أمام كل هذا الحاصل من الترهيب والعنف الممنهج؛ لا تختلف المنظومة الديكتاتورية الدينية في العالم العربي عن المنظومة الديكتاتورية السياسية، فالإقصاء أو القتل هو الحل الدائم للمُختلِف عنها سواء كان لمعتقده الديني أو لرأيه السياسي. فنرى اليوم ازدهاراً لا مثيل له للديكتاتوريات العربية بكافة صِيَغها وأشكالها لا سيما في وجود عدو هو هدف دائم اسمه المختلِف؛ الكافر؛ الثائر؛ المعارِض؛ أو الكاتب، وبوجود مُصفِّقين للجرائم المُعلَنة وغير المُعلَنة لتلك الديكتاتوريات تحت تبريرات تُناسب توجُّه كل فئة.
نجد انّ الديكتاتوريات الدينية والسياسية صبغَتْ المجتمعات التي تحكمها بهوية عنفية قاتلة بدلا من تعزيز ورفع الهوية الحضارية التي تَنسب انتماءها لتاريخها، غير واعية أنّ كل ديكتاتورية هي مملكة موت على جماجم شعوبها حيث الإنهيار لها وللدولة والمجتمع هو النتيجة لا محالة. فلا يمكن لمنظومة الإقصاء واللون الواحد في كل شيء أن تنتصر، فالمنظومة التي تُوحّد الشعوب فقط تحت شعار التشابه بالعقيدة أو بالدين أو بالتوجه السياسي أو حتى باللغة؛ إنما تصنع مجتمعات طائفية تتبنى النزعة العنصرية وتُسانِد القاتل الذي يقتل انتصاراً لمعتقدها الديني أو السياسي في مجتمع مُتعدِّد الانتماءات الدينية والعقائدية أصلاً، وهي غالباً مجتمعات آيلة للسقوط أو التقسيم في أي لحظة، فالأحداث المتعاقبة والممارسات العنفية لتلك الديكتاتوريات ليستْ إلاّ طلقات متتالية في بيت النار، وليس الآتي إذن إلاّ حريق يطيح بالجميع.
فمن ربيع الثورات العربية إلى ربيع الديكتاتوريات العربية، حيث نجد مَن يقوم ضدّ الديكتاتورية السياسية وهو يدعم الديكتاتورية الدينية، أو مَن يجد في الديكتاتورية السياسية مبرراً لمواجهة الديكتاتورية الدينية، حتى تفاقمَت وتعالَتْ هامات الديكتاتوريات في انهيار فاضح للقيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية وحقوق الإنسان في حالة سقوط مُجتَمَعي. فبين الديكتاتورية الدينية والديكتاتورية السياسية؛ يقبع الفرد العربي اليوم كهدف لجهة ما، رغم أنه ليس بالضرورة أن يكون هدفاً لدولة؛ بل قد يكون هدفاً لشخص ما هو نِتاج هذه الديكتاتوريات الدينية أو السياسية ليرمي به في خانة كافر أو خائن وينتهي هذا الأخير برصاصة يظنّ مُطلِقُها أنه يدافع عن حق بإسم إله أو دين أو حاكم في بلاد لا تؤمن بالتعددية الفكرية والسياسية والدينية رغم حقيقة وجودها التاريخي. إذاً ما الحل؟
لقد جرّبتْ الشعوب العربية الديكتاتوريات والقمع بكافة أشكالهم، ورغم بدء ما سُمِي بالثورات العربية والتي قامَتْ شعوبها على الديكتاتورية السياسية؛ إلاّ أنّ هناك أغلبية شبه مُتَّفِقة على الديكتاتورية الدينية في تكفير وتخوين مَن يكتب أو يقول مُغرِّداً خارج السرب، والأخطر أيضاً أنها تُجمِع على ضرورة قتله أو معاقبته، فيُقتَل مَن سُمي بكافر في وضح النهار في وقت تخلّتْ فيه الدولة عن دورها وحيث الأنظمة السياسية العربية شريكة رجال الدين في هذا لأنّ الإثنَين وجهان لعُملة واحدة.
من هنا، فإنّ إجماع الناس على شيء لا يعني بالضرورة صِحّته؛ فكل حقبة من الزمن كانت مجتمعات بأكملها تُجمِع على أفكار ومعتقدات معينة حتى يأتي مَن يُغالطها ويُصحّح مسار الفِكر الإنساني، والتاريخ شاهد على هذا.
إنّ التجربة وحدها التي تُميّز الفكرة وتُحوّلها من الكلام النظري إلى حقيقة عَمَلية. فما استخلصَتْه الأمم من تجربة العِلمانية كان إثباتاً على رهان الكثيرين من رجال الدين الذين لعبوا الدور الأكبر في الديكتاتورية الدينية وفي تحويل الدين من علاقة الإنسان مع الخالق إلى مادة للتأويل الدائم و ورقة خلاص أو اتّهام يتم إلصاقها بكل موضوع وكل فكرة وكل قرار حتى أصبح الإنسان لخدمة الدين وليس الدين لخدمته.
فالأديان أتتْ لخدمة الإنسان وليس الإنسان لخدمتها. ولم تُبنَ الحضارات أو الأوطان بالدين الذي هو شأن خاص؛ بل بالعلم والقانون والرغبة الدائمة في التطوير. فالعلم والقوانين العادلة هي التي تُنظّم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتَحفظ حق الجميع ويبقى الدين جزءاً منها وليستْ هي جزءاً منه. وهذا لا يُلغي الأديان؛ بل يحدّد ماهيتها واستخدامها بعيداً عن الاستغلال السياسي أو استثمارها في ديكتاتورية دينية. فمن أولى إنجازات تجرية العلمانية هي إطاحتها بالثيوقراطية أي حكم الكهنة، والتي نظام الحكم فيها هو نظام سماوي كما يسمّونه يخضع لرجال الدين الذين يستمدّون سلطتهم من الإله وبالتالي فإنّ أيّ معارضة أو اجتهاد للتطوير البشري تُعتبَر مخالفة للحكم السياسي وبمثابة معارضة للإله، ليصبح هذا الحكم بصلب تركيبته هو حكم إقصائي ديكتاتوري واستبدادي.
ولعلّ أوروپا أول مَن عانت من مسألة الأديان والاحتكار الذي مارسه رجال الدين على المجتمع بدعم سياسي واتفاق وتوافُق كامل مع الحُكّام. حيث أتتْ الثورة الفرنسية في وقت كان استغلال الإنسان في ذروته بين رجال الدين والحاكم (ظل الله على الأرض) كما أطلق عليه رجال الدين؛ أي بين السلطة الدينية والسلطة السياسية. ويأتي السؤال هنا ألم تقُم الثورة الفرنسية في ذروة تمسّك رجال الدين بالحكم وسيطرتهم على مناحي الحياة كافةً؟ أولم يكن وضع أوروپا مشابهاً نسبياً لِما هو الحال في الكثير من البلدان العربية اليوم؟ لماذا نجحت تجربة العلمانية في أوروپا في ذلك الوقت بعد صراع طويل؛ بينما ما زالت تخوض معركتها اليوم في الشرق بين آلاف الأصوات المُعارِضة؟ أليست أوروپا وأميركا أو الغرب العلماني عموماً يعجّ بالمتديّنين الذي يمارسون طقوسهم الدينية وشعائرهم بكل حرية؟ إلى متى لا يفهم الدينيّون العرب ودينيون الشرق الأوسط أنّ العلمانية لا تعني الإلحاد وليست نقيض الدين في الجوهر بل هي نقيض تدخّله في القانون والسياسة وسنّ دستور بموجبه. العلمانية نظام سياسي ديمقراطي مجتمعي يَقبَل فيه الجميعُ الجميعَ باختلاف معتقداتهم ودياناتهم وطوائفهم، يتمّ فيه فصل الدين عن السياسة وعن السلطة السياسية والقانونية. أوليس هذا أكثر ما تحتاجه شعوب الشرق الأوسط والمُتحاربين من أجل الدين في عالما العربي اليوم والتخلص من الديكتاتورية الدينية؟
من جهة أخرى، هناك أصوات تقول إنّ بعض أنظمة الشرق الأوسط هي أنظمة علمانية ولم يأتِ منها إلاّ القمع والعنف والديكتاتورية السياسية. لكن ما هو غير صحيح هو أنه لا يوجد نظام سياسي علماني حقيقي في الشرق، ولم تُطبَّق العلمانية بشكل حقيقي وفاعِل على الأرض في المجتمعات العربية؛ بل بقينا عبارة عن تكتّلات دينية مذهبية وطبقية جاهزين في أي لحظة لتكفير الآخر أو تخوينه على أساس ديني أو مذهبي، وبقيت بهذا، الديكتاتورية الدينية في كل الحقبات التاريخية مصدراً للتفرقة العنصرية و عودَ ثقاب جاهز للحقد والكراهية، وذريعةً تتّخذها الأنظمة للديكتاتورية السياسية القائمة أصلاً من دون وجود الديكتاتورية الدينية.
الديكتاتوريات الكلاسيكية والجديدة مع سلطات رجال الدين المتحكّمين بعقيدة وحريات الأفراد والشعوب تجاه الإله؛ كلها مستدامة ومستمرة في ظل فقدان الوعي بالحريات وثقافة حقوق الإنسان، والشعوب في الشرق تحتاج لعقود طويلة كي تتطهّر من هذا المرض التاريخي والحي لهذه اللحظة. الثورة الفكرية أولاً هي أساس الثورة السياسية والإجتماعية والإقتصادية للوصول لحكومات رشيدة ودول تتمتع بحقوق مواطَنة وفيدراليات، وغير ذلك فقد تموت الثورات أو تنحرف سريعا لكل هذه الأسباب إذا ما كان الهدف محاربة الديكتاتوريات الدينية والسياسية على حَدٍّ سَواء للوصول للحريات ولدولة قانون يتساوى فيها الجميع تحت شِعار الديمقراطية ومبدأ المُواطَنة من دون الأفضلية لأحد على أي أساس ديني أو عِرقي أو مذهبي أو سياسي.
المصدر ايلاف
الديكتاتوريات في العالم العربي حربائية التوجهات تتلون حسب ما يضمن استمراريتها ويؤمن مصالحها سواء كانت توجهات مغلفة بغلاف ديني او سياسي ، وهناك انظمة احترفت هدا التماهي لدرجة الاعتقاد انها مصدر هده التوجهات التي هي نتاج التحولات الكبرى للقوى المؤثرة اقليميا ودوليا
” الثورة الفكرية هي أساس الثورة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للدخول لحكومات رشيدة…”هذه إجابة كافية ومنطقية لتحليلك المتميز ..فأوروبا لم تنجح في ترسيخ النظام العلماني الا حين تم تهييء أرضية فكرية ثقافية متنورة بفضل مفكري وفلاسفة عصر الأنوار لذا فالثورة الفرنسية انطلقت من أساس فكري متين كان هو الضامن لنجاحها ..أما ما يجري الآن في العالم العربي ما هو الا فوضى ترتكز على فراغ معرفي فظيع لن يؤدي إلا الى ديكتاتورية من نوع آخر..بمعنى آخر هناك صراع ديكتاتوريات ليس إلا..محبتي
رائع ما قصدته الكاتبة ريم شطيح ليس فصل الدين عن حياة الناس بل منع استغلاله في السياسة لخدمة الاستبداد وهي تدعو الى نوع من الاختصاص بحيث يكون مكان رجال الدين المعابد وهم فيها احرار ومحترمون ومكان رجال ً السياسة الاحزاب وهم فيها احرار ومحترمونً ولو عدنا للتراث فان الرسول في مرض موته حين ساله الصحابة ما نفعل بعدك يا رسول الله قال لهم المسلمون ادرى بشؤون دنياهم ولم يفرض عليهم اتباع نموذج الدولة التي اقامها بل حدد لهم الطريق عبر عامل المصلحة وفتح لهم باب الاجتهاد واسعا لذلك بعد وفاته ابتدعو نظام الخلافة وليس عليه اي نص وهونظام مصلحةلا نظام الدين والعلمانية في أوروبا اعطترجال الدين حق ادارةًالمعابد وأما المجتمع فتديره المصالح والعقل فانتجوا اعظم حضارة في الكون