هل يمكن تحرير فلسطين، كل فلسطين انطلاقا من غزة؟ من يستمع الى خطاب السيد خالد مشعل رئيس الممكتب السياسي لـ”حماس” يظنّ أن ذلك ممكن وأن استعادة فلسطين من البحر الى النهر، او من النهر الى البحر لا فارق، مسألة ايّام او اسابيع او اشهر في ابعد تقدير!
ما الذي يريده مشعل الذي وطأت قدماه ارض غزة للمرة الاولى منذ اربعة عقود؟ الامر الوحيد الثابت انه يبيع الفلسطينيين الاوهام، لا لشيء سوى لأنّ خطابه مبنيّ على وهم. يحاول رئيس المكتب السياسي تسويق “انتصار” تحقق في الحرب الاخيرة التي شنّها الاسرائيلي على غزة وذلك من منطلق ان “حماس” اطلقت صواريخ طاولت تل ابيب. حسنا، هناك صواريخ لدى “حماس” تستطيع الوصول الى تل ابيب. ولكن ماذا عن الدمار الذي لحق بغزة والقتلى الذين سقطوا وعددهم يزيد على مئة واربعين في اقلّ من ثلاثة ايّام؟ هل الدم الفلسطيني رخيص الى هذه الدرجة؟
ينسى السيّد مشعل أنه دخل الى غزة بضوء اخضر اسرائيلي. ما يدلّ على ذلك، أن اسرائيل اعترضت على دخول قياديين من “الجهاد الاسلامي” الى القطاع. كانت النتيجة انهم لم يدخلوا…بعد ابلاغها من يعنيهم الامر في القاهرة أنّ دخول هؤلاء يعني انها لن تعود ملتزمة الاتفاق الاخير الذي رعته مصر- الاخوان وادى الى وقف للنار والى تهدئة.
في استطاعة رئيس المكتب السياسي في “حماس” قول ما يشاء. يستطيع التفكير في كيفية تكريس غزة “امارة اسلامية” تتحكّم بها مصالح عائلات لديها ولاء للحركة الاسلامية، لكنّ همّها الوحيد حماية مصالحها القائمة على التهريب. المهمّ بالنسبة الى الاسرائيلي تكريس “حماس” للشرخ القائم حاليا بين الضفة الغربية والقطاع. أنّها تنفّذ عمليا السياسة الاسرائيلية القائمة على “غياب الشريك الفلسطيني الذي يمكن التفاوض معه”. أنّها السياسة التي اسس لها اليمين الاسرائيلي وتمكّن ارييل شارون وضعها موضع التنفيذ مطلع العام 2000 عندما اصبح رئيسا للوزراء.
يقفز مشعل ومعه السيّد اسماعيل هنيّة رئيس الحكومة المقالة في غزة فوق موازين القوى. أنهما يستخفان بعقول الفلسطينيين بتجاهلهما أن المفاوضات التي دارت في موازاة الحرب الاخيرة على غزة ادت عمليا الى التزام “حماس” لعب دور الشرطي على طول حدود مع اسرائيل. ووفي حال نجاح الحركة في هذه المهمّة ليس ما يمنع في المستقبل نقل تجربتها الى الضفة الغربية. ولعلّ ذلك ما طالب به رئيس المكتب السياس لـ”حماس” عندما تحدث عن “مرجعية” اسمها منظمة التحرير الفلسطينية وضرورة اصلاحها. الهدف من هذا الكلام، الجميل ظاهرا، تحويل منظمة التحرير اداة لـ”حماس” على غرار ما كانت عليه في الماضي بالنسبة الى “فتح”، وهي الحركة الامّ التي بدأت للاسف الشديد، تتآكل من داخل.
لا شكّ أن منظمة التحرير الفلسطينية في حاجة الى اصلاحات بعد ترهّل اللجنة التنفيذية وكلّ المؤسسات التابعة لها نتيجة غياب القائد الفلسطيني الذي يمتلك الرؤية والمستشارين الذين يمتلكون حدا ادنى من الكفاءة. ولكن الى اشعار آخر، لا يزال البرنامج السياسي للمنظمة هو البرنامج الوحيد المقبول من المجتمع الدولي. ما يدلّ على ذلك موافقة الجمعية العمومية للامم المتحدة باكثرية مئة وثمانية وثلاثين صوتا على رفع فلسطين من “مراقب” الى “دولة غير عضو بصفة مراقب”، اي ان وضعها صار شبيها بوضع الفاتيكان.
لم يكن هذا الانتصار السياسي ممكنا من دون البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية. كلّ الدول التي صوتت لمصلحة الطلب الفلسطيني، بمن في ذلك ايران، أنما اعترفت بشكل مباشر باسرائيل في حدود 1967 نظرا الى هذه الحدود هي في اساس هذا الطلب. ولو كان في اسرئيل حكومة واعية تريد السلام فعلا، لكانت وجهّت الف شكر وشكر الى الرئيس الفلسطيني السيّد محمود عبّاس الذي جعل كلّ الدول العربية والاسلامية، ومعها ايران بشعاراتها الطنانة، تعترف دفعة واحدة باسرائيل!
بالسياسة وحدها يمكن للفلسطينيين ان ينتصروا. بالسياسة وحدها، عاد ياسر عرفات، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني الى الضفة الغربية وغزة وكان لديه في مرحلة معيّنة مطار اقيم في القطاع يسافر منه الفلسطينيون ويعودون عبره الى غزة.
بالسياسة وحدها، التي اعتمدها “الاخوان المسلمون” في مصر، وليس بالصواريخ المضحكة- المبكية التي لا تخدم الاّ اسرائيل، عاد خالد مشعل الى غزة. كان هدف الاخوان استخدام حرب غزة للانقضاض على مصر والامساك بكلّ مفاصل السلطة فيها. كادوا ان ينجحوا في ذلك، لو لم يتصد لهم قسم كبير من ابناء الشعب المصري لا يزال يرفض سقوط مصر في فخ شعارات “الاخوان” بعدما مكثت طويلا في اسر نظام العسكر بكلّ ما يمثّله من تخلف وانتهازية.
تبدو اسرائيل، للاسف الشديد، المستفيد الاوّل من عودة خالد مشعل الى غزة ومن خطابه. لا مانع لديها في الترويج لمثل هذا النوع من الخطابات. اسرائيل لا تحارب الاّ من يقف فعلا في وجه الاحتلال ويسعى الى ازالته. ولذلك نراها حاليا شريكا غير مباشر في الحرب الاقتصادية التي تتعرّض لها المملكة الاردنية الهاشمية ذات المصلحة في قيام الدولة الفلسطينية “القابلة للحياة” بديلا من اطلاق الشعارات الفارغة التي تخدم السياسة الاستيطانية وعملية تطويق القدس بالمستعمرات وافراغها من اهلها الاصليين.
يفترض في من يريد بالفعل خدمة الفضية الفلسطينية هذه الايّام، الابتعاد عن الخطابات المتهورة والاقدام على خطوات شجاعة من نوع الزيارة التي قام بها الملك عبدالله الثاني لرام الله. اسرائيل لا تخشى سوى مثل هذا الدعم الحقيقي للقضية الفلسطينية. ولذلك ردت بقسوة، عبر الاعلان عن اقامة مستوطنات جديدة، على الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الامم المتحدة وتفعل كلّ ما تستطيع لمنع الاردن من التغلّب على ازمتها الاقتصادية. من يريد تأكيدا لذلك يمكن احالته على الجهود التي تبذلها الدولة العبرية، على كل صعيد، لمنع الاردن من امتلاك برنامج نووي سلمي يسمح بتوليد الكهرباء وتحلية المياه.
اليست مفارقة أنها سهّلت، في موازاة الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، زيارة خالد مشعل لغزة واطلاقه خطابه الناري الذي يؤكّد أن هدف “حماس” تغيير طبيعة المجتمع الفلسطيني وليس زوال الاحتلال.
تستطيع “حماس” التعايش مع الاحتلال الى النهاية ما دام يضمن لها اخذ الفلسطينيين نحو مزيد من التخلّف والسعي في التمدد في اتجاه الضفّة الغربية من جهة والقضاء على مشروع الدولة الفلسطينية، النائم حاليا في الادراج، من جهة اخرى.
المصدر ايلاف