لم أنس يوماً أنني كنت أدرس في جامعة بيرزيت الغراء، وإلى كتلتها الإسلامية الرائدة كنت أنتمي وأنتسب، فهي مرحلةٌ من العمر أعتز بها وأفخر، وأتميز بها عن غيرها وأفرح، وأتحدث عن أيامها وأسترسل، وأستفيض في بيان تجاربها واستعراض مراحلها وأتشرف، وأتذكر أحداثها ولا أنسى شيئاً من ذكرياتها ولا أحداً من طلابها، ولا شيئاً من معالمها ومبانيها القديمة والجديدة، أو مرافقها العامة ومكاتبها الخاصة وإدارتها المنظمة.
وقد تشرفت حينها برئاسة الكتلة الإسلامية وقيادة جسمها الطلابي، وسط رياحٍ هوجٍ وأعاصير تحدي كبيرة، بعد طلابٍ قادةٍ، ورؤساء مميزين، وحملة راية مقدامين، شجعان ومغامرين، وحكماء وغيورين، ترأسوا الكتلة وسبقوا، وقادوا وأعطوا، وجعلوا منها واحدةً من أقوى الكتل الطلابية الإسلامية في الوطن المحتل، فتميز طلابها، وتقدم خريجوها للعديد من المناصب العلمية والإدارية، وكانوا رواداً في الحياة العامة، يتقدمون الصفوف ويقودون الجمهور، ويقودون الجموع ويترأسون المنظمات والجماعات والنقابات وغيرها كثير.
اليوم تحقق الكتلة الإسلامية سبقاً آخر وفوزاً جديداً، وتحوز على ثقة طلاب الجامعة بكل كلياتهم وتخصصاتهم، إذ نالت من الأصوات ما جعلها الأولى بين الكتل، والأكثر حظاً لتشكيل مجلس طلاب الجامعة، وهي ليست المرة الأولى التي تكون فيها الأولى وصاحبة الحظ الأوفر والصدارة الحقيقية، إذ سبق لها الفوز ونيل أغلبية الأصوات، رغم أن طلابها يلاحقون ويعتقلون، وتستدعيهم سلطات الاحتلال كثيراً لاستجوابهم والتحقيق معهم، ولا يسلم أكثرهم من فروع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، التي تكثر من استدعائهم والتحقيق معهم، كما تداهم عناصرها جامعتهم وتعتقل منها من تشاء من الطلاب، الذين لا ينجون من التقارير التي تلاحقهم، والمتابعة التي تلازمهم، التي لا يفلت منها الطلاب والطالبات على السواء.
قد يرى البعض أن فوز الكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت يعتبر فوزاً نقابياً مهنياً مجرداً، بالنظر إلى كفاءة المرشحين ونزاهتهم، وخبرتهم السابقة وتجربتهم الأمينة في خدمة الطلاب وتبني قضاياهم والسعي الجاد لحل مشاكلهم، والوقوف معهم وعدم التخلي عنهم، وحسن إدارتهم للعلاقة بينهم وبين إدارة الجامعة، خاصةً لجهة الأقساط الجامعية، وتحديد أسعار الساعات الدراسية، وتفهم الظروف الصعبة التي يواجهها الطلاب نتيجة الاحتلال وممارساته ضدهم.
لكن الكثير يرى أن فوز الكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت يعتبر فوزاً سياسياً، وانتصاراً لنهجٍ ومسارٍ، وتأييداً لفكرٍ وسياسة، وانحيازاً واضحاً لتيار المقاومة الذي تنتمي إليها الكتلة الإسلامية بأغلبية طلابها والمنتسبين إليها، وأن هذا الفوز يعبر عن رأي الشارع الفلسطيني عبر شريحةٍ طلابيةٍ واعيةٍ ومستنيرة، ومهيأة لأن يكون لها دورها ومكانتها في المجتمع، الأمر الذي يجعل من النتيجة التي حصلت عليها استبياناً عاماً وسبراً علمياً دقيقاً لحقيقة خيارات المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية تحديداً، حيث تعمل السلطة الفلسطينية وتسود، وحيت تنشط الأجهزة الأمنية وتمارس نفوذها وسطوتها.
سلطات الاحتلال الإسرائيلي تعرف منذ البدء أن هذه الانتخاباتُ سياسيةٌ في مظهرها وجوهرها، وأنها تعبر عن إرادة الشعب وتوجهاته، وأنها ليست مهنية أو نقابية فحسب، بل هي سياسيةٌ بامتيازٌ، وأن فوز الكتلة الإسلامية يعني فوزاً لفكر المقاومة ومفاهيم حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، ولهذا سعت قبل انعقادها لإفشالها، وحاولت تعطيلها أو التأثير على نتائجها، فاعتقلت عدداً من طلاب الكتلة الإسلامية المميزين، والمعرفين بين الطلاب بالنشاط والحيوية، والقدرة الفائقة على القيادة والإدارة والتأثير في اتجاهات الرأي العامة بين الطلاب، علها تتمكن من حرمان بعضهم من فرصة الترشح للانتخابات.
جامعة بيرزيت ليست كأي جامعةٍ فلسطينيةٍ أخرى، فهي الجامعة الأكثر ليبرالية، والأكثر حضوراً للطبقة الأرستقراطية في المجتمع الفلسطيني بشقيه المسلم والمسيحي، وخريجوها هم الأكثر مشاركةً في الحياة السياسية والفكرية الفلسطينية، وهي الجامعة التي تمثل قمة الحرية السياسية والفكرية والاجتماعية، فلا يمارس فيها قهرٌ ولا تفرض على طلابها إرادة، ولا يكره أحدٌ فيها على سلوكٍ أو تقليدٍ واتباعٍ، حيث تضمن قوانين الجامعة ولوائحها الداخلية هذا الحق، وتصونه وترعاه في تقليدٍ قديمٍ متبعٍ ومصانٍ.
فوز الكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت انتصارٌ كبيرٌ لأول شهداء الكتلة الإسلامية في الجامعة، صائب ذهب وجواد أبو سلمية، الذين كان لهما فضل السبق الأول وعظيم الأجر الكبر، إذ عبدا الطريق أمام الكتلة الإسلامية لأن تأخذ دورها وتشق مسيرتها في العمل الوطني الطلابي، الذي حاول البعض أن يحتكره لنفسه، وأن يحرم الآخرين من ممارسته، ولكنهما بدمهما الطاهر مكنا الكتلة الإسلامية من أن يكون لها حضورها الطاغي، وصوتها العالي، وفعالياتها اليومية، التي ساهمت لسنواتٍ طويلةٍ في تراكم العمل النضالي والثوري لطلاب الكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت.
فهل تقدر السلطة الفلسطينية هذا الفوز وتتعامل معه بحكمةٍ وموضوعية، وتقرأ فيه تأييد الشعب الفلسطيني للانتفاضة وخيارات المقاومة، ورفضه لمسار التسوية وخيار المفاوضات العقيمة، التي أضرت بالشعب وقضيته، وخدمت الاحتلال وسياسته، فتعلن انحيازها للشعب وخياراته، وتتبنى منهجه وتدافع عن رؤيته، وتتوقف فوراً عن المضي في لعبة التنسيق الأمني القذرة، التي تتآمر على الشعب وتلتف على نضالاته.
وهل تدرك الأجهزة الأمنية الفلسطينية عقم سياستها الأمنية، وتقلع عن ممارسة سياسة الباب الدوار الذي تمارسه بكثيرٍ من الإهانة والإساءة ضد طلاب الكتل الإسلامية في مختلف الجامعات الفلسطينية، الذين يعانون من سياسات الاعتقال والاستدعاءات الكيدية المريضة التي تمارس ضدهم، بقصد الحد من نشاطهم، وإقصاء قيادتهم، والتأثير على أدوار الكتل الإسلامية الريادية ونتائج الانتخابات الطلابية المختلفة.
اليوم إذ أهنئ الكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت بمناسبة فوزها للعام الثاني على التوالي، فإنني أهنئ نفسي بصفتي أحد أبنائها ورئيساً سابقاً لها، وكل طلاب جامعة بيرزيت الذين انتموا خلال سنوات دراستهم على مدى السنوات التي خلت إلى الكتلة الإسلامية، وعملوا تحت مظلتها، وانتخبوا مرشحيها، فهذا فوزٌ يحسب لهم ويغبطون عليه، ولكنه يحملهم مسؤوليةً عظيمة، لأن يكونوا على قدر المهمة التي تصدروا لها، وتقدموا لحمل رايتها، فهم مرآةٌ لحقٍ، وحملة رايةٍ لشعب، ورواد أمةٍ تتطلع إلى النصر والتحرير واستعادة الحقوق.
بيروت في 29/4/2016