إستنتـاجــات الفصل الأول من كتاب (الردة في الإسلام) الكتاب منشور في العام 1999 لمؤلفه
حسن خليل غريب
وهذا النص الكامل للاستنتاجات:
للمشركين عفو عن شركهم إذا لم يعتدوا. ولأهل الكتاب عفو عنهم إذا دفعوا الجزية. ولأهل البغي عفو عنهم إذا فاؤوا ( رجعوا ) إلى أمر الله. وللمسلمين المنافقين سلامة من القتل بفعل شطارتهم بالتمويه. فالمسلمون المؤمنون يُقِّيمون الظاهر من المسلم، ولا يتدخَّلون في الباطن منه.
فمنع استخدام القوة ضد المشركين، وأهل البغي، وأهل الكتاب، مشروط بامتناع العدوان والبغي ودفع الجزية. أما ردة المسلم عن الإسلام فليست مشروطة إلا بالعودة إلى الإسلام، وإلا فإن البديل هو القتل؛ فلماذا ؟
من يضمن أن عودة من سيعود عن ردّته إلى الإسلام خوفاً من القتل ستكون عن إيمان صحيح؟ أو ليس الاحتمال الأكبر لعودته أن يكون التستر بالإسلام حفاظاً على الحياة، والنتيجة أن يكون مسلماً منافقاً؛ فهل يحمل المسلم المنافق خيراً للإسلام ؟
بين العقوبة الأخروية، الخلود في النار، التي فرضها الله تعالى على المرتدّين؛ وبين العقوبة الدنيوية، القتل، التي فرضها حديث الرسول، مسافة مليئة بالتساؤلات المشروعة / الشرعية والعقلية .
ردَّاً على هذا التباين، أضحى التسابق على التنازل في إبداء الخضوع في سبيل اتخاذ فتاوى أشدّ قسوة، سُنَّة دائمة عند معظم التيارات والفرق الإسلامية، إن لم يكن كلها. وأخذت هذه الفرق، بدلاً من فتح باب التيسير تُشِّرع فتاوى التعسير على أوسع أبوابها. وكأننا نرى في تزاحم العلماء المسلمين -على شتّى تياراتهم وفرقهم- إلى استدراج الأحكام والأوصاف الأشدّ قسوة، التي أُطلِقت على من حسبوهم مرتدّين، الذين لسبب عقلي أو نقلي انتقدوا جانباً أو أكثر من جوانب النص الإسلامي.
لقد وُصِفَت، ما حسبوها رِدَّة، بأنها أشد أنواع الكفر على الإطلاق، ونَعِدُّ هذه الأوصاف أنها وسيلة للزلفى إلى الله تعالى؛ فكأن إنزال أشد العقاب (القتل)، على المسلم الذي غيّر دينه أو حاول أن يجتهد كما اجتهد غيره، ليس إلا إرضاء لله تعالى-كما يحسبون- في الوقت الذي لم يفرض هو بعزّته وجلاله مثل هذه العقوبة.
ففي مجال ملء مَسَاحة الفراغ والتباين الموجود بين النصّين القرآني والنبوي، لماذا لم يعط العلماء / الفقهاء أرجحية لصالح النص القرآني الذي أُنزِلَ من أجل هذا السبيل؟
إن ذلك لم يحصل -كما نحسب- لأن الفقهاء المسلمين ضيَّعوا، في غمرة السيول من الجدالات المذهبية الراكضة وراء حيازة موقع الفرقة الناجية من النار باللجوء إلى المزيد من الزلفى لله، أيهما الأصل -النص القرآني أم النص النبوي- وأيهما الفرع، في معرض المقارنة بين الحكم الإلهي و الحكم النبوي .
لو قُيِّض لنا أن نحصل على تاريخ واضح لأسباب النزول، وللظروف التي دفعت بالرسول ليحدِّث بما حدّث به من أحاديث نُسِبَت إليه حول مسألة الردّة، لكان ذلك خير مساعد في فهم مساحات التباين بين ما جاء في النص القرآني وما جاء في النص النبوي. فعلى الرغم من ذلك سنحاول، بما نستطيعه من الجهد وبما توفّر لدينا من معطيات ووقائع تاريخية مؤكّدة، أن نصل فيما بينها في محاولة لإعطاء رأي حول هذه الإشكالية .
كانت أول محاولة للفتنة بين صفوف المسلمين قد حصلت من ذيول الالتباسات التي أحدثتها وقائع ما جرى بعد سرية عبدا لله بن جحش، والتي تمّت في أول عهد الرسول في المدينة، والتي دار الجدل فيها حول مسألة القتال في الشهر الحرام:
-ردّ فريق من المسلمين في مكة على المشركين أن القتال لم يتم في الشهر الحرام. وفريق آخر، مؤيّداً موقف الرسول، أنّب عبدا لله بن جحش على ما أقدم عليه من قتال في الشهر الحرام.
-غضب الرسول على عبدا لله بن جحش لأنه قاتل في الشهر الحرام. وامتنع عبد الله بن جحش و أصحابه عن تغيير موقفهم وأصرّوا على أن تنزل توبتهم.
-تَدَخَّل اليهود نافخين بالنار، فرحين بأن يحصل قتال بين المسلمين وقريش. واستمرَّت قريش في التأليب على المسلمين بأنهم ارتدّوا عن اتفاق تحريم القتال في الأشهر الحرم .كما أنها اتّهمت الرسول بنقض العهود والمعاهدات .
في ظل هذا الانقسام أصبحت الأبواب مشرّعة، في داخل دائرة الاحتقان، على أسوأ الاحتمالات، منها:
-كاد المسلمون أن يقتتلوا بين مدافع عن عبدا لله بن جحش، وبين متّهم إياه (فريق معه وفريق ضدّه). وإذا وقعت الحرب بين قريش وبين المسلمين، في الوقت الذي يعاني فيه المسلمون من تشتت وفرقة في المواقف، حيث كانت الفتنة قد بدأت تنخر صفوفهم، ستكون الغلبة لقريش الموحّدة الصفوف، المدعومة من اليهود.
أما الذي كان عليه أن يحسم أمر المسلمين ويوحِّد صفوفهم، فلم يكن إلا الرسول قادراً أن يعطي الحكم الفصل. فنزلت آية: (يسألونك عن الشهر الحرام… ومن يرتدد منكم عن دينه … [إلى آخر الآية]… )لتعالج أمرين:
-الأول: أَحَلَّ للمسلمين قتال المشركين في الشهر الحرام، وهذا ما يضمن براءة عبدا لله بن جحش وأصحابه، وهي الحل الذي يُعيد للمسلمين وحدتهم .
-الثـاني: تهديد المسلمين الذين كانوا على وشك الارتداد عن الإسلام بإحباط أعمالهم (إبطال ثوابهم) في الدنيا والآخرة؛ وإنهم بارتدادهم عن الإسلام سوف يكونوا من أصحاب النار هم فيها خالدين .
ولهذا، وبعد أن أصبح المسلمون في موقع عسكري قوي، وبعد أن ازدادت سرايا الرسول وغزواته؛ ولما كثر القتال بين المسلمين والقبائل العربية التي لم تدخل الإسلام، ومنها التجمّعات اليهودية، أصبح الكثيرون من المسلمين الخائفين على حياتهم، أو الخائفين من ويلات القتال، وهم الذين أطلق القرآن عليهم صفة المنافقين، أقرب إلى أن يرتدّوا عن الإسلام، وهذا ما يمكن أن يُحِلَّ الضعف في نفوس من لم يدخل الإيمان قلوبهم بسبب من حداثة انتمائهم للإسلام.
كانت الردة، في مثل تلك الظروف حيث كان الإسلام طريَّ العود، من أفحش أنواع الكفر، أي من أشد الأخطار التي يمكن أن يواجهها الإسلام فعلاً، ليس لأسباب عقيدية دينية، وإنما لأسباب تهديدها لأمن الجماعة المسلمة في مواجهة عدو كثير العدد والعدّة. فالرد الحاسم والمناسب، في مثل ظروف كتلك التي كانت فيها النتيجة المحتملة: إما حياة الإسلام أو موته، كان يجب أن يكون قاسياً حتى لو كان قتل المرتدين هو العقوبة المفروضة.
كان الارتداد عن الإسلام، في تلك الظروف أيضاً، يُمثِّلُ خطراً أمنياً وعسكرياً أكثر منه خطراً عقيدياً دينياً. فالعقيدة الدينية كانت بطاقة هوية تثبت صحة انتماء الفرد إلى الدولة الحديثة العهد بالتأسيس في حينه، وكان الخروج عن العقيدة هو خروج عن الدولة.
لهذا، وكما نحسب، كانت مساحة التباين واضحة بين النصين القرآني والنبوي:
فالحكم القرآني يُعَدُّ -كما نرى- ثابتاً قيمياً لا يتغير بتغير الزمان والمكان إلا في ما له علاقة ببعض التفاصيل، والتي قامت بتحديدها أحكام الناسخ والمنسوخ، التي وإن توسَّع الفقهاء المسلمون في مساحاتها، فلابد من إعادة النظر في هذه المساحات لتقريبها أكثر من الواقع المعاش. أما النص النبوي فيمكن أن يلحق به التغيير، فهو قد يكون محكوماً بمرحلة أو ظرف أو موقف تقتضيه مصلحة الدفاع عن قيم أو مصالح عامة في ظرف من الظروف الخاصة.
فاستمرار التسابق على الحكم بالقتل على التارك لدينه، استناداً إلى الحديث النبوي، من دون النظر إلى اختلاف الظروف، أصبح عند الفقهاء حكماً ثابتاً، بينما الحكم الثابت -الذي نصَّ عليه القرآن- أصبح عندهم متغيّراً مرحلياً.
ماذا جاء من أحكام في النص القرآني حول أسلوب الدعوة للإسلام، والعقوبة المفروضة على التارك لدينه؟ ما هي الأحكام التي نصَّت عليها السُـنَّة النبوية حول المسألة ذاتها؟ أين تقع نقاط الالتقاء، ونقاط الافتراق؟ وهل من تسوية بينهما؟
-إن النص الوحيد الثابت هو النص القرآني: (لا إكراه في الدين) ،و(قل الحق من ربِّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، و(فإن أعرضوا عنك فما أرسلناك عليهم حفيظا) و(فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) …
-أما الأحاديث النبوية: (من ترك دينه فاقتلوه)، (وأُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا…)؛ فإنه على الرغم من الإجماع عليها بين الفرق الإسلامية كافّة، إلا أن بعضهم قد أكثر من شروط صحّة الإسلام أمام الأفراد والجماعات؛ وبعضهم قد أقلّ منها. وأخذوا يحاسبون بعضهم البعض بالتبديع والتفسيق والتكفير؛ وكانت كل فرقة منها تستند في أحكامها إلى الشروط التي وضعتها من طرف واحد استناداً إلى اجتهاداتها الخاصة بها، فلم يبق لمبدأ الردة في الإسلام -في مثل هذه الحال- إلا مهمة اتهام الآخرين بالردة وتكفيرهم؛ ففُقِدت الضوابط، وأُفلِت السيف من عقاله .
وبدورنا، وإذا حاولنا أن ننظر إلى هذه النصوص من خلال المنظور السوسيولوجي والتاريخي، فسنرى أنها جاءت منعزلة عن هذا السياق.
حتى وإن عُرِفَ ظرف النطق والعمل بها، فإن الروايات التاريخية التي يُستدَلُّ منها على صحة الأحاديث قد دُوِّنَت في عصور متأخرة جداً عن زمان حدوثها. يقول محمد أركون (مفكر عربي معاصر): «إن القرون الهجرية الأولى هي فترة صعبة جداً على الدراسة لأنها غائصة في أعماق الزمن؛ ولأن الوثائق الصحيحة المتعلقة بها نادرة؛ فالمصادر التي تتحدث عن هذه القرون التأسيسية من تاريخ الإسلام هي جميعها مصادر متأخرة، بمعنى أنها كُتبت بعد منتصف القرن الثاني الهجري ( أي بعد 150 سنة على الأقل). وإذن فهي لم تُدَوَّن وقت حصول الأحداث أو فور حصولها كما يتوهم عموم المسلمين، وإنما بعد حصولها بزمن طويل».
اقتضت الظروف التي كانت محيطة بالرسول، في أثناء قيامه بالدعوة للإسلام، وضع عدد من الأحكام -جاء بعضها نصاً قرآنياً وبعضها الآخر حديثاً نبوياً- التي تُنظِّم شؤون المسلمين؛ كان بعضها يتغَّير بتغّير تلك الظروف. ويُقرُّ العلماء المسلمون بوجود آيات ناسخة وآيات منسوخة؛ فالناسخ يمثِّلُ الحكم الجديد والمنسوخ يُمَثِّلُ الحكم الملغى. إن مبدأ الناسخ والمنسوخ يدل دلالة واضحة على حتمية تغير الظروف، وعلى وجوب تغيير الأحكام بما يتـلاءم مـع الظروف الجديدة؛ فالأحكام، إذاً، لم تكن تنزل بمعزل عن سياقها التاريخي: الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
رفض العلماء المسلمون أن ينظروا إلى النص من خلال خصائصه التاريخية، على العكس مما فعله الرسول ومما فعله النص القرآني. وكان ما فعلوه هو أنهم نظروا إلى النص على أساس جامد من القدسية، وتحريم المساس به، فتحوّل النص الديني، عندهم، من تاريخيته إلى مستوى التجريد الخالص؛ فأخذ هؤلاء يناجون الله -في لحظات الخلوة- وكأن هذا النص أصبح بمنأى عن كل ما يحدث في المجتمع من سياسات وتقاليد وأعراف وتحزُّبات وصراعات، وكلّها تجعل المجتمعات في حركة دائمة متغيِّرة، والدليل على ذلك مواكبة النص الدائمة -في خلال حياة الرسول- وفي أقل من عشرين سنة من عمر الدعوة الإسلامية، لتلك المتغيّرات حيث كان حكم جديد لظرف جديد ينسخ حكماً قديماً كان يتناسب مع ظرف قديم. أفلا يمكن-استناداً إلى حكمة الناسخ والمنسوخ، من جهة؛ والى تغير بعض الأحكام النبوية، من جهة أخرى- أن يتجرَّأ الفقهاء، من أجل مصلحة البشرية في وجوب التطور، أن يقرِّبوا من حين إلى آخر بين النص والواقع، آخذين جانب الثوابت من القيم الإسلامية والإنسانية؟
لمثل هذه الأسباب، وخلافا لما عمل -ولما زال يعمل- به الفقهاء المسلمون، سوف نرى في المراحل التاريخية اللاحقة، أن التاريخ عندما كان يتحرك، كان النص الديني يتراكم باستمرار لمواجهة حالة التطور، فيُنحَل منه و إليه، إلى درجات التضارب والتناقض والتصارع بين النصوص الفرقية / المذهبية؛ ولم تكن حركة النص الديني -في خلال مئات من السنين- سوى خدمة لحركة التاريخ في مختلف وجوهها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
لنفترض، كما يفترض علماء الدين المسلمين في خلواتهم وفتياهم، أن النص في القرآن والسُنَّة منعزل عن سياقه التاريخي والواقعي؛ فماذا نجد حول مسألة الانتماء إلى الإسلام وحول الردة عنه، وحول الأحكام التي صدرت على المرتد عن الدين؟
-أولا : في مسألة الانتماء: حذَّر الله من استخدام الإكراه في الدعوة إلى الإسلام، قائلاً: (لا إكراه في الدين)؛ وترك حرية اختيار الإيمان أمام البشر أو حرية الكفر: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).
بالإضافة إلى نفي الإكراه وتحذير النبي والمسلمين من استخدامه إلا بشروط دقيقة، أمر الله الرسول والمؤمنين بالتزام حدود حريتهم واحترام حرية الآخرين بالاختيار: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ (المائدة: من الآية105). وأمر الله النبي، أيضاً، بأن دوره ليس في إكراه الناس على الإيمان، لأن الله قادر على إكراههم إذا شاء: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس:99).
إلى جانب الآيات التي تمنع الإكراه أتى في القرآن آيات تأذن للمسلمين بالقتال بشروط: إذا ظُلِموا، أو لقتال الفئة الباغية، أو للدفاع عن النفس، أو قتال أهل الكتاب حتى يدفعوا الجزية. وعلى العكس من ذلك فقد جاء في حديث للرسول ما يحض على القتال في سبيل فرض الإسلام: (أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا …)؛ فهل يعني هنا بكلمة الناس -كل الناس- أم أن هناك جماعة محددة؟ وهل معنى (الناس) هنا عام أم خاص؟
إذا كان المقصود (بالناس) المعنى العام، فإن فيه ما يتناقض مع ما جاء في القرآن. أما إذا كان المقصود هو المعنى الخاص، فيكون حديث الرسول ظرفياً ومؤقتاً ومتغيِّراً له علاقة بظرف خاص، وحادث معيَّن. وهذا ليس فيه ما يتناقض مع حرية الإيمان كثابت قيمي.
-ثانـياً: في مسألـة الـرِدَّة :بعد أن عرفنا الظروف التي أُنزِلت لأجلها آية (من يرتدد منكم عن دينه)، ثم تحذير المرتدّين من الخلود في النار؛ أصبح من الواضح، أيضاً، أن الذين يرتدّون عن الإسلام (لن يضروّا الله شيئاً)، وليس من العسير (يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه).
أصبح الأمر واضحاً وجليّاً أن من يرتدد عن دينه لن يوقع ضرراً على المؤمنين وعلى الله تعالى، لأن الله قادر -إذا شاء- أن يعوِّض الإسلام والمسلمين بأفضل منهم، محبة وإيمانا بالله وبالإسلام. وعلى الرغم من كراهية الردة عند الله فقد جاء ما يحذِّر المرتدين من أعمالهم من أن حساباً ينتظرهم في الآخرة .
-ثالثـاً: في مسألـة الأحكام على المرتـد:
-في أحكام القرآن: فيمت وهو كافر -إحباط أعمال المرتد في الدنيا وفي الآخرة- وهو من أصحاب النار خالد فيها -لعنة الله عليهم والملائكة والناس أجمعين-يضـرب الملائكة وجوههم وأدبارهم .
-في أحكام السُـنَّة: الحكم بالقتـل.
-في أحكام السلف: الاستتابة قبل التنفيذ.
من الواضح أن الله قد أجَّلَ حساب المرتدين إلى الآخرة، وذلك على الرغم من أن الفقهاء المسلمين قد استدلّوا بأن في كلام الله ما يدل على عقوبة دنيوية: (فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا)، لكن ليس في إحباط الأعمال أية إشارة، من قريب أو بعيد، حول القتل. أما الحكم الدنيوي، أي ما جاء في أحكام السُـنَّة فيه أمور ثلاثة: الحساب كمبدأ، والاستتابة، والقتـل.
فالحساب كمبدأ يعني أن الله لم يفوّض الرسول نفسه بالسيطرة على البشر بحيث أمره: (فذكّر إ نما أنت مذكِّر لست عليهم بمصيطر)، وإذا (أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً).
فدور الرسول -حسبما جاء في النص القرآني- هو البلاغ وحسب، وعلى الله الحساب (فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب)؛ وعلى الرغم من ذلك فقد أجاز العلماء المسلمون على الرسول، وعلى أنفسهم، أيضاً، مهمة محاسبة البشر. ولم يقف بعضهم عند هذا الحد فتجاوزوا كل ذلك وأمروا بتكليف أي مسلم كان بتنفيذ حكم القتل من دون العودة إلى الحاكم وإرغام من لا يطبِّق بعض أحكام الدين على تطبيقها. ولننظر إلى ماذا سوف تؤول إليه الأمور إذا طبّق مسلم هذه الأحكام تقليداً لفتوى أحد الفقهاء والتي تتعارض مع فتوى فقيه آخر .
أما الاستتابة فيبدو أن العلماء المسلمين لم يقفوا كثيراً عند حالة التعجب التي وقف عندها النص القرآني قائلاً: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ (التوبة: من الآية104). وجاء، أيضاً: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّه (النساء: من الآية17). وجاء ، أيضاً، أنه: هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِه (الشورى: من الآية25).
وعلى الرغم من كل ذلك فإن عدداً كبيراً من الفقهاء -حتى الآن- يحاسب ويستتيب ويهدد بالقتل، وينفِّذونه في معظم الأحيان .
فبين حكم الله، في إرجاء الحكم على المرتدين وغيرهم إلى الآخرة -وهو الحكم الأصل الثابت- وبين حكم السُنَّة والسلف، وهو الفرع المتغيِّر، تقع مسافة الظرف السياسي والأمني والاجتماعي، أي الظروف المحيطة بالحدث المتغيِّر.
كانت العقيدة الدينية في أثناء حياة الرسول على التصاق شديد بالوضع السياسي. فالدعوة الجديدة كانت بحاجة إلى إطار سياسي يحميها من المناهضين لها وكانوا كثيرين في البداية. فلهذا السبب أسّس الرسول دولته في المدينة، وجمع الأنصار فيها والمهاجرين، فأصبحت تشكِّل ملجأ آمناً لكل من اعتنق الدعوة الجديدة .
عمل الرسول على تأمين الاستقرار الاقتصادي والأمني لدولة المدينة. فإذا كان الاستقرار الاقتصادي قد أصبح آمناً بواسطة الغنائم التي كانت تجلبها السرايا والغزوات، وفرض الجزية على أهل الكتاب؛ فإن الاستقرار الأمني كان يتطلّب توفير قوانين تحميها. ولن يغرب عن البال أن الدولة -أية دولة- تُطبِّقُ قوانين استثنائية عندما تـمر في ظروف استثنائية، وهي التي تُعرَفُ في المصطلح القانوني في عصرنا هذا بقوانين الطوارئ.
كانت مصلحة دولة المدينة، في بداية تأسيسها، لا تسمح بأي اختراق أمني، لأنها كانت لا تزال طرية العود محاطة بكثير من الأعداء من الخارج، وبعدد غير قليل من الداخل من الذين لم يكتمل إيما نهم بها وبالدعوة الجديدة، من الذين لم يكونوا متحمسين جداً للدفاع عنها، لأنهم كانوا في غير ثقة من إمكانية استمرارها .
كان يُعَدُّ المرتد عن الدين، في مثل تلك الظروف، مرتدّاً عن الدولة، أيضاً؛ وكان هذا الارتداد يشكِّل خطراً أمنياً على سلامة الدولة الطرية العود، وعلى الأمن النفسي للجماعة المسلمة التي لم يتسن بعد لقوة إيمانها أن تشتد وتتعمق. فالأمن هنا -كما نحسب- كان أمناً معنوياً للجماعة المسلمة من جهة، وأمناً مخابراتياً (سياسياً وعسكرياً) يُعنى بأسرار الدولة السياسية والعسكرية.
إنطلاقاً من هذه الظروف الخاصة والمرحلية، كان الحكم على المرتد عن الإسلام يحمل وجه الدفاع عن أمن الدولة. لم تكن الدعوة الإسلامية تخشى الاختراق العقيدي / الديني -بمعنى الارتداد عن الدين -بدليل ما حملته المرحلة المكيَّة، أي مرحلة ما قبل تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة، من دعوة واضحة وملزمة للرسول بالحوار وبالتي هي أحسن سواء مع المسلمين أو مع غيرهم .
إن ما يدفعنا إلى حسبان أن الارتداد لم يكن يحمل معنى الارتداد على العقيدة بمعزل عن الظرف السياسي والأمني، لأن الإسلام ليس دعوة سريّة؛ وإنما هي بالأساس دعوة علنية تعمل على نشر مبادئها في خارج الجماعة المسلمة. فالتبشير بها في العلن هي من المهمات الأساسية المطلوبة من المسلمين. لذلك ليس في الإسلام، كعقيدة، من الأسرار الدينية ما ُيخشى من إفشائه وتسريبه إلى المشركين من قريش أو غيرها؛ لكن ما كان يُخشى عليه من أسرار هو تسريب ما كان له علاقة بالدفاع والهجوم وسِرِّية تحركات السرايا والغزوات، وهي أسرار لا يتعدى خطرها أمن الدولة السياسي والعسكري .
إن زوال الظروف المرحلية التي استدعت مواجهة مرحلية بقوانين مرحلية -شبيهة بحالة الطوارئ- يفترض زوال النتائج التي ترتّبت عليها لتترك المكان للأحكام الثابتـة، وهي حرية الاختيار، ومنع الإكراه.
يتفرَّع عن المسألة الأم، لا إكراه في الدين، ثلاث مسائل فرعية، إلا أنها لا تقلُّ عنها أهمية في تأثيرها على الحياة الفكرية للإسلام، كما وأن لها تأثير على مدى تطور الإسلام وتقدّمه، وهي :
-الأولى : هل الإسلام دين الفطـرة؟ إننا نتساءل: وماذا يعني ذلك؟ أين يلتقي هذا المبدأ مع مسألة )لا إكراه في الدين) وأين يفترق عنها؟
لا شك أن آية (لا إكراه في الدين) تتناقض مع ما جاء في حديث الرسول: (إن المرء يولد على الفطرة…) إذا كانت الفطرة -كما جاء تعريفها في الصحاح- تعني الخِلقة، لأنه لا يلتقي الاختيار في الآية مع الجبر في الحديث.
فالخِلقة / الفطرة تكون هنا بمعنى الغريزة؛ مثل غريزة التناسل والجوع وحب البقاء وحب الأم لطفلها… وقد جاء في تعريف الغريزة ما يلي: «هي نمط سلوكي موروث، خاص بنوع حيواني، قليل التباين بين فرد وآخر؛ يجري وفق وتيرة زمنية قليلة التعرض للتقلبات، فيبدو النمط الغريزي كأنه جواب غائية إشباع الفرد أو النوع (تغذية، حماية، تناسل) دون وعي التناسق الضروري، وربما دون وعي الغاية المنشودة. بهذا تُعتبر الغريزة نقيض السلوك الذكي».
يشترك في هذه الغرائز كل من الإنسان والحيوان، يقدم عليها من دون تفكير، وهي تشكل شرطاً ضرورياً لاستمرار الحياة؛ بل إنه بدون ممارستها تنقرض الحياة الحيوانية والحياة البشرية؛ فيمكن للإنسان -مثلاً- أن يموت جوعاً.
أما الدين، بشكل عام، والإسلام بشكل خاص لأن المسلمين يقولون بأنه دين الفطرة، ليس بغريزة شبيهة بواحدة مما تكلمنا عنه، وإلا كان الامتناع عن تلبية الحاجات الدينية، إذا صحَّ أن هناك فطرة دينية، تعني انقراض الجنس البشري أو موته بسبب عدم تلبية تلك الحاجات؛ لكن ما نراه أن الجنس البشري مستمر الوجود منذ بدء الخليقة، سواء من كان منه مؤمناً بالأديان السماوية أو بغيرها من الأديان الوثنية.
فالتناسل والجوع والعطش وحب البقاء … يُعَدُّ كل منها غريزة ضرورية لا تستمر الحياة من دونها. أما الدين فهو غير ذلك كليّاً؛ فهو حاجة روحية فحسب، وإلا كان من اللازم أن نعتقد أن هناك غريزة الانتماء للإسلام، وغريزة الانتماء إلى المسيحية… و هلم جراً.
استناداً إلى ذلك نحسب أن للفطرة، التي وردت في حديث الرسول، مضمون اجتماعي أي بمعنى التقليد أو العرف. وقد جاء في تعريف التقليد ما يلي: «يُؤخَذُ بمعنى المحاكاة والنقل. فيكون التقليد متعدد المعاني: قبول قول الغير بلا دليل (تصديق)، وقبول قول الغير للاعتقاد فيه (تمذهب). وقد ذهب الأشعري إلى أن التقليد كاف للإيمان، فعارضه أبو هاشم المعتزلي بالقول: لا بد لصحة الإيمان من الاستدلال»، وإن السلوك التقليدي «سلوك مألوف، معروف من قبل، حدث وما زال يحدث على النحو عينه. وهو السلوك الخاضع لسلطان الماضي (عادة القدماء: عادة التمثُّل بما قيل وحدث)، ولآداب الحياة السالفة، وللموروث / المألوف، لدرجة التكريس المعياري أو العرفي».
فحديث الفطرة لا علاقة له بإكراه المرء على اعتناق دين آبائه؛ وإنما له علاقة بتقليد الأبناء للآباء؛فهم يقلدونهم بمختلف عاداتهم الاجتماعية والدينية. فيتوارث الأبناء عن الآباء العادات و الأعراف بلا دليل، لكنهم في المقابل يقومون بتطويرها وتحديثها أو تعديلها أو إلغائها.
من إسباغ قدسية لا يمكن الجدال فيها أو حولها، باعتبار المسلم مفطوراً / مخلوقاً على الإسلام؛ وقع الفقهاء المسلمون في متاهة / فخ لا يمكن الفكاك منه، لماذا؟
إذا كنا، استناداً إلى الحديث النبوي، نعتقد أن كل من يولد من أبوين مسلمين يجب أن يكون مسلماً بالفعل، لأن نطفة المسلم إذا دخلت رحم المرأة تصير في حكم الإسلام ، فإن هذا لن يعني إلا أن الله قد خلق المسلم مسلماً، فلا رادَّ-إذاً- لإرادته لأنه ليس لإرادته تبديلٌ.
إن ما ينطبق على خلق المسلم مسلماً منذ أصبح نطفة في رحم أمه، ينطبق-أيضاً- على خلق المسيحي مسيحياً، وعلى خلق الوثني وثنياً.
إذا صحّ هذا القول يعني أنه من الواجب الامتناع عن الدعوة للإسلام سواء كانت الدعوة بالقوة أو كانت بالحوار؛ لأن الدعوة في ظل هذه الأسباب هي محاولة من الإنسان لمنع إرادة الله في خلقه.
-الثانيـة : مسألـة الجـبر والاختيـار: لم تستطع الحركات الإسلامية، منذ نشأة علم الكلام حتى الآن، أن تحسم الرأي في هذه الإشكالية الفلسفية، أي بمعنى التوفيق بين طرفيها المتناقضين على صعيد النص الديـني الإسلامي؛ وهي قد بقيت ميداناً للتكفير المتبادل بين الفرق التي تقول أن الإنسان مخلوق مع أفعاله، ومصيره الأخروي مُسجَّل في اللوح منذ ولادته، وبين الفرق القائلة بأن لكل نفس ما كسبت، وعليها ما اكتسبت.
وحيث إن هذه المسألة قد استهلكت القرون الطويلة من الجدل الديني والكتابة فيها والمناظرات التي دارت حولها، نحيل من يهتم بتفصيل أكثر إلى آلاف الكتب والمصنفات الخاصة بها. لكننا في الوقت ذاته، ولما له علاقة ببحثنا، كان لابد إمامنا-وانسجاماً مع منهجنا في اعتماد العقل الناقد- إلا أن نسجِّل عدداً من الملاحظات:
لو كان مبدأ الجبر هو الثابت، أي أن الله عز وجل يخلق في الإنسان أفعاله-وهو قادر على ذلك من دون أية مناقشة- لكان من الواجب الديني الإيماني على المسلمين أن لا يعملوا ضد ما أراده الله، أي أنه من العبث أن ندعو إلى الإسلام من هو مكتوب عليه أن لا يكون مسلماً بإرادة من الله؛ ومضيعة للوقت أن ندعو إلى الإسلام من كان مكتوباً عليه أن يكون مسلماً بإرادة من الله أيضاً. ففي حالة القول بالجبر-وهو حكماً ضد آيات الكسب والاختيار- سوف تنتفي شرعية الدعوة الإسلامية بحجة أن المسلم مخلوق مسلماً، والمسيحي مخلوق مسيحياً، والمشرك مخلوق مشركاً… والمؤمن مخلوق مؤمناً، والمنافق مخلوق منافقاً. فلماذا، إذاً، نستهلك الوقت في تصنيف وفي تأليف مئات الألوف من الكتب والمحاضرات والمجادلات والمناظرات؟!!
-الثالثــة: حديث افتراق الأمـة والفرقة الناجيــة من النار: إن ما نحسب أنه يُمثِّل خطورة في مسيرة التاريخ الإسلامي، ليس ما يحمله مبدأ الاتهام بالردة وفرض العقوبة على الأفراد، لأن الخسائر مهما كانت ستبقى محدودة؛ لكن ما نحسب أنه يشكِّل الخطورة الفعلية هو ما أسبغه الفقهاء المسلمون من قدسية على هذا المبدأ، من جهة؛ ولارتباطه مع حديث الفرقة الناجية من النار من أصل ثلاث وسبعين فرقة من جهة ثانية.
وإذا ما حسبنا أن الحديث الذي نُسِبَ إلى الرسول صحيحاً وُمجمَعَاً عليه -وهو حديث افتراق الأمة والفرقة الناجية- ذا علاقة وثيقة بمبدأ الردة في الإسلام، لأصبح من الواضح أمامنا مدى الخطورة الذي يمثِّلُه هذا المبدأ على مسيرة الدعوة الإسلامية، منذ وفاة الرسول حتى الآن، والذي ما زالت آثاره مستمرة.
وحيث إننا سوف نتناول مدى انعكاس تطبيق هذا المبدأ على مسيرة الإسلام والمسلمين عبر مختلف مراحل التاريخ الإسلامي، نرى أنه من المفيد الإشارة إلى أنه-استناداً إلى هذا الحديث- سوف تعمل كل فرقة إسلامية، في تسابق محموم بين كل الفرق، على اكتساب موقع الفرقة الناجية متَّبِعَة أسلوب تكفير الفرق الأخرى، واستخدام مبدأ الاتهام بالردة ضد منافسيها كمبرر لاستباحة دمها؛ وقد استباحت كل فرقة دماء أصحاب الفرق الأخرى، جماعات وأفراداً. وهذا ما سوف نُطِلُّ عليه بالتفصيل في الفصول اللاحقة من هذا البحث.