الأنبياء يموتون بسلام ولا يموتون بالعنف. وكان جدل اليهود بشأن المسيح أن الله لن يقبل أن يصلب نبيه لو كان صحيح النبوة. فإن أقرت النصرانية بصلب المسيح وقتله فإنها بذلك بحسب الفكرة اليهودية تنكر نبوته ومن هنا أصرت على إنكار الصلب ومن ثم تبنت فكرة الشبه المأخوذة من بدعة باسيليدس بقصد إقناع اليهود بالانضمام إلى أمتهم. ويمكن إجمال محاولة النصارى التقارب مع اليهود من خلال تبنيهم الأفكار التالية:
– الصلب: لم يصلب على الصليب وإنما ألقى شبهه على شمعون الذي صلب بدلا منه وربما كان الهدف أيضا تبرئة اليهود من دم المسيح بنسبة الصلب إلى الرومان وليس اليهود.
– عيسى: استعمل النصارى الإسم الإسيني عيسى لنفي صفة المخلص وجعل يسوع نبيا فقط
– تحريم الخمور: حرموا الخمر في الدنيا على امل أن يشربوها في الجنة
– طفولة مريم: مريم تهب حملها إلى الهيكل وكان رزقها يأتيها عبر الملائكة تماشيا مع الرواية التلمودية
– لحم الخنزير: حرموا لحم الخنزير التزاما بشريعة موسى والتلمود
كل هذا التودد لم يقنع اليهود بترك دينهم وتوراتهم والقبول بالمسيحية النصرانية ولا بالمسيح حتى مجرد نبي. عند هذه النقطة انتقل النصارى إلى الهجوم وخصوصا أن دولتهم كان تتشكل وكان اليهود شراذم بدون دولة. هناك آية في سورة البقرة تقول إن اليهود يكذبون الأنبياء ويقتلونهم وتنص على ما يلي: ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون؟ أي أنهم كذبوا موسى وقتلوا عيسى وكان هذا أقسى اتهام يوجهه النصارى إلى اليهود وبعدها كانت القطيعة. ووضعت نصوص تعيب على اليهود انحرافهم عن كتابهم الذي تنبأ بالمسيح. فقد تحدثت التوراة كثيرا عن النبي الآتي الذي هو المسيح وفقا للتقليد. هناك في التراث الإسلامي حديث كثير عن نبوة الكتاب المقدس عن النبي الآتي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة… أقيم لك نبيا من بين أخوتك… وهناك ثماني عشرة آية تهاجم اليهود في هذا المجال وحده. ومع أن النصرانية احترمت اليهودية والتزمت شريعتها لكنها واصلت منافحة اليهود وتطور الأمر إلى درجة معاداتهم وقتالهم. من هنا كان الحديث عن انحرافهم وتحريفهم ووضعت الروايات التي تتحدث عن حنثهم المواعيد وغدرهم ومكرهم وقتلهم الأنبياء وما إلى ذلك من قصص كثيرة متواترة في المرويات الإسلامية المتأخرة. لكن ما يلفت الانتباه في الإسلام هو احتواؤه على الإسرائيليات من رأسه إلى قاعدته واختص اليهود بالكثير من الآيات ومع ذلك فهو يواصل تحذير اتباعه منهم. والغريب أن الإسلام مملوء بما يتطابق مع اليهودية مما يعني أن التحذير من اليهود حدث متأخر ومقصود منه تحويل الأنظار حتى لا يكتشف الاتباع حقيقة المصدر الأصلي.
وقد يبدو في بعض الأحيان أن المسيحية اليهودية أي النصرانية لا تريد مجرد شريك بل تريد إخضاع المسيحية الهللينية وكذلك إخضاع اليهودية العبرانية فكان لا بد من محاربة الطرفين عندما اكتمل الإطار واستقر الأمر على الانفصال النهائي للنصرانية في دين جديد متوافق تمام الإتفاق مع اليهودية التوراتية ومختلف اشد الاختلاف مع المسيحية الهيللينية.
تاريخ الإسلام المبكر 13 المؤتلف والمختلف
الله أنزل أحسن الحديث كتابا متشابها
ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
في فصل سابق رأينا القرآن يصرح بأن ما يعلنه إنما كان في الصحف الأولى أي صحف إبراهيم وموسى وهي التوراة والتلمود والإنجيل وغيرها من كتب اليهود والنصارى. في هذا الفصل سنفصل أكثر ونحدد أين وكيف وفي أي صورة توافقت قريانة الأمويين مع ما سبقها. لم يأت هذا التوافق صدفة بل كان مدبرا من البداية. فالقرآن أو القريانة هو كتاب القراءات الذي أمر بوضعه عبد الملك للنصارى عندما جمعهم في ملة واحدة لمواجهة المسيحيين الهللينيين الذين يغالون في المسيح ومواجهة اليهود العبرانيين الذين يرفضونه كلية. أراد إحياء الأمة الوسط التي تقيم التوراة والإنجيل وتؤمن بالمسيح نبيا رسولا.
توافقت النصرانية مع التوراة في نواح كثيرة واضحة جدا في معظمها وقليل منها بحاجة إلى توضيح. المشكلة الكبرى في القرآن الحالي تشابك نصوصه واختلاطها وسوء تبويبها. ربما كان الأمر مقصودا لإخفاء التشابهات والمقاربات بينه وبين كتب السابقين وبخاصة الإنجيل والتوراة. ومع ذلك قام كثيرون بالبحث والكشف عما هو مخفي واظهروا بالضبط وبتفصيل وتحديد أين يلتقي القرآن مع التوراة ومع الإنجيل ومع التراث ومع كتب الأقدمين وأساطيرهم وكتبهم المنحولة وأشعارهم.
لا نأتي هنا بجديد أو خطير ولكن لاستكمال البحث لا بد من الإشارة إلى مواطن التشابه التي أراد منها النصارى استمالة اليهود والمسيحيين من أجل الانضمام إليهم في أمة مقتصدة تقيم التوراة والإنجيل وتؤمن بموسى وعيسى والنبيين وترفع لواء العروبة. وكما كان للروم عقيدتهم وكتابهم أراد الأمويون أن يكون لأمة العرب عقيدتها وكتابها.
يعزو المدافعون عن الإسلام التشابه بين قصص القرآن وقصص الكتاب المقدس بأن المصدر للإثنين واحد فهي كتب منزلة من عند الله. قول التقليد الإسلامي في هذا الخصوص دفاعي محض. لكن الحقيقة أن تلك النصوص المتشابهة مع الكتاب المقدس وقد وصفت بالمتشابهات إنما تتشابه لأنها جمعت من الكتاب المقدس نفسه ومن ترجماته سواء الكتابية أو الشفهية أو القصص الشعبي الذي كان يرافقها بين البسطاء من الناس.
في مقابلة مع موقع الحوار المتمدن يرى نبيل فياض وهو أكاديمي سوري وباحث في الأديان المقارنة ويحمل رأيا واضحا في الإسلام يرى أن القرآن مليء حتى الثمالة بالأساطير الحاخامية المأخوذة عن التلمود أو المدراش. وتم تبني كثيرا من شرائعها وطقوسها. وفي المقابلة نفسها يؤكد نبيل فياض أن معظم شرائع الإسلام عندما اكتمل كانت مأخوذة عن اليهودية. وفي كتابه “حكاية إبراهيم” يكشف نبيل فياض أن حجم التطابق بين التلمود البابلي والنصوص القرآنية المقابلة يبلغ حدا كبيرا حتى لنجد الألفاظ ذاتها في بعض الأحيان.
هناك الكثير من الأدب اليهودي المنحول والمشكوك في صحته أغلبه من التلمود يعود تاريخه إلى القرن الثاني الميلادي الذي يمكن مقارنته مع الكثير من القصص والروايات. وعندما نقوم بذلك نجد تماثلا وتشابهات هائلة بين هذه الفبركات أو القصص الفولوكلورية والقصص التي تم سردها في القرآن.
وإذا كانت التقوى الكونية والخوف من نار جهنم تماثل التبشير السرياني فإن دور النبي ودلالة الوحي الكتابي والطاعة لأوامر الله والتشدد في الحياة الاجتماعية تنفيذا للتعليمات الدينية والتزاما بالحلال والحرام التزاما متطرفا كل هذا يماثل الأفكار اليهودية.
اعتمدت النصرانية في كتابها الذي جمعه اكليروس عبد الملك مفاهيم من التوراة تتعلق بوحدانية الله التامة، فكرة الخلق والأيام الستة، الدينونة والقيامة. وفيما يخص النساء على سبيل المثال أخذت من اليهودية فكرة الرضاعة حولين كاملين، وقيود الزواج وتحريماته. وفيما يتعلق بالأخلاق أخذت طريقة الصلاة في الشكل والحركات، وتحليل الصلاة القصيرة في الحروب. إضافة إلى طرق الصيام والزكاة والدية. ورد في سورة المائدة مثلا “وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس” وهي فكرة مأخوذة بالنص من الخروج فصل 21 آية 23.
قصص الأنبياء في القرآن كلها مأخوذة من التوراة أو من التراث الشعبي الذي كان سائدا وان أضيف إليها بعض النكهات الشعبية. لننظر في قصة إبراهيم مثلا وابنه الذبيح. الآيات لا تذكر أنه إسماعيل. وذكرت المرويات الإسلامية القديمة انه إسحق ولكن في مرويات متأخرة تغير الإسم بعد العداء مع اليهود.
لو دققنا في قصص المدراشة وهو كتاب تفسير التوراة نجد مثلا قصة تتحدث عن معراج موسى إلى السماء ونكاد نجد نقلا حرفيا لبعض المواضيع من هذه القصة في روايات معراج محمد التي ترويها التقاليد الإسلامية. في المدراشة صعد موسى إلى السماء ورأى الجنة والنار فرأى عذاب أهل النار ثم زار الجنة ورأى ما لم تره عين.
ومن كتاب المشنا العبراني استعار واضعو القرآن قصة قابيل وهابيل وكذلك قصة إبراهيم. بالنسبة لقصة قابيل وهابيل ليس فقط النص مأخوذ من المشنا بل أن تعليق الحاخام العبراني منقول بنصه كلمة بكلمة. أي أن واضعي القرآن لم يميزوا بين النص والتعليق.
لقد تم الإعتماد على النصوص المسيحية اليهودية لإنتاج التوحيد العربي ومنه تطور القرآن كمجموع نصوص معتمدة على تعاليم المسيحية اليهودية التي كانت سائدة خارج الجزيرة العربية. في شمالي الحجاز، أي البلاد السورية التي كان عرب الجزيرة يسمونها الشام.
تتشابه قصص القرآن كثيرا مع الكتب والأناجيل المنحولة. وهذه لم تكن مجرد ثقافة سائدة في المنطقة وقصص شعبي يتداوله الناس بل كان النصارى يؤمنون بها ويعتمدونها. من أبرز تلك القصص قصة الولادة البتولية التي ثبتت في سورة مريم فهي موجودة بالنص فيما يعرف بالإنجيل العبراني الذي كان يكتبه ورقة بن نوفل وهو شخصية كتابية رفيعة وربما كان أحد شيوخ النصارى الذين اعتمد عليهم عبد الملك في وضع القريانة. كما تم الأخذ عما يعرف بإنجيل الطفولة المنسوب إلى توما.
ثمة مقاطع عديدة من القريانة يمكن ردها للنصوص المسيحية وخاصة منها السريانية. فكرة الحوريات مثلا في الجنة. فهذه الفكرة ليست عن الحوريات من النساء الجميلات الكواعب ولكن سوء الترجمة جعل الزبيب الأبيض جميلات بيض. تراتيل الفردوس نصوص آرامية وضعها أفرام السرياني في القرن الرابع باللغة الآرامية وتتحدث عن فردوس بمعنى بستان مليء بعيون الماء ووفرة الفواكه وخاصة العنب الأبيض والزبيب.
يرى بعض المدققين أن ما تعرف بالصلاة الربانية في الإنجيل نقلت إلى القريانة ولكن بصيغة مختلفة قليلة. وهي تبدو في النص العربي جميلة بالفعل ويمكن الرجوع إليها في سورة البقرة ونصها كالتالي مع بعض الإضافات من مثل وانصرنا على القوم الكافرين في آخر الآية:
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا، واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا
نجد في القرآن الكثير من المفاهيم والمعتقدات اليهودية والمسيحية التي تشغل مساحات ليس قليلة ضمن النص القرآني. ومنها ما يشير إلى التوراة والإنجيل على أنها تستحق الإيمان والطاعة. تعلمنا المراجع أن الإسلام خضع لمؤثرات مسيحية ويهودية كان لها آثارها السلبية والإيجابية على الأجيال الأولى من المسلمين الذين عرفوا تلك المؤثرات دون الاعتراف بمصادرها الأصلية.
على سبيل المثال، ينص القرآن على ضرورة ترتيله. ما معنى ترتيله؟ انه طريقة القراءة للكتاب المقدس كما كان النصارى يفعلون وكذلك المسيحيون الآن في ترتيل الإنجيل. أما عندما يقول القرآن “وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا” فهي ترديد للعبارة التي تقال حتى الآن في الكنيسة عند قراءة الإنجيل: الحكمة… لنقف ونصغي” وربما كانت أيام النصارى: لنستمع إلى القريانة ونصغي باهتمام”.
من التحريمات التي التزمها النصارى بسبب التزامهم شريعة موسى تحريم لحم الخنزير وتحريم الخمور وتحريم التبني وتحريم الرهبانية. كما تمت إباحة تعدد الزوجات والطلاق وملكات اليمين وفرض الصيام والختان والوضوء. وكلها ممارسات نصرانية ثبتها اكليروس عبد الملك في القريانة.
وكما تشابهت قصص القريانة مع ما لدى اليهود تشابهت أيضا مع ما لدى الزرادشتيين والمانويين. فالتأثير الفارسي في النصرانية الشرقية كانت واضحة أيضا. فقصة الإسراء والمعراج كانت ذات مصدر فارسي أيضا إلى جانب أن كتبا منحولة نسبتها إلى إسراء موسى. ومقابل البغل المجنح في إسراء القرآن نجد الثور المجنح الأشوري، والقصة تماثل قصة فارسية باسم أرثا فيراف.
لم يحظ الأثر الفارسي الزرادشتي في الإسلام بالاهتمام الكافي وهو الذي صاغ الفرادة النوعية للإسلام، مثل التصور الفارسي للبراق مثلا. ولكن حديثا وربما من أجل تفادي أي تبريرات سلبية، توصل باحث يدعى الشفيع الماحي إلى أن الزرادشتية ديانة موحى بها من الله لكنها تحرفت إلى المجوسية. ناقش أحد الكتاب أطروحة الدكتور الماحي في مقال بدون توقيع في موقع الذاكرة وقال إن أبحاث الدكتور الماحي جاءت على خلفية المطابقات المذهلة المكتشفة في أقوال وأحكام بعض الأحداث في سيرة محمد مع سيرة زرادشت وخصوصا قصة الإسراء والمعراج بهدف تهدئة روع المسلمين وتخفيف غرابة التشابه بين الزرادشتية والإسلام. كما إن هناك كثيرا من التشابه بين قصة محمد وقصة ماني النبي الفارسي الذي زعم إن ملاكا ظهر له وكشف له الحقائق الإلهية.
قد تكون هذه الإضافات الفارسية التي أضيفت إلى النصرانية العربية مساهمة من العرب الفرس في نشر دين أجدادهم عبر إضافة ما هو عندهم إلى ما صار دينا راسخا في المشرق العربي.
يرى غولدتسيهر المستشرق الذي درس التأثير الفارسي في الإسلام إن هذا التأثير يتبدى في عدة مشاهد منها: الوضوء والطهارة، والتلاوة لغسل الذنوب وفكرة ميزان الحسنات والسيئات وكذلك فكرة الحساب الأخروي. ولكن التأثير الأكبر كان في عدد الصلوات وطريقة السجود. لقد كان النصارى ومن ثم المسلمون الأوائل يصلون ثلاث صلوات في اليوم مثلما يفعل اليهود لكنهم أضافوا إليها صلاتين أخريين لتصبح خمس صلوات مثلما هي صلوات الزرادشتيين.
وكذلك هي صلاة الصابئة. يقول محمد شكري الآلوسي في كتابه بلوغ الأرب في أحوال العرب الجزء الثاني أن صلوات الصابئة خمس صلوات في اليوم وبنفس الترتيب الإسلامي. وصلاتهم على الميت بلا سجود، وصومهم ثلاثين يوما والبعض منهم صيامهم في رمضان وكعبة صلاتهم مكة. وهم أيضا يحرمون الميتة والدم ولحم الخنزير ويحرمون في الزواج ما يحرم المسلمون.
كما تم الأخذ عن الوثنيين العرب بعد أن اختلط النصارى بالعرب عندما توسعت المملكة الأموية باتجاه نجد والحجاز. يقول الشهرستاني في الملل والنحل إن معظم ممارسات المسلمين مستمدة من الوثنية. فقد اعتاد العرب في الجاهلية على ممارسة شعائر أضيفت إلى الشريعة الإسلامية. كانوا يحرمون الزواج من البنت وأمها ويحرمون الجمع بين الأختين ويستنكرون زواج الرجل من زوجة أبيه. وكانوا يحجون إلى الكعبة ويطوفون حولها ويسعون بين الصفا والمروة ويرمون الجمرات ويغتسلون ويتمضمضون وينتفون الإبط ويحلقون العانة ويختنون ويقطعون يد السارق. لكن هذه الشعائر كانت أيضا سائدة في بلاد الشام. وبينما لا توجد إثباتات أركيولوجية في جزيرة العرب تثبت هذه الممارسات فإن في جنوب سوريا على سبيل المثال براهين أركيولوجية عليها. ففي منطقة سيدي بوكر في صحراء النقب تم اكتشاف موقع عبادة لأوثان جاهلية. في عام 1994 نشر يهودا نيفو مقالة في مجلة دراسات مقدسية تحدث فيها عن النقوش التي اكتشفت في النقب.
ثمة تشابهات أخرى مع الشعر الجاهلي وتمت الإشارة إليها في مكان سابق. أن التفسير للتشابه بين النص والأشعار هو أن الاثنين ظهرا في وقت واحد. في بداية عصر الدولة الأموية.
أخيرا لا بد من التنويه إلى الجهود الكبيرة التي قام بها بعض الباحثين الكبار. أحدهم فراس السواح وقد نشر بحثه في موقع الأوان. فقد قام بإجراء مقارنة هامة بين الإنجيل والقرآن من حيث ما قال إنها نصوص للمسيح في الإنجيل يوردها القرآن بترجمتها العربية. وقد فعل كثيرون الشيء نفسه بوضعهم لوائح وجداول بالعبارات القرآنية وما يوازيها من نص إنجيلي أو توراتي.
في حديث ينسب إلى محمد متواترا عن أبي هريرة يقول الحديث القدسي: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رات ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. لكن هذا النص بحرفيته موجود في رسالة القديس بولس الأولى إلى كورنثوس فصل 2 آية 9: بل كما هو مكتوب: ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على بال إنسان: ما أعده الله للذين يحبونه.
يحاول البعض أن يفسر كثرة التشابه على أنها تعني زيادة الاحتمالية بان يكون القرآن من مصدر سماوي. ولكن ماذا يكون الوضع عندما نجد نصوصا تناقض الكتاب المقدس؟
يتوافق القرآن مع الإنجيل والتوراة في كثير من النقاط لكنه ينحرف بعيدا عن الإنجيل وخصوصا فيما يتعلق بألوهية المسيح وصلبه وقيامته وبالتالي يرفض فكرة الفداء كلية. إن فكرة مصالحة الله والبشر غير موجودة في القرآن ويسوع ليس المخلص وليس الوسيط مع الله. انه مجرد نبي مثل إبراهيم وموسى. ليس هذا هو الخلاف الوحيد مع المسيحية الهللينية. هناك نقاط اختلاف عديدة مصدرها الكتب المنحولة. أما تناقضات القرآن في قضية المسيح فهي تكشف كثرة الأيدي التي عملت في وضعه، وكيف أن تلك المعلومات استقيت من مصادر مختلفة وهي في الأصل متضاربة. فهناك أفكار ثيولوجية أبيونية وأخرى مسيحية كما أن فيه تعاليم غنوصية وزرادشتية. وهناك اقتباسات مباشرة بالإضافة إلى الكلمات السريانية.
القرآن مليء بالآيات التي تناقض بعضها البعض ويمكن الرجوع في التفاصيل إلى عشرات المقالات في هذا المجال على الإنترنت. وقد وجد سدنة الدين الجديد طريقة ذكية للخروج من هذه الورطة سموها الناسخ والمنسوخ. ووضعت آيات خاصة بالنسخ. وقضية الناسخ والمنسوخ هي مسالة التبديل الذي قام به الحجاج ومن بعده آخرون غيروا في النص وكانت حجته انه يريد أن يأتي بما هو أحسن. تقول الآية: ما ننسخ من آية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها. وهذا التبرير قد يكون من عند الحجاج أو عبد الملك. ولمساعدة السلطات في تبرير قضية الناسخ والمنسوخ تم وضع قصص أسباب التنزيل. وهذه كانت حيلة ذكية جدا للخروج من المأزق وتبرير التناقضات.
وإذا أخذنا التراث ككل فيما يتعلق ببدايات الإسلام سنجد الخبر ونقيضه، روايات متباينة ومتعارضة للحدث الواحد. كما نجد اختلافات صارخة حول قيمة هذه الشخصية أو تلك واختلاق الشخوص والأحداث التي لم توجد أصلا. وكثرة التناقضات وعدم معقولية الروايات في السيرة والحديث تثير الريبة في حقيقتهما وأبرز تلك التناقضات ما يتعلق بمن يسمين بنات النبي. وتشير الروايات المتناقضة إلى إن الذين كتبوها لم يكونوا على دراية بالتفاصيل ومن كان يتناقل الرواية شفاهة إنما كان يروي قصصا وهمية ومختلقة.
تاريخ الإسلام البكر 14 الإسلام من دون محمد
إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب
إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم
منذ أكثر من ألف وأربعمئة سنة بدأ الإسلام وانتشر واتباعه اليوم يربون على ألف ومئتي مليون نسمة موزعين في قارات العالم كلها. لكن هذا الدين لم يخضع للتمحيص والبحث والتدقيق إلا حديثا أي منذ ما يقرب من مئتي سنة فقط عندما تجرأ باحثون لمناقشة أصوله ومصادره وأركانه وشخوصه ونصوصه.
في التقليد الإسلامي المعروف يشكل النص القرآني وشخصية الرسول نقطتي الارتكاز الرئيسيتين التي ينتصب عليهما الإسلام. فهو خاتم النبيين وخلاصة النبوة والإنسان الكامل والأسوة الحسنة. لكن العلماء في العقود الأخيرة بدأوا يشككون في كثير من المسلمات. منذ البداية رأينا كيف أن الرواية الإسلامية التقليدية لا تصمد أمام البحث والتمحيص. فالقرآن الذي ينسبه التقليد الإسلامي إلى الوحي السماوي كان نصوصا متفرقة جمعت من المصادر المتوفرة في البيئة الدينية في القرنين السابع والثامن ليكون كتاب قراءات للنصارى الذين تبنوا مواجهة المسيحية الهللينية رافضين مقررات مجمع نيقية وملزمين أنفسهم شريعة موسى وتوراة اليهود إلى جانب إنجيل المسيح من دون الإيمان بألوهيته أو بعقيدة الخلاص المسيحية التي بلورها بولس الرسول.
وكما كان القرآن مثار بحث وتمحيص كذلك كانت شخصية نبي الإسلام. فشخصية هذا النبي تبدو شخصية وهمية تم اختلاقها وبالتالي ليست شخصية حقيقية وان محمدا كشخصية تاريخية لا وجود لها. وإن كلمة محمد لم تكن اسم علم وإنما كانت في البداية وصفا ليسوع المسيح الذي كان النصارى يعتبرونه نبيا ورسولا. وعندما شكك محمد كاليش بوجود محمد تاريخيا قال إنه يصعب الرجوع إلى محمد تاريخي محتمل بل إلى إيمان ثيولوجي أنتجته مراحل صيرورة متأخرة. وقد جعل محمد مجرد أرضية مشروع أسقطت عليه كل الرؤى الثيولوجية والفقهية وكل طائفة نسبت تشريعها وفقهها إلى النبي والشخصيات الأخرى المؤثرة المرافقة له. ويتساءل الباحثون إذا كان محمد شخصية غير موجودة فعلا فلماذا يتم اختراعه أصلا؟ ففي الأدبيات غير الإسلامية وعند الحديث عن السيطرة العربية على البلاد لم تكن هناك أي إشارات إلى الديانة التي يعتنقها الحكام الجدد. المصادر السريانية لا تشير إلى شخص محمد بأي إشارة ولا تتحدث عن أي إسلام بل عن غزو عربي ولم يلتفت أحد لوجود دين باسم الإسلام.
التفسير المحتمل كما يرى بعض الباحثين في الموضوع هو أنه لما كان لكل دولة أو إمبراطورية دينها الخاص بها أراد العرب أن يكون لهم دينهم الخاص. فكما كان للبيزنطيين مسيحيتهم الهللينية وللفرس زرادشتيتهم صار للعرب إسلامهم. وقد يكون الإسلام بالفعل سابق لمحمد. أي أن العرب الذين قننوا النصرانية الشرقية المعادية للمسيحية الهللينية لتكون متوافقة مع اليهودية الموسوية أرادوا أن يكون لهم نبي ورسول. وافتقار العرب إلى نبي وكتاب أسوة بغيرهم من الأمم وباليهود دفعهم إلى ترجمة وتأليف كتاب مقدس واختلاق سيرة لنبي لم يره أحد ولم يترك أثرا. وبما أن النصرانية كانت تعتبر يسوع مجرد نبي رسول فقد حولت صفته التي كانت تعطى تمجيدا له “محمد عبده ورسوله يسوع المسيح” إلى اسم علم تجسدت فيه شخصية صارت مع الوقت محمد بن عبد الله ومن ثم نسج حول هذه الشخصية ما نسج.
شخصية محمد لم تكن معروفة حتى منتصف القرن السابع. ولم يكن هناك أي حديث عن الإسلام كدين مستقل أو عن كتاب الإسلام ككتاب عقيدة وكذلك لم يكن هناك نبي رسول باسم محمد. بدأت قصص محمد بالانتشار لتبرير الإمبراطورية التوسعية للعرب ولإعطاء هذا التوسع بعدا لاهوتيا وتبريرا دينيا. لهذا السبب نشأ الإسلام كدين سياسي فهو إيمان مسيس والمظهر السياسي للإسلام برز قبل المظهر الديني. ويرى سبنسر أن الإسلام كما نعرفه كان مجرد وسيلة توضيحية للنجاحات العسكرية والسياسية للعرب في القرن الذي سبق أي انه ثيولوجيا متأخرة.
وفي كتابها خليفة الله تقول باتريشيا كرونة إن هناك ثمة حقيقة ملفتة وهي أن الوثائق التي عاشت منذ العهد السفياني لا تذكر على الإطلاق اسم رسول الله. أي أنها لا تأتي على ذكر عبارة رسول الله مطلقا. البردية لا تشير إليه، النقش العربي للمسكوكات العربية الساسانية تذكر الله وليس رسوله، كما أن المسكوكات البرونزية العربية البيزنطية التي ذكر فيها محمد كرسول الله والتي نسبت في السابق إلى المرحلة السفيانية تنسب الآن إلى المرحلة المروانية. حتى شواهد القبور تشير إلى الله وليس رسول الله وكذلك نقش معاوية في الطائف. ولذا فإنه في المرحلة السفيانية لم يكن للنبي أي دور.
أثار محمد سفن كاليش ضجة كبيرة في أوروبا عندما أعلن أن محمدا كشخص تاريخي يصعب إثبات وجوده ويرجح انه اختراع أسطوري مثله مثل الديانتان الأخريان اليهودية والمسيحية. لكنه في الوقت نفسه يقول إنه مثلما يصعب البرهنة على وجوده يصعب أيضا البرهنة على عدم وجوده لكنه في النهاية يرجح عدم وجوده ويقول إنه ما لم يتوفر دليل أركيولوجي على وجوده فلا يمكن حسم مسالة وجوده من عدمها. ولهذا ثارت عليه الجالية الإسلامية في أوروبا وأخرجته الجامعة من بين صفوفها. ويرى كاليش انه لا توجد أي وثائق أصلية من القرنين الهجريين الأولين والمصادر التي يمكن الوثوق بها تبدأ اعتبارا من القرن الهجري الثالث.
ولكن إن كان محمد غير موجود تاريخيا فمن أين أتت كل تلك السير والأحاديث؟ لقد ذهب بعض الباحثين إلى أن محمدا كان صناعة أسطورية متأخرة حتمتها الظروف العقائدية والاجتماعية للإمبراطورية العربية الناشئة. وقد رأينا في فصول سابقة كيف أن العرب عندما استقلوا عن البيزنطيين وعن الفرس وأقاموا دولتهم في المشرق تبنوا النصرانية الملتزمة شريعة موسى وإقامة التوراة والإنجيل معا. وبعد الاستقلال السياسي كان لا بد من الاستقلال الديني.
يرى بعض المستشرقين أن شخصية محمد مختلقة من أساسها ولم تكن إلا شخصية مخيالية احتاج إليها الغزاة من العرب الذين احتلوا بلاد غيرهم فكان هذا الشخص هو البطل الحضاري تماشيا مع حضارات أخرى كانت سبقت في خلق الأبطال والزعماء الأسطوريين. آخرون من المهتمين بهذا الأمر أشاروا إلى أن إنكار وجود محمد إنكارا قطعيا لا يمكن أن يكون منطقيا لذلك فهم يرون انه كان هناك أكثر من شخصية بهذا الإسم وفي أماكن مختلفة وعندما اكتمل الدين الجديد تم دمج سير هؤلاء الأشخاص في شخصية واحدة يلتف حولها المؤمنون الجدد.
تبدو أي دراسة لحياة محمد كما نعرفها الآن مستحيلة أو قاصرة. فالمعطيات المادية بالمعنى الحرفي أي البراهين الأركيولوجية معدومة. أما المعطيات النصية فلا يمكن الركون إليها لأنها تنطوي على فجوة زمانية هائلة تفصل بين زمن وقوع الأحداث أو ما يفترض أنها أحداث وزمن تدوينها والارتقاء بها إلى مستوى الشهادة التاريخية الجديرة بالاعتماد. فكتاب سيرة رسول الله الذي وضعه ابن اسحق عام سبعمئة وخمسين لا يمكن الثقة به فهو موضوع بعد أكثر من مئة وعشرين سنة من وفاة محمد المفترضة.
في السنوات الأخيرة نشر روبرت سبنسر كتابا أثار جدلا واسعا كان عنوانه: هل وجد محمد؟ بحث في أصول الإسلام الغامضة” في هذا الكتاب يجادل سبنسر بانه في السنوات الستين ما بين 630 و690 لم يكن هناك أي ذكر لمحمد أو للقرآن من قبل الغزاة العرب وهذا الصمت عن ذكر محمد طوال تلك المدة أمر مريب. وهو يرى أن وجود محمد يشبه وجود روبن هود لكن القصص التي حيكت حوله وضعتها الفئات المتنافسة وقام بتوثيقها مؤلفون مسلمون أضافوا إليها القصص المختلفة التي وجودها في التراث الشعبي لأسباب سياسية. أحد أسباب تشكك سبنسر بشأن محمد هو أن القرآن لم يذكره سوى أربع مرات بدون أي تفاصيل بشأن الشخص التاريخي. ولذا فإن وصف محمد قد يكون مجرد وصف تبجيلي للمسيح من قبل فئات معينة من المسيحيين الموحدين أي النصارى.
تأخذ الرواية الإسلامية الرسمية وجود محمد الفعلي أمرا مسلما به. قليلون يشككون بوجوده الفعلي. فما هي المؤشرات الضعيفة في الرواية الإسلامية التقليدية؟
لا توجد أي إشارة إلى وفاة محمد إلا بعد حوالي مئة سنة من تاريخ حدوثها المفترض. مثلما لا توجد أي سجلات معاصرة لفترة حياته المفترضة. كما أن التراث الشفهي المنسوب إلى محمد تضاعف كثيرا عبر السنين بدلا من أن يتواتر متماثلا متماسكا عبر الأجيال. كذلك فإن كتابات الشعوب التي غزاها العرب لم تشر لا إلى الإسلام ولا إلى محمد ولا إلى القرآن. بل سمي الغزاة بالإسماعيليين أو السراسين أو المهاجرين أو الهاجريين ولم يدعوا مسلمين أبدا.
غير أن الذين يسلمون بوجود محمد التاريخي يرون أن أي دعوة أو طلب لإثبات وجوده غير ضرورية لوجود كل تلك النصوص التي تتحدث عنه. لكن تلك النصوص تم وضعها بعد مئة إلى مئة وخمسين سنة على الأقل من وفاته المفترضة التي تتحدث عنها تلك النصوص. وهذه حقيقة لا يلتفت إليها المسلمون غالبا. وعندما يتحدثون عن محمد لا يخطر ببالهم أن أول كتاب فقهي وضع في التراث الإسلامي وهو الفقه الأكبر لابي حنيفة وضع عام 752 أي بعد وفاة محمد بمئة وعشرين سنة. كما أن معظم الكتابات التي وضعت في القرن التاسع منقولة من كتب وضعت في القرن الثامن تتحدث عن محمد الذي توفي في منتصف القرن السابع. كما أن كتب السيرة تنقل عن كتب سبقتها لم تعد موجودة هذا إن وجدت أصلا. فهذا ابن هشام مثلا الذي وضع سيرة لمحمد نقلا عن سيرة ابن اسحق يعترف انه لخص واختصر وأضاف وغير في النص الأصلي الذي أخذ عنه في حال وجد ذلك الكتاب الأصلي المنسوب لابن اسحق. إن كثيرا من المعلومات الواردة في سيرة محمد كما ينص عليها التقليد الإسلامي موضع شك. فما وضعه ابن اسحق كان روايات شفهية ومعظمها موضوع من قبل الرواة أنفسهم. وعندما تدور رواية السيرة مدة مئة عام شفاهة قبل تدوينها فمن يضمن أن تدوينها كان دقيقا ولم يعتريه أي تحريف؟
في ثلاثينيات القرن العشرين نشر مستشرق روسي كتابا بعنوان “هل وجد محمد؟” قال فيه إن معلوماتنا عن محمد متأخرة جدا وان سيرة حياته عبارة عن خيال نشأ من فكرة تفسير الأساطير عبر الثقافة المحلية لان كل الديانات بحاجة إلى وجود مؤسس. أما المستشرق الروسي الآخر تولستوف فيرى أن أسطورة محمد تتشابه مع تأليه ياكوتس والهدف منها توحيد القوى السياسية والتجارية والقبائلية لضمان وصول الطبقة الأرستقراطية للحكم. كما يرى موروزوف وهو روسي أيضا أن محمد التاريخي غير واقعي تماما مثلما أن يسوع غير تاريخي. ويعتقد أن الخلفاء الراشدين أيضا مجرد أساطير لان الإسلام كان شكلا من أشكال اليهودية حتى وقت الحروب الصليبية.
يعتقد باحثون أن افتقاد التفاصيل الموثقة للسجلات التاريخية والمواد البيوغرافية اللاحقة عن نبي الإسلام والجو السياسي والديني الخيالي الذي تطورت فيه تلك النصوص تفترض أن محمد الذي يعرضه التقليد الإسلامي لا وجود له. كما أن يهودا نيفو وجوديث كورين وضعا كتابا تناول قضية الوجود التاريخي لمحمد وخلصا فيه إلى أن محمد لم يوجد أبدا أو على الأقل إن وجد فإنه لم يكن على الشكل الذي يعرضه لنا التراث الإسلامي المعروف. إسماعيل أدهم كاتب سوداني يقول في كتابه مصادر التاريخ الإسلامي انه وجد للرسول حياة ليست كما تصورها لنا كتب السيرة. وهو يرى أن سيرة الرسول ابتدعتها العقول خلال القرنين الأول والثاني الهجريين فظهر من خلال ذلك التاريخ الإسلامي وسيرة الرسول مختلطة مادتها بالأقاصيص اختلاط قليل من الحقائق بكثير من الأوهام. كما يؤكد أن ما يعرف بنسب الرسول مختلق وان اسم عبد المطلب لم يكن لشخص بل اسم لصنم.
يربط المسلمون الآن شهادة لا إله إلا الله بشهادة أن محمدا رسول الله. لكن طوال أكثر من ستين سنة من وفاته المفترضة لم يكن اسم محمد يذكر مع هذه الشهادة. بل كان هناك إيمان توحيدي نصراني تطور من مفاهيم مسيحية ويهودية بأسلوب خاص. الشهادة المحمدية لم تظهر إلا في الفترة المروانية وظهرت فجأة كإعلان وحيد رسمي للشهادة الإيمانية. وحتى هذه وجدت على مسكوكة من العملة المعدنية ومع ذلك فكلمة محمد في هذا النقش لم تفسر على أنها اسم علم لشخص أو لنبي بل استخدمت وصفا ليسوع المسيح عبد الله ورسوله بحسب النصرانية. كما يشير وانزبرو أيضا إلى أن اسم محمد كان مجرد وصف إضافي لاسم يسوع. وتشير بعض المصادر إلى أن ثمة رسالة منسوبة لعمر ابن الخطاب موجهة إلى كسرى يدعوه فيها للإسلام لا يوجد فيها اسم محمد.
لقد كانت باتريشيا كرونة ومايكل كوك أول من نبها إلى دور عبد الملك بن مروان في ظهور الإسلام واختلاق رسوله. كتبت باتريشيا كرونة العديد من المقالات والكتب والدراسات التي تناولت الإسلام المبكر. وهي ترفض سيرة محمد كما ترويها كتب التراث الإسلامي وتستغرب من عبارة قالها المفكر الفرنسي أرنست رينان الذي أشار إلى أن الإسلام ظهر في ضوء التاريخ وتقول إن التاريخ مظلم تماما عن بدايات الإسلام. وترى كرونة أن قصة الإسلام وضعت في عهد عبد الملك بن مروان كاختلاقات متأخرة وتم إعادة بناء قصة الفتوحات والخلافة كحركة من قبل عرب الحجاز الذين تأثروا بفكرة اليهود عن أرض الميعاد.
لقد أصبح الإسلام منذ القرن الهجري الثالث دينا إمبرياليا اضطر لإنشاء واختلاق أدب ديني (سير تواريخ مغازي وأحاديث) بما يشبه الهذيان وفيه من الغرائب ما انزل الله به من سلطان وربما السبب في ذلك حاجته إلى شرعنة وجوده فسرد الرواة الغث والسمين ولم يتركوا خرافة تعتب عليهم. لقد شعر العرب وقد صار لديهم دولة كبيرة انهم بحاجة إلى أيدولوجية ومن هنا تم تجميع عقيدة الإسلام بحسب الطريقة التي شرحت في مكان سابق من الكتاب.
يرى ابن الراوندي وهو اسم مستعار لباحث عربي انه عندما أكمل العرب بناء إمبراطورتيهم وجدوا انهم بحاجة إلى دين لضمان بقاء وتماسك الإمبراطورية وتبرير حكمهم وشرعنته. فاقتضت الخطة أن يكتبوا التاريخ بأثر رجعي. وحيث انه كانت هناك اليهودية والمسيحية كمثالين فهذا يعني أن العرب كانوا بحاجة إلى تنزيل ونبي تكون حياته نموذجا لاتباعه.
خلاصة القول انه لا توجد معلومات كافية عن محمد، معلومات بمعنى حقائق بيوغرافية ثابتة يمكن الركون إليها. فالمعلومات المتوفرة حاليا بدأ وضعها بعد حوالي مئة إلى مئتي عام من وفاته المفترضة. ولذلك فهناك تشخيص خيالي وتوهمات كثيرة تتعلق بشخصيته وسلوكه وأخلاقه ومعاملاته وحتى وجوده الفعلي.
لم يرد اسم محمد في القرآن إلا أربع مرات وهذه المرات الأربع كانت فيما يعرف بالنصوص المدنية. أي انه طوال النص المكي وهو نص نبوي روحاني تبشيري لم يذكر اسم محمد على الأطلاق. لكن هناك إشارات عديدة إلى “النبي”. ولذلك لا يمكن الاعتماد على القرآن ككتاب تاريخي لإثبات وجود محمد. فالقرآن أصلا كما رأينا في الفصول السابقة لم يكن كتاب وحي سماوي وإنما كان تجميعا لصلوات وقراءات ليتورجية لاستخدامها في الصلاة والتعبد.
من المعروف أن النصارى كانوا يسمون المسيح عبد الله نكاية بالمسيحيين الذين يعتبرونه ابن الله. وكان اسم محمد أو محمدان يعني المختار أو الأفضل وكانت أيضا صفة تطلق على المسيح من قبل النصارى. وهاتان الصفتان لم تكونا أسماء علم عند العرب. واسم محمد مشتق من حمدوت العبرية أي المحبوب وهو لقب من نبوءة دانيال يخص المسيح. أما الباحث التونسي هشام جعيط فيرى أن اسم محمد هو واحد من التأثيرات المسيحية وانه نقل إلى العربية من السريان وانه يعني في لغتهم الأمجد وصيغتها الأولى كانت محمدان.
في تفسير محمد عبد الله ورسوله فإن كونها جملة اسمية تعني أن كلمة محمد ليس اسما لشخص بل صفة لعبد الله ورسوله كما لو كنا نقول: ممجد أو مبجل عبد الله ورسوله. والمقصود بهذا التبجيل هو عبد الله ورسوله المسيح عيسى بن مريم حيث أن عطف عبد الله ورسوله بالواو يتسق مع المقطع الذي يقول: اللهم صل على رسولك وعبدك عيسى بن مريم. وعبارة عبد الله أو خادم الله تعبير كتابي ينطبق على يسوع المسيح كما في أشعيا(52/13): هوذا عبدي يعقل، يتعالى ويرتقي ويتسامى جدا.
تاريخ الإسلام المبكر 15 محمد من دون الإسلام
الذين يتبعون الرسول الأمي
الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل
كثيرا ما يستخدم المسلمون الآيات التي تشير إلى المسيح في العهدين القديم والجديد للإشارة إلى محمد. وهي فعلا وصف “للمحمد” الذي هو وصف للمسيح. الانقلاب الذي حصل في تغيير معنى الإسم ومن ثم ضياع الأصل واختلاق القصص بشأنه هو الذي غير كل شيء في تاريخ الأديان وغير مجرى التاريخ.
أكثر تلك الآيات المستخدمة في هذا المجال الآية 18 من الفصل 18 من سفر التثنية: “أقيم لهم نبيا من وسط أخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به”. لكن هذه الآية بحسب كل تفسيرات الكتاب المقدس وكبار علمائه تخص المسيح وليس شخصا آخر. وحتى الآية التي في القرآن التي يستخدمها المسلمون للقول إن آية التثنية تخص محمد في الحقيقة تخص المسيح أيضا. فالآية 157 في سورة الأعراف قد تكون تشير إلى الآية 18 من الفصل 18 من التثنية: “الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل …. واتبعوا النور الذي أنزل معه”. من المعروف أن المسيح هو الذي جاء معه النور. ففي الآية 46 من سورة المائدة يتحدث عن المسيح بقوله: “وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور”.
لقد كان المسيح في التراث المسيحي السوري هو عبد الله ورسوله. وكان لقب عبد الله لقبا للنبي أشعيا أيضا. وفي رسائل الآباء يوصف يسوع بانه عبد الله وخادم الرب. من هنا كانت عبارة “محمدٌ … عبد الله ورسوله يسوع … وجاء وصفه في القرآن الآية 30 من سورة مريم: “إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا”.
من المعروف في علم التاريخ انه لا يمكن كتابة تاريخ موثوق دون الاستناد إلى قاعدة صلبة على أساس المصادر المعاصرة للأحداث. وفيما يخص مسالة وجود محمد كشخص تاريخي حقيقي قام بتأسيس دين جديد رأينا انه لا توجد مصادر معاصرة للزمن المفترض انه عاش فيه. كما أن الأمر الأخطر هو عدم وجود براهين أركيولوجية مادية تثبت وجوده.
من الغريب أن أول ذكر لكلمة محمد كان ظهورها على مسكوكات الأمويين في سوريا ولكن الأكثر غرابة أن تلك المسكوكات تحمل إلى جانب هذا الإسم نقشا للصليب. ويرى الباحثون الذين تابعوا هذه المسالة بالشك والتمحيص أن كلمة محمد كانت مجرد وصف قصد به تمجيد يسوع المسيح إذ كانت المسيحية سائدة في البلاد السورية. وهذا الوصف والنقش كان موجودا على جدران مسجد قبة الصخرة عند بنائه مما يوحي أن أولئك الحكام كانوا ينتمون لطائفة مسيحية معينة ويرجح أنها طائفة النصارى.
كل الصيغ الإسمية التي ذكرت محمد في النقوش أو المسكوكات لم تكن تشير إليه على أنه نبي أو رسول حتى عام 691 للميلاد. وهذا الغياب وعدم ذكره في جميع النقوش المبكرة وبشكل خاص النقوش الدينية أمر بالغ الأهمية. فالمصادر المتأخرة كلها روايات وأخبار تخص حياة النبي بأدق تفاصيلها ولكن لا نجد أيا من هذه الأخبار في النقوش القديمة المبكرة والمعاصرة للفترة التي يفترض أن محمد عاش فيها. ففي النصوص الدينية العربية من المرحلة السفيانية الأولى المبكرة أي للسنوات 661 – 684 كان هناك ما يشبه “قانون إيمان” بدون الإشارة إلى محمد. فهذا الإسم لا يوجد في النصوص العربية إلا بعد العام 691. ومع أن عبارة محمد رسول الله ظهرت أولا في المسكوكات العربية الساسانية بدءً من عام 691 وضربت في دمشق فإن العبارة الكاملة “لا إله إلا الله محمد رسول الله” فظهرت في منقوشات عبد الملك على جدران قبة الصخرة في العام 691 أي بعد حوالي ستين إلى سبعين سنة بعد وفاة محمد المفترضة وليس لها وجود قبل ذلك.
في المسكوكات التي رافقت الفاتحين العرب لم تذكر كلمة الإسلام أو القرآن طوال ستين سنة من بعد وفاة محمد المفترضة. لكن الإسم ذكر مرتين بدون تحديد وعلى الوجه الآخر من المسكوكة نقشت صورة رجل مصحوبة بصليب. وهنا لم يكن يقصد بكلمة محمد اسم علم بقدر ما هي توصيف شرفي بمعنى المبجل والممدوح يفترض كثيرون انه يخص المسيح. كما أن بعض المسكوكات الفارسية من أواخر القرن السابع نقش عليها عبارة محمد رسول الله ولكن كان يعلوها صليب.
لا توجد مصادر إسلامية موثوقة من القرنين الهجريين الأول أو الثاني. وحتى تلك المصادر إن وجدت ليس فيها ذكر لمحمد أو الإسلام أو القرآن. أما في المصادر الأجنبية غير الإسلامية فلم يرد فيها اسم محمد كشخص في البداية. ولكن لوحظ أحيانا في بعض المراجع الأجنبية من بيزنطية أو أرمنية وجود اسم مهمت
Mehmet
فهل كان هذا اسما حوله العرب إلى محمد ونسجوا بشأنه التاريخ الذي يريدون؟ مصادر أخرى مثل دوكترينا جاكوبي مثلا ذكرت اسم محمد بوصفه قائدا عسكريا محاربا. لكن الإشارة الأقدم إلى محمد في الأدبيات المسيحية الغربية وردت في تاريخ أوسيبيوس في القرن الميلادي السابع ولكن انحصر قوله في أن محمد شخص إسماعيلي ادعى النبوة على الطريقة اليهودية وعلم أبناء بلده العودة إلى دين إبراهيم.
في كتاب العقيدة اليعقوبية، دوكترينا جاكوبي، هناك إشارة إلى نبي حاربه قومه. لكن الكتاب لا يذكر أن اسمه محمد. كما أن الكتاب يشير إلى أن ذلك النبي لا يزال حيا وانه يحمل مفاتيح الفردوس. ولكن في تلك السنة بحسب الرواية الإسلامية الرسمية محمد كان متوفيا كما أن وصف حامل مفاتيح الفردوس لم يكن أبدا وصفا لمحمد في التقليد الإسلامي. كما أن المصادر غير الإسلامية التي أشارت إلى الغزوات الإسلامية والحروب العربية البيزنطية لم تشر إلى محمد أو الإسلام أو القرآن.
لكن اهم من كتب عن الإسلام ومحمد من العالم المسيحي كان القديس يوحنا الدمشقي. وفي موسوعته التي عنوانها ينبوع المعرفة لا يعطي الدمشقي محمد اسما شخصيا بل يعتبره لقبا وربما هذا ما كان سائدا أي لقب النبي المصطفى المختار المحمد. غير أن الدمشقي لم يكن معاصرا لمحمد المفترض بل ولد بعده بخمسة وأربعين عاما وعلى هذا تكون موسوعته قد كتبت بعد محمد بأكثر من مئة عاما على الأقل.
كل ما هو متوفر عن شخصية محمد وحياته وتصرفاته موجود في المصادر الإسلامية فقط فلا توجد أي مصادر أخرى. وحتى المصادر الإسلامية فكلها وضعت بعد وفاته بمئة إلى مئة وخمسين سنة على الأقل. ترى باتريشيا كرونة المتخصصة في المسائل الإسلامية أن محمد لو كان حقيقيا فإنه لم يكن نبيا بقدر ما كان مبشرا بتقاليد العهد القديم تهيئة لقدوم المسيح. من هنا تم اختلاق سيرته وبقية حكايته التي انتشرت في المصادر الإسلامية.
لقد تم اقتباس شخصية محمد كما ترويها المصادر الإسلامية من مصادر عديدة. فشخصية الراعي الذي يتزوج سيدة القوم إلى حين وحي النبوة إسقاط لشخصية موسى. وشخصية النبي المشرد والمنبوذ مقتبسة من شخصية ماني الفارسي. أما شخصية النبي المحارب فتوافق شخصيتي داود وزرادشت. أما شخصية النبي المالك الذي يتصرف باتباعه والمحب للنساء فتوافق شخصيتي داود وسليمان. وشخصية محمد كما في المرويات الإسلامية شخصية مركبة خلقها كتاب مختلفون في أزمانهم ومجتمعاتهم. ولكن يمكن تحديد اتجاهين واضحين: شخصية الراعي اليتيم ومن ثم التاجر توافق الصيغة اليهودية. أما شخصية النبي المحب للنساء والحروب فتوافق الفرس.
الأساطير العديدة والقصص الكثيرة التي رافقت قصة مولد محمد هدفت إلى إثارة عواطف الاتباع بغرض إعطاء قيمة أكبر للشخصية. أما أمه وأبوه فلا يعرف عنهما أي شيء. لم تظهر سيرة النبي الأولى التي وضعها ابن إسحق إلا في منتصف القرن الثامن أيام العصر العباسي أي بعد مئة وعشرين سنة من وفاة محمد المفترضة. وفي سيرة ابن إسحق تبدو شخصية محمد واقعية جدا: زعيم حربي يقوم بغزوات ويحكم بشكل طاغي. في سيرة ابن اسحق محمد شخص واقعي يصوره الكتاب بشكل سلبي جدا. وفي القرون التالية تحولت شخصية محمد من شخصية واقعية إلى شخصية مثالية. ويشير إلى هذا الأمر كتاب حياة القلوب.
لقد تم اختلاق سيرة رسول الله بناء على تخيلات من نصوص القرآن. فلا أحد يمكنه معرفة ما حدث. لقد صور التراث الإسلامي محمد أميا لا يقرأ ولا يكتب لكنه كان محاطا بخمسة وأربعين شخصا يكتبون له ويسجلون نشاطاته وحركاته ولا ينسب التقليد لمحمد انه جمع القرآن أو انه طلب تسجيل كلامه وأحاديثه. ويبدو أن هذه الصيغة في وصف محمد كانت بغرض إبعاد الشبهات.
ولكن لماذا يضع كتاب السيرة كل تلك التفاصيل والصفات ويلصقونها بشخصية محمد؟ أول ما يخطر على البال أن شخصية غير حقيقية لم توجد فعلا في التاريخ يمكن أن ينسج حولها سيرة يفتح الخيال أبوابه واسعة لرسم صورته. كما أن محاولات التبجيل والتعظيم كانت بدائية إلى درجة تسيء إلى الشخص. كما تهدف إلى إخافة الخصوم وجلب انتباههم. كما أن الذين كتبوا وأفاضوا بالكتابة لم يكونوا واعين لما يكتب غيرهم فكثير من تلك الكتابات لم تكن بريئة ولم يعرف كتابها أن انفجار المعرفة الكبير المستقبلي سيكشف الحقائق.
لو كان محمد غير حقيقي ولم يوجد فلماذا حبرت مئات الألوف من الصفحات في السيرة والحديث؟ لماذا اختلقت قصة محمد؟ وما الهدف منها؟ يذكر التراث الإسلامي قصة الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة وهذا الحدث يعطي بعض المؤشرات. بدراسة قصة محمد كما هي في التقليد الإسلامي نكتشف الكثير من الإسقاطات التي استخدمت في بناء قصة محمد. والقرآن لم يذكر من الأنبياء سوى موسى والمسلمون يؤكدون دوما على التشابه بين موسى ومحمد. والحدث الرئيسي في قصة موسى كان الخروج. والحدث الرئيسي في قصة محمد كان الهجرة. وهذا سبب اختلاق قصة الهجرة في سيرة محمد لكي تتوافق مع قصة موسى. أما قصة مكة فهي قصة الهيكل اليهودي. وقصة أساف ونائلة هي قصة أفروديت وجوبيتر. وهبل كصنم أكبر يضاهي مارس إله الحرب عند الرومان. لقد وضع اليهود تلك القصص بعد أن دمرت أورشليم ووضعت أصنام الرومان في مكان الهيكل. فحلم اليهود بمخلص يعيد إليهم أورشليم ويحطم الأصنام. ومن هنا فقط تكون قصة محمد فبركة يهودية لدواعي سياسية قد لا تخطر على بال أحد.
وهناك إسقاطات عديدة من التراث اليهودي النصراني على سيرة محمد. فهل تسريب قصة تسميم محمد كما هي في السيرة النبوية من قبل امرأة يهودية محاكاة لقيام اليهود بالتحريض على يسوع وقتله بالصلب. كل المراجع الإسلامية تجمع أن محمد مات مسموما وهذا الحدث الدرامي كثير الشبهة بالدراما التي تنهي حياة البطل بشكل مفاجئ تحفظ إعجاب الناس فيه. ويقول التقليد الإسلامي أيضا أن أول خلق الله كان محمد والفكرة الأصلية كانت أن يسوع هو أول الخلق وان الخلق كان به بحسب ما جاء في إنجيل يوحنا. فهل هو إسقاط آخر؟
يقول إرنست رينان أن محمد ظهر وعاش في ضوء التاريخ. ولكن بعد هذ السرد الطويل إلى أي مدى يظهر هذا الضوء حقيقة وجود هذه الشخصية؟
يتبع قسم خامس
مواضيع ذات صلة: الأسلام اول حركة قومية عربية
موضوع رائع جدا وقد وجدته مجموعا في كتاب انيق على هذا الرابط