عبدالله حبه – موسكو
18 كانون الأول 1879 – 29 حزيران 1940
أفتتح في متحف بوشكين للفنون التشكيلية بموسكو معرض لأعمال الفنان السويسري بول كلي ( 1879- 1940)، أحد رواد الفن التشكيلي التجريدي إلى جانب كاندينسكي وماليفتش وبيت موندريان. وقد اطلق هؤلاء الرواد الحركة التجريدية في الفن التشكيلي في مطلع القرن العشرين، وكانت غايتهم التعبير عن حرية الفنان المطلقة في إبداعه دون التقيد بالواقع؛ أي الطبيعة. وتلقف هذا النداء الكثير من الفنانين في تلك الفترة وتأثروا بفكرة التجريد، هذا بالرغم من ان التكعيبية والسريالية والبنيوية والفوفيزم وغيرها من التيارات الفنية كانت في ذروة ازدهارها في تلك الفترة. كماتأثر بها العديد من الفنانين العراقيين في عقد الخمسينيات من القرن الماضي.
ان متحف بوشكين للفنون التشكيلية في موسكو ومتحف الارميتاج في سانكت- بطرسبورغ وغيرها من المتاحف الكبرى في روسيا تُتِحف روادها دوما وطوال العام بمعارض لإبداعات كبار الفنانين العالميين الكلاسيكيين مثل رمبرانت وبوتيشيللي ودافنشي، أو نتاجات المحدثين ومنهم بيكاسو موديلياني وسلفادور دالي . وتضم هذه المعارض اعمالهم الموجودة في المتاحف العالمية الاخرى ضمن برنامج المتاحف في تبادل التحف الفنية. ولهذا لا يجد ابناء موسكو وزائريها حاجة للسفر الى اللوفر في باريس او المتحف الوطني في لندن لمشاهدة روائع الفن العالمي ، فهي تأتي كزائرة الى موسكو وبطرسبورغ. وجلبت لوحات بول كلي الى موسكو هذه المرة من عدة متاحف في وطنه – سويسرا.
وقد جذبني الاعلان عن افتتاح معرض بول كلي في متحف بوشكين تحت شعار ” لا يوم من دون خط “، لأنه ولّد في اعماقي ذكريات تعود إلى أكثر من نصف قرن في العراق . فقد شاهدت أعمال بول كلي لأول مرة حين جلب الفنان الراحل شاكر حسن آل سعيد (1925 – 2005) البوم لوحات هذا الفنان مبدياً اعجابه البالغ به في لقاء جمع بعض الفناين في بيت خالد القشطيني في الاعظمية. وكان آل سعيد آنذاك يعمل مدرسا في مدرسة المعلمين الريفية في بعقوبة التي يسافر اليها يوميا ذهابا وايابا في الباصات الخشبية التي كانت شائعة في تلك الايام. وكان يمضي اكثر اوقاته في بغداد في لقاء الفنانين الآخرين، وتبادل المعلومات معهم حول الاحداث الفنية في اوروبا التي كانت مصدر إلهام الفنانين العراقيين آنذاك . والحق انني لم أجد في هذه اللوحات أيامذاك ما يثير الاهتمام، بالاخص وانني كنت في تلك الفترة من الهواة المعجبين بأعمال سيزان وجوجان وفان كوخ وغيرهم من الانطباعيين. ولكن الامور تغيرت شيئا فشيئا حين وجدت بعض الفنانين البارزين العراقيين يلجأون الى التجريد في لوحاتهم باعتباره يتطابقمع تقاليد الحضارة العربية المعتمدة على الزخرفة والخط في الابداع الفني. وقد دهشت حقا حين ولجت يوما مرسم كلية الاداب حيث كان يعمل الفنان حافظ الدروبي، فوجدته يرسم لوحة جديدة ليس بالاسلوب الاكاديمي المعتاد لديه بل بكثير من التجريد. وكنت اعتبره قبل هذا من الفنانين المحافظين.
لكن لابد من الاعتراف بأن شاكر حسن آل سعيد يقف في طليعة الفنانين التجريديين العراقيين. بيد انه اعتمد التجريد من جانبه الفلسفي ، وبلغ الأمر حد قيامه بربط هذه الحركة بالصوفية بما فيها من عناصر روحانية والاعراب عن
دخائل النفس البشرية والاغراق في الغيبيات. أما بول كلي فقد اعتمد الفكرة التجريدية انطلاقا من ايمانه بارتباط الفن بالعلم وليس بالغيبيات. ويمكن تشبيه اسلوبه في العمل بأسلوب العالم. فبعد الدراسة الدقيقة لتراكيب الطبيعة والهندسة يقوم بتحويلها إلى لوحاته. ولهذا لم يرفض كلي الطبيعة كليا مثل كاندينسكي. إن الطبيعة تبقى في كافة الاحوال مصدر إلهام الفنان في الشكل واللون والموضوع. وغاية كلي هي أن يجعل قوانين الطبيعة اساس اسلوبه الابداعي. واعتمد كلي في عمله على مهارته في التخطيط كما يتبين من لوحاته في المعرض. ونحن نعلم ان كثيرا من الفنانين المعاصرين ربطوا ايضا ابداعهم بالعلم باعتبار ان الفن والعلم رافدان يمضيان في مجرى واحد هو مجرى المعرفة. ونشير على الاخص إلى الفنان العراقي محمود صبري ونظريته المعروفة ” واقعية الكم”.
كان بول كلي يهدف من تحوله الى التجريد إلى قول شئ اكثر مما توحي به الطبيعة وليس تقليدها. واعتمد في ذلك على التبسيط وعدم الدخول في تفاصيل، باعتبار ان الطبيعة مبذرة في كل شئ ويجب على الفنان ان يقتصد في الخط
واللون بغية ألا يقلد الطبيعة. وتبدو بعض لوحاته وكأنها رسوم اطفال. لكنها تعكس ما في اعماقه من احاسيس. وهذا برأيه هو طريق الفنان في التحرر. وقد التقى الفنان في المانيا حيث عاش فترة طويلة قبل مجئ النازيين الى الحكم في عام 1933 بجماعة “الفارس الازرق”، التي كانت تضم الروسي فاسيلي كاندينسكي والالماني فرانتس مارك. ولدى زيارته الى تونس اقتصر التجريد لديه على التلاوين وباستخدام الالوان المائية مثل لوحته ” امام بوابة القيروان”. وقال :” انا واللون كل واحد”. واصبح فنانا ” مفكرا” وليس “مبدعا”. وقد اورد في كتابه ” نظرية الشكل” رؤيته حول عملية تكوين الشكل الفني. وقال ” ان تكوين الشكل امر جيد. اما الشكل فهو أمر سيء، ان الشكل هو النهاية والموت. ان تكوين الشكل يعني الحركة والفعل. ان تكوين الشكل هو الحياة”. وتكوين الشكل عند بول كلي يأتي عبر التأمل وعبر مراقبة الطبيعة والانطلاق من العلوم الدقيقة والابداع الفني الحدسي والعفوي ولكن بدون غيبيات. فالفنان بحاجة الى ادوات من اجل التعرف بدقة على الطبيعة والنبات والحيوان والارض كلها وتاريخها. ويجب عليه من اجل اتقان استخدام هذه الادوات ان يتعلم كيف يتفهم عمليات مولد العناصر الفنية؛ أي النقاط والخطوط والسطوح والاجسام ، وكذلك الوسائل الفنية؛ أي الخطوط والظلال والالوان حين تكون كلها في حالة حركة. وقد ركز بول كلي في اواخر حياته على دراسة الاشكال الهندسية. واعتبر الحركة اساس تكوين الشكل الهندسي. واستخدم التلصيق ( وضمنا باستخدام اوراق الاشجار الطبيعية وقطع القماش) وكذلك التنقيط على نطاق واسع ، كما درس علاقة الرسم بالموسيقى وحاول ايضاحها في لوحاته.
ان فكرة التجريد كانت منذ البداية تعتمد على علاقة الفنان واللوحة عبر اللاشعور. والانسان حين يقوم برسم اللوحة يكون تحت تأثير اللاشعور والحدس. وكما تعتمد السوريالية على الاحلام، فان التجريدية تعني بإظهار جوهر الاشياء حدسيا وبشكل مقتضب باستخدام النقاط والخطوط والاشكال الهندسية. ويرى بعض الباحثين ان الفنان في كافة الاحوال يبقى مرتبطا بالطبيعة، لأن الاشكال والالوان مستوحاة بالرغم من كل شئ من الطبيعة ولكن بدون تقليد لها. واللوحة التنجريدية تترك لدى المشاهد احاسيس تتباين لدى هذا الشخص او ذاك. ولكن هذا الأمر لا يهم الفنان الذي له رؤيته الخاصة طبعاً. وعندما غزا التيار التجريدي الاوساط الفنية في العراق والعالم العربي عموما
وجد فيه الفنانون العرب وسيلة ناجحة وفرصة طيبة لاستخدام النقوش والتصاميمم الهندسية المعمارية العربية وكذلك الحرف العربي في انجاز لوحاتهم. ولم تكن لديهم عندئذ اية فكرة حول مدلولات عملهم . كما وجد البعض فيها فرصة للتهرب من صعوبة الرسم الاكاديمي والتخطيط بشكل خاص، فتراهم لا يستطيعون انجاز أية لوحة تخطيطية أو بالغرافيك تستحق الاهتمام. لكن لوحات بول كلي المعروضة في متحف بوشكين تظهر مدى اتقانه للرسم الاكاديمي.
وفي العراق مارس جميع الفنانين تقريبا التجريد في محاولة ايجاد اساليب خاصة بهم . لكن لم ينجح أكثرهم في تكوين مدرسة خاصة بهم باستثناء شاكر حسن آل سعيد.
لقد بدأ شاكر حسن آل سعيد مشواره التجريدي بحماس منقطع النظير في توقه الى تشكيل نظرية الفن العربي ذي الخصائص المتميزة. وفي الخمسينيات قام بنشاط غير اعتيادي من اجل تحقيق هدفه، وحتى أنه قام بجولة في قرى الفرات الاوسط في محافظة السماوة ( المثنى حالياً) التي ولد فيها للبحث عن السجاجيد التي يصنعها الفلاحون بعفوية بالغة تعبر عما تعتمل في نفوسهم من انطباعات بصفتها خير نموذج للفن العربي التجريدي الاصيل. وجاء شاكر إلى بغداد حاملا بفخر بعض هذه السجاجيد، واقتبس منها الكثير في تراكيب لوحاته لاحقا. لكنه
لقد بدأ شاكر حسن آل سعيد مشواره التجريدي بحماس منقطع النظير في توقه الى تشكيل نظرية الفن العربي ذي الخصائص المتميزة. وفي الخمسينيات قام بنشاط غير اعتيادي من اجل تحقيق هدفه، وحتى أنه قام بجولة في قرى الفرات الاوسط في محافظة السماوة ( المثنى حالياً) التي ولد فيها للبحث عن السجاجيد التي يصنعها الفلاحون بعفوية بالغة تعبر عما تعتمل في نفوسهم من انطباعات بصفتها خير نموذج للفن العربي التجريدي الاصيل. وجاء شاكر إلى بغداد حاملا بفخر بعض هذه السجاجيد، واقتبس منها الكثير في تراكيب لوحاته لاحقا. لكنه انتقل لاحقا الى ربط فكرة التجريد في الرسم بالصوفية التي ينتقل فيها المؤمن الى عالم روحاني آخر بعيد عن واقعه. فالفنان حسب رأيه ينطلق في لحظات الابداع، شأنه في ذلك شأن الصوفي في حلقة الذكر، الى عالم روحاني. وصار شاكر يبحث عن البنية اللاشعورية للخط العربي والزخارف العربية. ولهذا درس نشأة الخط العربي وتطوره في مختلف العصور. ولم يعتبر الدين عائقا امام العملية الفنية، بل انه حسب اعتقاده يحدد للرسام وضعه الكياني كمؤمن ورسام وباحث كما يتبين ذلك من برنامجه ” البيان التأملي”. وبرأيه ان الفنان حين يرسم الحروف والزخارف يعبر، في هوى نوراني يمتلك حواسه ،عن حالة ابداعية غيبية لها إتصال في نهاية المطاف بواقع المجتمع.
ولدى التطلع الى لوحات شاكر حسن آل سعيد نجد فيها الكثير من العناصر الفنية المميزة للوحات بول كلي. ويتعلق ذلك باستخدام النقطة والخط واللون واكسابها – اي اللوحات – طابعا شعبيا فيه الكثير من البساطة الطفولية المميزة للوحات بول كلي.
7/3/2015