رياض الحبيّب
نقرأ في الصفحة 616-617 في كتاب الرصافي- استكمالاً لموضوع البلاغة في القرآن:
لا شكّ أن البلاغة من التبليغ، كما ذكره الجاحظ في “البيان والتبيين” فالمقصود من جميع طرق البلاغة ومناحيها هو الوصول إلى إفهام المعنى للمخاطب على وجه يكون أحسن وقعاً في سمعه وأشدّ تأثيراً في نفسه، فكلّ من استطاع أن يفهم مخاطبة المعنى الذي حاك في صدره وجال في خاطره بأسلوب من أساليب البلاغة فهو بليغ وفي كلامه بلاغة. فالإفهام هو المحور الذي يدور عليه فلك البلاغة، والكلام يبعد عن البلاغة قدر بعده عن فهم المخاطب ويقرب منها قدر قربه منه، ولا يماري في هذا إلا معاند.
تعليقي: صدق الرصافي. إذاً مَنْ يؤمنْ بالله مطلق الكمال في كلّ شيء فلا يجب أن يكون في ريب منْ أنّ كلام الله بليغ أي واضح ومفهوم للعامّة من الناس الذين يُخاطِب فلا يترك سبحانه مجالاً لغموض ولا التباس، إنّه هو العليم والحكيم والقدير.
أردف الرصافي:
إنّ آيات القرآن متفاوتة في بلاغتها، بل فيها مالا يتمشى مع البلاغة، بل فيها ما لا يتمشى بظاهره مع المعقول. فمنها ما هو غير مفهوم، ومنها ما لا يبلغه الفهم إلا بتأويل وتقدير. وليس هذا القول ببدعة، فالقرآن نفسه قائل بذلك ومعترف به. ففي سورة آل عمران: 7 (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات مُحْكمات هُنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات) والمحكمات هي التي أحكِمَتْ عبارتها فلا يتطرّقها الاحتمال فيكون المعنى فيها مفهوماً وصريحاً، والمتشابهات هي الملتبسات في معانيها فلا يكون المعنى فيها صريحاً ولا مفهوماً. والأصل في التشابه هو المشابهة، يقال: تشابه الرجلان إذا أشبَه َ أحدُهُما الآخرَ حتى التبسا، لأنّ شدّة المشابهة تؤدّي إلى الالتباس ولذلك استعمل التشابه بمعنى الالتباس. وسنتكلم عن هذه الآية فيما سيأتي-
[لقد أفرد الرصافي فصلاً كاملاً عن المُحْكم والمتشابه في القرآن- ابتداءً بالصفحة 643 في كتابه- الشخصيّة المحمّديّة]
أضاف الرصافي:
ولا حاجة أن نذكر لك اختلاف أقوال العلماء في المتشابه وما هو المراد به في القرآن، فإنّ القرآن عربي، وقد استعمَل هذه الكلمة بمعناها اللغوي المعلوم، وليس هناك ما يضطرّنا إلى الخروج بها عن معناها العربي المعلوم. وإنْ أردت الوقوف على أقوالهم، فعليك بالإتقان [الإتقان في علوم القرآن- لمؤلّفه جلال الدين السّيوطي] وها نحن نورد لك بعض الآي من القرآن فنتكلم عنه بما يناسب الموضوع لتعلم منه صحة ما نقول:
(1) جاء في سورة الإسراء: 16 قوله (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمَرْنا مُترَفيها ففسقوا فيها فحق عليه القول فدمّرناها تدميراً) –
إنّ ظاهر هذه الآية غير معقول؛
أوّلاً: لأنّ الله أمَرَ المُترَفين بأن يفسقوا ففسقوا وذلك لا يجوز لأن فِعْل القبيح مستحيل على الله! فقد جاء في القرآن قوله في سورة الأعراف: 28 (قلْ إنّ الله لا يأمُر بالفحشاء)
ثانياً: إذا كان هو الذي أمَرَهُمْ أن يفسقوا كان فسقهم طاعة له وامتثالاً لأمره، فكيف يستحقون الإهلاك؟
ثالثاً: إنّ الإهلاك بالتدمير قد شمل أهل القرية كلهم، وإنما المجرمون منهم هم المترفون الذين هم يمثلون الأقلية من الناس في كل زمان ومكان، وليس هذا من العدل والله يأمر بالعدل والإحسان.
تعليقي: لنضرب مثالاً على ما في كتب التفسير ما يؤيّد احتجاج الرصافي. وهنا من تفسير الطبري للآية المذكورة-
{وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ (أمَرْنا مُتْرَفِيهَا) بقصر الألف من أَمَرْنَا وَتخْفِيف المِيم منها، لإجماع الحُجّة من القرّاء على تصويبها دون غيرها. وإذا كان ذلك هو الأولى بالصواب بالقراءة، فأولى التأويلات به تأويل من تَأَوَّلَهُ: أمَرْنا أهلها بالطاعة فعَصَوا وفسقوا فيها، فحقّ عليهم القول: لأن الأغلب من معنى أمَرْنا: الأمر، الذي هو خلاف النهي دون غيره، وتوجيه معاني كلام الله جَلّ ثناؤه إلى الأشهَر الأعرَف من معانيه، أوْلى ما وُجـِدَ إليه سبيل من غيره} انتهى. ولقد قمت بتشكيل أمَرْنا حيث الميم مخففة ومفتوحة أيضاً وكان الرصافي على حقّ.
وقد ختم الرّصافي في محاولة منه لإصلاح العبارة القرآنيّة وتصليح معناها:
وإنّ علماء التفسير قد أوّلوا الآية تأويلات بعيدة فقالوا: إنّ الأمر هنا مجاز وإن معنى قوله (أمرنا مترفيها) أي أنعَمْنا عليهم نِعَماً كثيرة فجعلوها ذريعة إلى المعاصي، فكأنهم مأمورون بذلك. ولو كان هذا الكلام في غير القرآن لمَا تكلّفوا له هذا التأويل البعيد بل رفضوه وما قبلوه. ولو سلّمْنا صحّة هذا التأويل فما ذنبُ غير المُترَفين؟ ولا نطيل عليك بذكر أقوالهم، فعندك كتب التفسير فارجع إليها إن شئت، سوى أننا نقول: إنّ في هذه الآية قراءة أخرى يستقيم بها المعنى من بعض الوجوه. وهي أمّرنا المترفين (بتشديد الميم) من الإمارة أي جعلناهم أمراء، ففي هذه القراءة إصلاح للعبارة وتصليح للمعنى، لأنّ أمراء الناس مسبّبو هلاكهم في كل زمان، والظاهر أنّ الذي حمل هذا القارئ على قراءته هو ما رآه في القراءة الأولى مِنْ أنّ المعنى غير معقول، فقرأ “أمّرنا” -بتشديد الميم- لأنهم كانوا يقرأون القرآن بالمعنى، فكل ما صحّ به المعنى فهو قرآن عندهم. وليس الذي قالوه في القراءات إنها توقيفية بصحيح.
تعليقي أخيراً وتأكيداً على مشروعيّة وجهة نظر الرصافي، ذهبتُ أيضاً إلى مطلع تفسير ابن كثير للآية فوجدتُ قوله:
{اِخْتلفَ القرّاء فِي قِرَاءَة قوْله (أَمَرْنَا) فالمَشهُور قِرَاءَة التخفيف وَاختلفَ المُفسِّرُون في مَعْناها} انتهى. وكما تقدّم فإنّ اختلاف المفسّرين من العلماء والفقهاء على كلمة أو جملة منسوبة إلى السّماء يدلّ على الإفتقار إلى البلاغة.
————–
في الحلقة السادسة والعشرين: ما ليس من البلاغة في القرءان- في نظر الرصافي- سورة الفرقان: 45