لماذا قرّر بوتين أن «يغزو» سوريا في هذه اللحظة بالذات، رسمياً، وبشكل مباشر وعلني حاملاً تبريراته وأسبابه وحتى أهدافه على الأقل الظاهرة. كانت روسيا بخبرائها وأسلحتها ودعمها للنظام موجودة من قبل، لكن بطريقة محدودة ومحددة. بل ان النظام السوري ومسؤولين من روسيا، ينفون أحياناً وجود مثل هذا التدخل الذي كان ظاهراً وموارباً في آن واحد.
اليوم، برز بشكل اعلامي «مجلجل» إلى درجة التضخيم، أو «التعظيم» أو على العكس التنديد والاستنكار. وعلى غرار التورط الإيراني (مع ادواته الأصلية) (فيلق القدس وقائده المهزوم سليماني)، أو المستعار (حزب الله وبعض المجموعات الشيعية) فإن الروس وفي هذه المرحلة جاهروا وأعلنوا وقدِموا وأقدموا.
عال! جاؤوا والساحة السورية يتقاسمها داعش وإيران والجيش الحر. وبالتدريج: كاد النظام على وشك السقوط فأنجده حزب الله بتكليف «شرعي» أو «تشريعي» أو تبريري فتأجل ذلك السقوط ثم، جاء دور داعش، ولا نعرف حتى الآن، أهو يحارب «النظام» وهذا مستبعد، أم جاء بمهمة تخدم الأسد، بالتركيز على الجيش الحر وتشتيت المعارضة. ومنذ دخول «داعش» بدأت سيطرة النظام تتضاءل: من 30 بالمئة إلى 20 بل أقل. وعلى الرغم من عدم وقوع تصادمات تذكر بين النظام وحزب الله من جهة مع «داعش» فإن حزب إيران بدأ حضوره ينكمش ودوره يتقلص. ولم ينجح لا داعش ولا «فيلق القدس» ولا الحزب من منع جيش النظام من التفتت والعجز…..
فهل ان قرار بوتين الدخول مباشرة في هذه الحرب عائد إلى فشل الإيرانيين وأدواتهم؟ ربما! وعلى الأرجح نعم. وهل تعتبر خطوة روسيا منعشة للخيبات الإيرانية، أم معززة لحضورهم، ومؤازرة لجهودهم، لبعث «نظام البعث» المُحتضَر؟ هذه الأسئلة تستدعي أخرى: أترى إيران منزعجة ومرتبكة ومتخوفة من دخول روسيا المعترك بهذا الحجم؟ هناك، من يُصر على ارتياح إيران لمثل هذه المبادرة، خصوصاً اعلان الدولة الفارسية وتوابعها… اما بعضهم الآخر فيرى أن ايران تعض على جروحها: فهي لم تعد المهيمنة الرئيسية على سوريا وحتى على قرارات قصر المهاجرين وعلى مسار المعارك. جاء «شريك» مفخخ شاطَرَها في البداية هذه الهيمنة لتصير ايران في الخلفية لا في الواجهة.
كل هذا يُستشف من التصريحات الإيرانية المتناقضة. فقد قال روحاني في أحد اللقاءات الصحافية مؤخراً «ليس هناك تحالف بين ايران وروسيا لمواجهة الارهاب في سوريا» لتقابله تصريحات ايرانية مضادة: «التمدد الروسي في اللاذقية قد تم بالتنسيق مع طهران!» اعلام المقاومة المرحومة والممانعة «اللوناتيكية» سبق الجميع في «الاحتفال» اللفظي بهذا الدخول المجلجل لروسيا تحت شعارات مضحكة «انه جاء لمحاربة الارهاب ودعم حلفاء النظام»: «انتصار جديد» مستعار لحزب سليماني. لكن بوتين في مكان آخر. صحيح انه دشن النشاط الجوي بقصف الجيش الحر، وليس داعش، (وهذا مبتغى إيران التي قلما تصادمت أدواتها العملية بداعش) لكنه جاء من عدة أمكنة؛ وعندما سأل الصحافي شارل روز الرئيس الروسي عما إذا كانت بلاده ارسلت فرقها العسكرية لمنع سقوط الأسد، رد بالإيجاب! فإزاء البلبلة الروسية وضوح بوتين.
[ ما وراء بوتين
لكن حتى هذه التصريحات الآتية من جهات متعددة، فإن وراءها ما وراءها، وفي واقعها وخلفياتها ما يخفي النيات الحقيقية، لكنها مع هذا تظهر ان الخطوات الروسية فاجأت القيادات الإيرانية والمفاجأة ذاتها تعني عدم رضاها ولسان حالها يقول: كانت روسيا حليفاً بعيداً لدعم الأسد ووفرت معنا له الأسلحة والطائرات والخبراء والمساعدات. كما ان روسيا، وبعيداً، استخدمت «حق اليتو» مرات في مجلس الأمن لمنع قرارات ضد الأسد. تماماً كما فعلت إيران. لكن يبدو ان اللعبة قد أصابها تعديل، أو تبديل، أو اضيفت إليها عناصر جديدة، لم تكن في الحسبان» فالتدخل غير المتوقع للروس (أولاً ينفي امكانية التنسيق حوله) يغير أو يقلب المعطيات الأساسية نفسها التي دفعت بإيران لوضع ثقلها في سوريا. فروسيا لم تعد مجرد داعمة عن بُعد ومن وراء الحدود فها هي صارت في الميدان بجيشها وفرقها وطائراتها وسفنها الحربية… وبين ليلة وضحاها فرض الروس تأثيرهم وهذا لا يأخذ من حساب داعش كما بدا حتى الآن. ولكن من حساب إيران. جاء حضور ميداني على انقاض فشلهم أو على انقاض عدم قدرتهم على إيقاف تدهور الجيش السوري ورئيس ما تبقى من اللانظام» وهذا يعني على المديين القريب والبعيد نزع الورقة السورية من القبضة الإيرانية. أي توجيه المسارات بمشيئة روسية فكلما ازداد تأثيرها ضعف تأثير إيران. ومعروف ان سوريا بالنسبة إلى إيران (وأكثر من العراق) هي القاعدة الأساسية لانطلاق مشروع هيمنتها في المنطقة، وخصوصاً في لبنان. وما «اختراع» حزب الله وتسليحه وتمويله ودعمه إلا ليكون جزءاً من مخططاتها التدميرية للبنان وللعالم العربي. لكن بوتين الذي استغل عجز أوباما وبلبلته وتراجعه وجبنه، ها هو يقتنص الفرصة «الذهبية» لملء الفراغ الأميركي أي لاستعادة الوجود السوياتي القديم، لكن بسحنة قومية روسية. كما ان بوتين، ومن خلفياته، أراد تحديداً من هذه الخطوة كأولويات ان يسترجع المواقع التي خسرها في العالم جراء الغزو الأوكراني، وكسر عزلته والتعويض عن الأزمات الاقتصادية التي أصابت بلاده جراء الحصار الاقتصادي الغربي عليها. وهذا انعكس بقوة على النظامين السوري والإيراني اللذين بدوا وكأنهما صارا أسيري الطموحات الروسية. فلم يعد ينفعهما تواطؤ أوباما معهما ولا حتى اسرائيل ولا الصين… فقد جاء الدب الروسي إلى الساحة بكل قوته وجنونه وغرائزه وشهواته وجوعه.
[ الدب والثعلب
«فبوتين» «الدب» هو ثعلب أيضاً. من الصعب توقع أي التزام منه، سواء لايران أو لسوريا.. فهو لم يأت بهذا الضجيج المجلجل، ليكون طرفاً متساوياً أو ثانوياً مع إيران. بل جاء (ربما) ليكون هو الطرف تماماً كما جاءت القوات السورية من ضمن قوات الردع العربية إلى لبنان وما لبث حافظ الأسد ان عطّل كل القوى العربية المشاركة، ليكون هو القوة الوحيدة الحاسمة في لبنان. هذا ما يفعله بوتين تماماً! ومنذ أسابيع أو أكثر، ها هو بوتين يخطو مع أوباما خطى ملتبسة. فمن جهة انتقد الرئيس الأميركي التدخل الروسي ثم ما لبث ان طالب بالتنسيق الأميركي معها ليفضي الأمر إلى «اتفاق» سري بينهما! ومن الطبيعي أن «يلعب» الفأر في عب خامنئي وروحاني وعملائهما في لبنان وسوريا. وعندما راح الإعلام الفارسي والمقاوم والممانع يشيد بأن روسيا ستكون درعاً واقية ضد توغل الطيران الإسرائيلي الحربي في أجواء سوريا، لضرب مواقع لحزب الله والنظام، ها هو بوتين يجتمع بنتنياهو. اجتماع الأحبة والخُلاّن (تماماً كما اجتمع ظريف وكيري اجتماع الأحبة والخُلاّن)، وينحني للإرادة الإسرائيلية للسماح للطيران الإسرائيلي بالاستمرار في قيامه بطلعات في الأجواء الروسية لضرب تداخل الأسلحة المرسلة من إيران إلى «حزب الله»! يا للخيبة! (لكن هل الآتي أعظم؟). أقصد هل ستتمظهر الأهداف الروسية شيئاً فشيئاً، سواء في طموحاتها، أو في تطلعاتها الدولية؟
[ الفجوات
وهل، في المقابل، ستتوسع الفجوات بين المتنافسين الرئيسيين على سوريا؟ وهذا السؤال قد يجيب عنه، أو يجيب عن جزء منه، حشد حزب الله 3000 مقاتل لإرسالهم إلى الميادين السورية. أليس غريباً أن يقرر هذا الحزب تنفيذاً للمشيئة الإيرانية حشد هذه الكمية من المقاتلين بعد دخول الروس بدباباتهم، وصواريخهم، وبوارجهم، وطائراتهم، وفيالقهم البرية؟ فالمنطق يقول (إذا كان ثمة منطق) أن يرتاح الحزب كثيراً لانخراط «حليفه» في المعمعة السورية، لضرب داعش (هذا ما لم يفعله نظام الأسد ولا فيلق الخيانة ولا حزب الفرس!). ألا توحي هذه الخطوة أن إيران ستزج بقوات أخرى في سوريا، لكي تتمكن من «منافسة» الحضور الروسي ميدانياً وسياسياً؟ أكثر، ألا يشير ذلك وبصراحة إلى أن نظام الملالي، الذي قد يكون في حالة ارتياب، يتوجس مفاجآت قد يقدم عليها بوتين خدمة لأهدافه الحقيقية، في التحضير لحلول في سوريا، والتصرف بفردانية، واستقلالية عنه؟
[ رأس «الجيش الحر»
صحيح أن روسيا في إعلانها جهاراً أنها تريد رأس داعش، و»النصرة» لكن في الأساس تريد رأس «الجيش الحر» أوليس هذا ما فعله أوباما (عندما رفض تسليح هذا الجيش)، وإسرائيل عندما دعمت كل ما من شأنه بقاء الأسد «لأنها اعتبرت سقوطه كارثة عليها»، وإيران التي هادنت سراً داعش، وحاربته في إعلامها، لتكون التصفية الأخيرة في التسوية (المفترضة) بين داعش الإرهابي والنظام السوري «المدني» و»الإنساني» و»الديموقراطي»؟ إذاً «داعش» جُعل فزاعة للسوريين والغرب، وهو «صنيعة روسيا»، تموله وتدعمه بالقدر الذي هو أيضاً صنيعة سجون الأسد وإيران! وإذا كان بوتين يبني سياسته البروباغندية على اعتبار أنه يحارب الإرهاب المتمثل بداعش، فإنه يركز على «النصرة»، وعلى الجيش الحر، وعلى القوى المدنية في سوريا، جذباً لانتباه العالم وخصوصاً أوروبا التي اخترق فيها داعش والقاعدة مجتمعاتها وهدد أمنها. فكأنه يقول «أنا أحارب عنكم داعش» فكافئوني واكسروا الحصار الاقتصادي عن بلادي، واعترفوا بشرعية غزوتي لأوكرانيا. فالإرهاب يلجأ إلى الإرهاب لتمويه صورته. لكن بوتين قد يذهب إلى أكثر من ذلك، إذ كان له أن يستفرد بأوراق الحل (بعيداً عن إيران)، فلربما اعتقد أنه وبالاتفاق مع أوروبا والولايات المتحدة يرغم الأسد على تنظيم انتخابات (وهذا ما أوردته بعض الصحف الغربية)، وصولاً إلى التنسيق مع عناصر من المعارضة «بمن فيهم المعارضون لإيران والأسد». هل هذا محتمل؟ ولمَ لا! وربما أكثر! وافتراضاً: ما الذي يمنع بوتين الذي لا يحب أصلاً أن يشاركه أحدٌ لا في حكم روسيا، ولا في أوراق سوريا، من الانفتاح على مكونات أخرى كالسُنّة (وهم أعداء لإيران) كبعض دول الخليج وحتى مصر في ترتيب مستقبل سوريا! (لكن أوليس هذا ما يقض مضاجع الملالي؟).
[ التخلي عن إيران؟
أكثر: وما الذي يمنع بوتين، الذي جمع في شخصيته رمزين: ستالين والقيصر في إعلانه «القومي» الأوراسي والسياسي والقمعي والوحشي، ما الذي يمنع مثله أن يوسع دائرة تنسيقه لتصل إلى قوى وجهات أخرى، وعند ذلك، ما الذي يحول دون تخليه عن إيران نفسها؟ فبين الولايات المتحدة وأوروبا وإيران لا يفضل هذه الأخيرة. فحساباته هناك. والحصار الاقتصادي الذي يتعرض له، بتداعياته الكارثية على الشعب الروسي، سبق أن تعرضت له إيران من هذه الجهات القادرة نفسها فأبرمت مع أميركا اتفاقها النووي.
لكن كل هذه الأسئلة، والمخاوف، والارتيابات، ما زالت من باب الافتراض، ومن باب المخططات المرسومة في العقول وعلى الورق. وقد تنقلب على بوتين وعلى إيران، كما انقلبت حسابات داعش وإيران ونظام الأسد عليهم جميعاً. فالدب الذي يريد أن يرقص يهشّم كل الراقصين على الحلبة والمثل الشعبي معروف «إجا الدب تا يرقص قتل سبعة تمان أنفس»! وهذا الراقص «المحترف» قد يعود على هذا الدب بالإنهاك، والتعب، وتشوش الحسابات. وكما أن حزب الله منذ دخول داعش المعترك (لضرب الجيش الحر وخدمة النظام)، قد تراجع، وتراجعت معه سيطرة الأسد من 30 في المئة إلى 15 في المئة من الأراضي السورية، فلماذا لا يحصل الأمر ذاته مع روسيا. فمجيء هذه الأخيرة سيستجلب مزيداً من المقاتلين وربما المتشددين، وسيحمل دولاً ما على زيادة مساعداتها للمعارضة تسليحاً ومالاً. وعلى الأرض السورية الشاسعة قد يغرق بوتين في الوحول التي ظنها «أوتوسترادات» سهلة، كما غرق الجيش الأميركي في فييتنام والعراق، وانكسر على الجبهتين.
فبوتين جاء «غازياً»، وإذا كان سيرى أنه من المفيد أن يُضعف كل الأفرقاء في سوريا وخصوصاً إيران، فهذا لا يعني أنه سيهادن دول الجوار. فطموحاته الغبية قد تشملها، كالسعودية والخليج ولبنان…
وعلى هذا الأساس، فإن شخصيته التي تقتنص «الفرص» العابرة، قد تصطدم في المستقبل بمعرفة أن ما هو عابر يوفر انتصارات عابرة. ولذا، سيجد ضرورياً أن يعوض بجبهات أخرى تعويضاً عن انتكاسة هنا أو هناك! وهنا بالذات يقع في «الفوضى» التي أراد أن ينشرها، (كما إيران وحزبها المستعار والمستأجر) حوله.
فخطورة بوتين لا تكمن فقط في استفراد سيادته على سوريا… بل أيضاً في تحوله في النهاية مجرد مرتزقْ على أبواب إسرائيل والعالم… لإنقاذه من جنونه!
نقلا عن صحيفة “المستقبل” اللبنانية