بيروت.. باريس.. مدريد

samir

في الثلاثينات قامت في أوروبا مواجهتان ضد الفاشية؛ الأولى عسكرية في إسبانيا، والثانية فكرية في باريس، حتى في الأولى، جاء مفكرون ومثقفون وكتّاب مثل جورج أورويل وأندريه مالرو وإرنست همنغواي. لكن في باريس كانت الحريات من كل مكان وفي سبيل جميع القضايا. بولنديون، وروس، ورومانيون، ولبنانيون، (بعضهم ضد تركيا وآخر ضد الحركة الصهيونية). كانت هناك قضايا كبرى تعصف بالعالم، النازية، الفاشية الإيطالية، الفوضوية والليبرالية. وقد احتضنت باريس، بصحافتها ومحافلها ومقاهيها، القادمين من كل زاوية طليعية.
كان ثمة شعور عام، ولكن غير مؤكد، أن هذه الصراعات سوف تؤدّي يومًا إلى حرب عالمية كبرى تجرف القارة برمّتها إلى الدمار والفناء. لذلك، لعبت التيارات الفكرية دورًا أساسيًا وإن لم يكن حاسمًا. وسوف تفيق باريس نفسها ذات يوم، فإذا قوات الاحتلال النازي، تجعل مقر قيادتها قبالة اللوفر وحديقة التويلري.
لعبت بيروت، بمقدار حجمها ومدى صداها، دور باريس الشرق. احتضنت المفكّرين العرب، واستقبلت المنفيين، وفتحت أبوابها لإصدار الصحف الناطقة باسم بعض الأنظمة، والتي لا يمكن لها الصدور في بلدانها. كان هناك من يقول إن الصراعات السياسية المتضاربة سوف تجر خلفها صراعات عسكرية، لكن بيروت لم تصدّق. هي، ستظل باريس، ولن تتحول مدريد أخرى. لكن نزار قباني الذي عاش فترة في مدريد، رأى المرحلة العسكرية قادمة. وكتب في مقالته في «الأسبوع العربي» شتاء 1975 مقالاً بعنوان «سوف تقتلونه وتندمون».
قال يومها إن المتربصين لا يعرفون قيمة هذا البلد الجميل ولا يقدرون فسحة الحرية التي يؤمِّنها لهم، ولن يعرفوا مدى الخسارة إلا متأخرين. بسبب هذا الكلام اتُّهم نزار قباني بعروبته وشرفه القومي. وكنت يومها رئيس تحرير «المجلة»، فلما قرأت المقال قلت له: سوف يسبب لك ولنا الكثير من المشاكل، وأنا أتمنى عليك ألا تنشره.
كان من عادته أن يدخل مكتبي باسمًا ويخرج ضاحكًا. لكنه، هذه المرة، وقف وكأنه يهددني بالاستقالة، قائلاً: شوف خيو، أنا لبناني أكثر منك! وكانت الأديبة غادة السمان تكتب يومها صفحة أسبوعية في «المجلة» أيضًا. وجاءت بعد قليل من خروج نزار ومعها مقالتها. وكانت تقريبًا عكس مقالة نزار وفي حدة شديدة. قلت لها: هل من الممكن تخفيف بعض التعابير؟ قالت، فلنجرب. لكن بعدما رأت كمية التعديل، غضبت وسحبت المقال.
لم تمض أشهر حتى حوَّلوا بيروت إلى مدريد. وجميع الذين ظنوها محمية، حملوا أوراقهم وذهبوا إلى باريس نفسها. وصارت أهم مجلات لبنان تصدر من فرنسا ولندن. وما زالوا يقتلونه. القتلة لا تعنيهم كثيرًا مسألة الندم.
نقلا عن الشرق الاوسط

About سمير عطا الله

كاتب صحفي لبناني الشرق الاوسط
This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.