رغبة الهروب إلي الركن تتفاقم ، أصوات داخلية مرتعشة تنمو بصوت مسموع علي أسوار العزلة تشكل جملاً أشبه بالجزر المنعزلة ، مثلها لا يمكن أن تصدر إلا عن نفس ممزقة ، هي الأخري أشبه بالجزر المنعزلة..
هل نجحوا في ترميم جدار الخوف القديم؟
هل دخل المصريون مرة أخري إلي حظيرة العسكر؟
الإجابة عن هذا السؤال “تونس” ، دائماً الإجابة هي ” تونس” ، ولا يفوتني هنا أن أرسل أحر التهاني للإخوة هناك بنذر الديمقراطية التي تتهيأ ، لقد نجوا أو كادوا ، مع هذا ، أسأل كل القوي الايجابية في الطبيعة أن تجعل بين “تونس” وبين دولارات النفطيين سداً من النار..
من جهة أخري ، وبنفس القدر ، ربما كانت الإجابة عن هذا السؤال “العراق” ، وتبقي للطرف الآخر الدخيل ، ربما لعام قادم أو أقل ، فقط ، رفاهية الخيار..
يجب أن أقول هنا أن هذا الطرف الآخر ، إذا أراد أن ينجو من الشرخ الذي يسعي إليه بعصبية شديدة ، لابد له من إرادة قوية للإبحار في العمق الحقيقي للمشهد الغير معقد علي الإطلاق ، والاستعانة بالتاريخ كمؤثر ذهني مبهر لإضاءة كل زواياه المعتمة ، و لسوف يكتشف ببساطة الماء أنه يسير بخطوات متهورة في طريق خاطئ ليس به موطأ لجسر واحد للعبور إلي الماضي دون خسائر باهظة ، ونهاية فاحشة مضرجة بالدم علي نحو أكيد ..
فالثورة حتماً سوف تنتصر ، شاء من شاء وأبي من أبي ، أقصد ثورة “25 يناير” طبعاً ، ذلك أن الثورة قبل كل شئ فكرة ، والفكرة فينيق ، مرشحة للانبعاث من تحت الرماد في أي وقت ، وكل وقت ، ما دام ثمة – ولو شخص واحد – يؤمن بها كفكرة بيضاء ، الأمثلة علي ذلك لا تعد ولا تحصي ، مثلاً:
“الحركة الحوثية” في “اليمن” بدأت في “صعدة” منذ عقدين وبعض العقد برجل واحد ، وهو “حسين الحوثي” ، أو رجلين علي وجه الدقة ، وها هي الآن ترج الرعب في قامة “اليمن” كلها وأبعد من “اليمن ” بآلاف الأميال، صحيح أن الدوران في الفشل سيكون مصير الحوثيين في النهاية ، لكن ، صحيح أيضاً أن جمرتهم لن تتحول إلي رماد قبل أن تغير الكثير من شخصية “اليمن” كدولة أولاً ، وبطبيعة الحال ، كمجتمع قبل كل شئ..
ومثلاً..
جماعة “الإخوان المسلمين” الآن تعود بالأساس إلي فكرة نبتت في ذهن متوقد تصور أن أستاذية العالم ممكنة ، ذاك “حسن البنا” ، وها هي الفكرة الآن حية تمد جذورها في معظم دول العالم ، بل وصلت إلي سدة الحكم في “مصر” فعلاً..
كما أن السيد “باراك أوباما” ، أهم شخصية الآن تسعي فوق هذا الكوكب البائس ، هو ذروة النقطة لحلم أبيض داعب ذات يوم ذهن رجل أسود اللون يسمي “مارتن لوثر كينج” ، استوعب القانون العميق للحياة ، فأطلق ذات يوم صيحته الشهيرة في غير موسمها:
– لديَّ حلم..
فلم يلهم السود إمكانية ميلاد عالم جديد فحسب ، وإنما ألهمهم الحاجة إلي ميلاد ذلك العالم..
والآن..
ليس من السهل على الذين لم يمروا بهذا الاختبار أن يدركوا تماماً ماذا يعني ألا يذوق المرءُ من جراء الذعر طعمَ النوم بمعناه المتعارف عليه ، بل هو نوم ملاحق ومشوبٌ بأفكار سوداء من كل جانب!
ليس من السهل أن يدركوا ماذا يعني ألا يعيش الإنسان حتي في ظلال أبسط قيم الحرية ، إنما الديكتاتورية بكل تجلياتها وصورها ، حيث الخوف هو الرياضة الوطنية ، وحيث لا صوت يعلو فوق صوت الدولة البوليسية بكامل أدواتها ، وبكامل عنفوان لهجاتها المتشفية..
ذلك الشعور بالبهجة في إذلال العاجزين لا يجب الاستهانة به!
وككل ليالي “مصر” ، ليلة أخري مزدحمة بالأحداث العصبية..
في مثل هذه الليالي الدامية تصل الأرواح البيضاء ذروة هشاشتها ، تتوالي الأحداث طازجة وحية، أصداء متضاربة وملتبسة حول حادث “33” جندياً مصرياً من أبناء البسطاء سافروا في مساحات الغياب جراء تفجير كمين “الخروبة” بـ “شمال سيناء”، “33” هدفاً حراماً تم العصف بأرواحهم نخباً لمعركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل..
يحاصرني الآن هاجس قذر بأن أخي قد يكون من بين الضحايا المؤجلين ، أوشك علي الاختناق ، فألوذ بـ “الريموت كنترول” لتحريك الأفق الخانق ، يصافح أذنيَّ علي الفور صوتُ الفنان “جمال سليمان” ينبعث من برومو مسلسل ” سيدنا السيد ” حاداً ومؤلماً:
– بلد ايه يا افندي ؟.. أنا هنا البلد ذاتها..
نعم ، الكل في واحد ، “90” مليون رقبة في رقبة ، ليس من الغريب إذاً أن يرد هذا المعني ، ” الكل في واحد” ، في نشيد الموتي عند قدماء المصريين ..
يتنحي صوت “جمال سليمان ” خلف صوت الفنان “جمال عبد الناصر” يتردد دون خجل من برومو مسلسل “الصفعة”:
– اسرائيل بتصدر الوهم عن أرض الوعد!
لا تعليق ، فإن في الصمت السلامة أحياناً..
والآن ، قليل من السلام النفسي يستحوذ مع أصوات كورس تتردد من خلفية مسلسل “الخواجة عبد القادر” بأبيات “الحلاج”:
– ما لي وللناس كم يلحونني سفهاً / ديني لنفسي .. ودين الناس للناس ..
فضائية أخري وإعلان لوزارة الصحة:
– طعَّموا أطفالكم مع كل حملة لنحافظ علي بلدنا خالية من شلل الأطفال!
تعصف بي رغبة لست أدري هل هي رغبة في الضحك أم في البكاء ، وأتسائل بصوت مسموع ، ما فائدة أن تكون “مصر” خالية من شلل الأطفال ما دام أفقها ، بشتي صوره ، مشلولاً؟
بمعني آخر ، ما فائدة الأرجل السليمة في بلادنا؟ ، هل فقط ليكون المصريون لائقين لخدمة الجيش؟
قناة مهجورة أخري ، وأحد الغربان الذين أتي بهم الغزاة المحليون ليتسلقوا حنجرة الإعلام ويزيفوا وعي المصريين يصرخ من كل أعماقه ، بلهجة تحريضية ، وبحقد حقيقي:
– عاوز أشوف دم للركب!
المشكلة الحقيقية أن هذا الفأر الفضائي كريه الرائحة لا يغرد خارج السرب ، إنما هو يتبرز كلماته هذه من خلال موجة من السفاهة والجنون ، هي الأعنف علي الإطلاق ، تضرب “مصر” من رأسها حتي قدميها ، وبلا هوادة..
تنتابني رغبة في القئ ، تزداد حدة عندما أقرأ عن غير عمد علي شريط القناة التالية هذا الإعلان:
– الدكتور “يوسف فتوني” ، أعظم الفلكيين في العالم ، معالج روحاني ، يساعدك علي فك السحر ، وجلب الحبيب ، وفك المربوط ، والقرين ، وأم الصبئان…..
هل نحن نعيش حقاً في دولة؟
ومتي يحق لنا أن نطلق تسمية دولة على هذه الدولة وليس على تلك؟
نحن نستطيع بسهولة أن نقول عن دولة لا تحترم الحريات بالقدر الكافي بأنها دولة مستبدة ، لكن لا نستطيع أن نقول عن دولة تؤمن بأن أبسط ألوان الحرية ترفٌ لا يستحقه مواطنوها ، وهي لا تحرك ساكناً في نفس الوقت ، لوقوعهم أهدافاً مشروعة للدجالين إنها دولة مستبدة ، بل نقول إنها ليست دولة علي الإطلاق ، إنما تجمع بشري علي حافة الصدفة الجغرافية ، لا أكثر ولا أقل..
فضاء آخر مسكون بفيلم “بيت النتاش”، بطولة “شرفنطح ” و “زينات صدقي” و “شادية” و “اسماعيل ياسين” و “عبد السلام النابلسي” و “عبد الفتاح القصري”، أدهشني أن أكتشف علي الفور أن ذاكرة صباي لم تزل تحتفظ بالخطوط العريضة لهذا الفيلم الجميل الذي الآن لا يثيرني..
وسأكتشف بعد قليل أن الفيلم من انتاج عام “1952”، ما أغرب هذه المفارقة ، إنه إرهاص مبكر والتقاط لوحي شديد الدقة بالمأساة التي الآن ، وانطلاقاً من ذلك العام الأسود ، تعيشها “مصر”..
المعلم “غندور” يخدع “نفوسة العراقية”، ويزوِّر عقد شراء قطعة أرض لصالحه ، ثم ، بدافع خوفه من أن يفتضح الأمر ويسقط تحت طائلة القانون – أيام كان القانون لا يرتفع عن الأرض غابات من الأميال – يصارحها برغبته في الزواج منها ، لكنها تشترط ألا يحدث هذا قبل زواج ابنتها “ملبسة”..
وفي محاولة ماكرة للقفز فوق هذا الشرط ، يقترح “غندور” أن يزوج “ملبسة” من ابنه “ميمي”، أو “عبد السلام النابلسي”، صحيح أنه حل مقنع ، لكن ، صحيح أيضاً أن الحياة ليست بسيطة إلي هذا الحد ، فلولا تقاطعاتها الحادة لما كان لها جمال ولا قيمة ، إنها الصراع ، الاشتباك ، ذلك المخاض العسير لوجه القادم من رحم الاختلاف ، وهذا فقط ما أحبط كل مخططات المعلم “غندور”!
لقد كانت “ملبسة” متيمة بحب ابن خالتها “سكر” ، تاجر اللب العائد من “السودان”، إنه “اسماعيل ياسين” طبعاً ، الشئ الوحيد الذي اتفق علي حبه كل نزلاء الفندق الممتد من المحيط إلي الخليج الفارسي!
وككل نهاية سعيدة ، سوف يردد الكورس في نهاية الفيلم:
بيت النتاش عمره ميعلاش …
وكلامه كلام واحد غشاش …
عمر الغالي ما كان ببلاش …
وسوف لا نجد ، مهما أطلنا التنقيب عن غالٍ ما هو أغلي من الدم..
لذلك ، يحق لي أن أؤكد:
– عمر الدم ما كان ببلاش!
اسألوا التاريخ عن تعريف الدم المراق خارج القانون ، سوف يجيبكم بأنه نسغ الحياة لكل الثورات عبر العصور الإنسانية ، فاطمئنوا ، إنكم علي الدرب المؤدي لاكتشاف الحرية أرض “مصر” ، مع ذلك ، ولسوف أستعير هنا سؤال تردد علي لسان “ريتشارد قلب الأسد” في فيلم “الناصر صلاح الدين”:
– لكن ، بكم من الضحايا؟
بكم من الضحايا ، هذا هو السؤال المتطلب..
محمد رفعت الدومي