محمد البدري
قدم اريك فروم الانسان في مؤلفاته من حيث كونه الكائن الوحيد الواعي لمعني الحرية والمتجادل مع بيئته لتحقيقها. فالبيئة كلها قيود بدءا من الجاذبية الارضية الي عدم وفائها بمتطلبات حياه الكائن الحي الا ببذل الجهد لاستخلاصها منها، لكنها في ذات الوقت تمنح فرصا لمن يقدر علي الحياة فيها. ولان الحديث في علم الاجتماع والسياسة فلن نتطرق الي البيولوجيا والفسيولوجي الا بقدر ما يخدم البناء الاعلي الاجتماعي والفكري وبالتالي السياسي منه. وهو ما سيجعل من السيكولوجيا الاجتماعية ارضا خصبة لتحليل مازق الاستاذ “سامي بن بلعيد” في مقاله بعنوان: “الالحاد الذي يخدم الاسلام السياسي” ضمن محور مواضيع وابحاث سياسية.
كان حرص “فروم” الممسك بديناميكات العملية الاجتماعية علي الالتزام بالتحليل النفسي والفعاليات السيكلوجية فرديا أو جماعيا في تحقيق تطلعات البشر الي مجتمع افضل بعد ان كان للقوة العضلية والتكيفية الوظيفية فضل البقاء داروينيا في سحيق الازمنة. “إريك فروم” وبجدلية، يحسد عليها، يقر ان الانسان الحديث الذي جعلته الفردية متحررا من قيود الجماعية المجتمعية فان الفضل يعود اليه في صراعه ضد العقل الجمعي والي المجتمع الذي اعطاه الامان في خروجه علي اعرافه وتقاليده بعد ان ادرك مدي تخلفه عندما كان في المرحلة القطيعية من التطور الحضاري مرورا بكل المراحل حتي زمننا الحالي. وبقدر ما جلبت له الحرية من استقلال فان العقلانية التي هي سلاحه الاساسي في الحرب علي التخلف عزلته وجعلته قلقا دائما.
ولعل هذه الفقرة من المقدمة الاولي لكتابه
Escape form Freedom
تحيلنا الي تناقض جدلي آخر في سياق استشهاده بأستاذه “سيجموند فرويد” بما اسماه الاخير التسامي علي واقع القمع الحضاري ، بانه كلما كانت درجات الكبت عالية وتفوق قدرة الفرد علي التحرر كلما انحرف الفرد واصبح ممن يصنفون عصابيين (بضم العين). وتبقي المشكلة الكلية حيه وفاعلة بين التناسب العكسي الحاصل بين اشباع الدوافع الفردية للانسان بشكل مستقل عن واقعه وبين المكون الحضاري الذي هو في حاجة دائمة للكبت توفيرا للطاقة لاقامة الكيان الحضاري الجماعي واستدامته. فكلما إزداد الكبت زادت الحضارة ارتفاعا (وليس شرطا سموا) وازدادت معها ايضا الحالات العصابية والاضطرابات النفسية. فالفرد يبقي قائما عمليا ككيان فسيولوجي تفخر به الحضارة وتتملق نفسها به لكنه علي المستوي العقلي التناغمي معها فهو ليس سوي حزام ناسف أو فار صغير يعمل بداب شديد ثقبا ولو صغيرا في جدار تلك الحضارة العظيمة التي اصبحت سدا يحجز طاقة هادرة تريد ان تشكل شيئا آخر يسمو فيه الفرد والجميع متجاوزين حضارة القمع والكبت. هذا الجدل في صيرورته هو المعول الاول وربما الوحيد في سياق هدم الحضارة وإعادة بنائها.
ولن نطيل في الحديث عن عالم الاجتماع والنفس الفرويدي والماركسي في آن واحد الا لأن مقالة الفاضل المحترم الاستاذ “سامي بن بلعيد” تحمل فكرا توافقيا به من الخوف من الحرية وعلي ما في المجتمع باكثر مما يامله الحاملين لفكر يسعي لتغيير المجتمع. خوف الكاتب علي مجتمع المسلمين التقليدي وحسب التحليل النفسي والاجتماعي مشروع طالما النخب لم تصل في خطابها للتماس مع المكبوت في العقل الجمعي للمجتمع الاسلامي. فالظلم وحده ليس كافيا للثورة بفعل التفرد والفردانية لكن الوعي به هو ضمان خلق افرادا لهم استقلالية للتسامي علي العقلية القطيعية لاهل الحضارة التي هي في حالتنا اسلامية الطابع.
لكن أغرب ما في المقال الذي لم اشأ بالمشاركة فيه بقدر ما اهتممت بالكتابة عنه أن يغفل السيد “بلعيد” ظهور السلفية الاصولية بممارساتها للاجرام الحضاري إضافة لممارستها القتل والتخريب من عباءة هذا المجتمع، وليست من خارجه، واعتبر ان الالحاد يخدم الاصولية الاسلامية رغم انه نقيض الاثنين. لكنه افتري وقال ان البيئة الالحادية تخرج اصوليين حسب ادعائه ونسي انها مهمومة بتحرير العقل من سطوة اي فكر وخاصة لو انه مفرخة للارهاب. فما مقدار الصدق في هذا الطرح؟ إنه سؤال مطروح للاجابة عليه.
لو اتبعنا اسهل وابسط الطرق في التفكير فان الاصولية ستتخذ من الملحدين تكأه لاثبات صدق ادعائها. لكنها لم تدخل اطلاقا في حوار مع اهل الالحاد خوفا من هزيمتهم الماحقة، لكنهم فضلوا محاورة علمانيين معتدلين كالدكتور فرج فودة ولم يفوتهم قتله بعدها. ولم يفوتهم تكفير د. نصر حامد ابو زيد، المؤكد اسلامه، واغتياله معنويا لاحقا. فكم سمعنا عن اتهامات باطلة بان العلمانيين الموصوفين بالالحاد كذبا يسعون لنشر الرزيلة وتبادل الزوجات وممارسة كل انواع الاباحية التي يعافها البشر. لكننا لو تعمقنا قليلا لاكتشفنا ان رغم جهل البسطاء والعامة وجمهور المتدنين، الذي هو كاف للضحك علي عقولهم، الا أن الاصولية اضطرت للكذب والخداع والتزييف والتضليل لتمرير إدعاءاتها الكاذبة. الكارثة ان من يريد لهم السيد الكاتب البقاء انطلي عليهم ذلك الكذب وصدقوا واصبحوا من جماهير الاصولية تنتخبهم وتاتي بهم الي السلطة ومجالس التشريع هروبا من الحرية التي أشار اليها عالم النفس والاجتماع باول المقال.
لم يشعر السيد “بلعيد” باي قلق من جراء التدين البسيط الذي يريد الحفاظ عليه بقدر اهتمامه بما ليس عند الملحدين من برهان علي الحادهم. عدم الشعور بالمسؤولية إزاء النقص الاخلاقي لدي الاصولية جعله هرما منها وكان من المفترض ان يكون شبابا يافعا ضمن من اعتبرهم “فروم” أصحاب العقل المتمرد علي كوابت الحضارة والمحملين بالقلق لما بها من عوار. وهنا نسأل بدورنا نفس اسئلة الاستاذ “بلعيد” أين العقل والمنطق ؟ واين المجتمع الذي يفترض ان يعيش فيه الجميع بسلام ؟ واين حقوق الانسان ؟
كلها اسئلة لها اجابات حاسمة في ماضي الامة التي يراد منا ان نحافظ علي بقائها بكل ما بها من اجرام وجريمة يمارسها الحكام كما نري حاليا او السلفيين الان وفي المستقبل لو قدر لهم البقاء. فلم يكن بها يوما ما عقل أو منطق ولم يكن بها حقوق حتي للمسلمين المعتدلين ولم تعرف حقوق الانسان اطلاقا الا بعد ان اخترعتها المجتمعات الراسمالية التي يخاف منها السيد “بلعيد”.
وينتهي المقال برجفة شديد، اشد من خوف أعتي اليساريين يسارية، فمن وجهة نظره الشخصية يقترح لجمهور الملحدين بثورة تغيير فكرية قيمية إنسانية خاصة بهم, لانهم في نظره بحاجة الى التغيير والوقوف أمام الذات وإعادة النظر في قراءة التاريخ ومتغيراته والا يكونوا ممن يخدم الرأسمالية وقوى الاسلام السياسي دون علم. وما عدا ذلك سيصبحون خارج إطار التاريخ وسيكونوا أول ضحايا الذئاب الرأسمالية المسعورة التي تخطط لابتلاع كل شي.
نسي الاستاذ الفاضل “بلعيد” ان الراسمالية متوحشة او غير متوحشة ليست سوي قطة صغيرة واليفة بجانب النسق الاقتصادي الاسلامي الاصولي الذي يعرف الربح باسم “الرزق” وعوائد الدولة من الضرائب جباية لما في كلاهما من دلالات تخلو تماما من الحرية الفردية أو قواعد السوق. تحت اي قواعد وباي قوانين إذن، تحددت قيمة الرزق وقيمة الجباية، والفقر يضرب كل بلاد المسلمين رغم ان الحسنة بعشر امثالها. فالحرية، التي نهرب منها، كلما تماست معنا، ظلت تراكم قيما ومدركات طوال التاريخ من نزوع للاستقلال فان العقلانية التي هي سلاح الفرد المتمرد الاساسي في الحرب علي التخلف هي التي اكتشفت زيف الالفاظ ومدي تضليلها للوعي الجمعي، بعكس من خرج بالحاد او بعلمانية ليرشد الناس الي حقائق الواقع. وربما لهذا السبب وخوفا منه في آن واحد جاء الرئيس الاسبق “كارتر” كمندوب عن القطة الاليفة (المخترعة لحقوق الانسان) لزيارة مقر اللجنة التاسيسية لصياغة الدستور في مصر داعيا اياهم لسرعة انهاء كتابة الدستور ومباركته لاعمال اللجنة التي يشكل السلفيين الاصوليين الذي هرمنا جميعا منهم اكثر من 70% من اعضائها.