بوتين… و .. – وا معتصماه-… اوكرانيا..

من السذاجة القول ان مشكلة أوكرانيا نتجت عن فراغ او في أحسن الأحوال نتيجة صراعات داخلية تعكس مخلفات الحقبة السوفيتية… هكذا دون ربطها بتطورين مهمين و هما النمو المضطرد في مستوى اعتماد دول الاتحاد الاوروبي على الطاقة التي توفرها روسيا و أيضاً نمو الطموحات الروسية نتيجة هيمنتها على انتاج الطاقة في أوروبا…

و لكن في المقابل لابد أيضاً من الأخذ بالاعتبار التغييرات الاستراتيجية التي تشمل التطور الرهيب في التكنولوجيا و بالتالي الخطط العسكرية و التكتيكات المتجددة في الانتشار و التمركز و إقامة القواعد و تغيير الأولويات و التي وضعت أوروبا مرة اخرى على خارطة الاهتمام والتي يلعب فيها أيضاً التمدد الاقتصادي الصيني دورا مهما في توجيه الانتباه الى أهمية القارة العجوز و تطوراتها السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية…

في تقاطع مهم بين كل هذه العوامل برز انبعاث جديد للقومية الروسية متلازما مع طموحات شخصية لبوتين في مواجهة مشروع توسع أوروبي بدأ منذ سنوات نتيجة تقولبه في إطار استراتيجيات الهيمنة الكونية للناتو حيث ان المشروع الأوربي و هو مشروع اقتصادي أساسا لم يستطع الانفصال عن خطط ناتو في سلخ المجال الحيوي لروسيا و مواصلة الضغط عليها للتراجع و التقوقع…

في خضم هذا التجاذب الذي كان يشتد كل يوم برزت “فجأة” مشكلة أوكرانيا على شكل ثورة داخلية هي امتداد للثورة البنفسجية التي تلتها الثورة البرتقالية في مشهد للصراع المرير بين قوى تمثل قمة التجاذب و تقاطع العوامل التي ذكرناها آنفا و تأثيراتها المباشرة على التطور الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي في مجتمع حديث الولادة لكنه مثقل بإرث الصراع بين الشرق و الغرب و تداعيات الحرب الباردة و كارثة جرونوبل و غيرها..

و لكن التطور الدراماتيكي في تصعيد الأحداث خلال ايام قليلة و التدخل المباشر للاتحاد الاوروبي و بروز حركات دموية نازية و اخرى قومية روسية متشددة و من ثم هروب الرئيس بعد ساعات قليلة من الاتفاق مع الوفد الاوروبي …. كل ًهذا أكد ان ما يجري في أوكرانيا هو صراع روسي أوروبي ( بالاضافة الى الولايات المتحدة و دراعها العسكرية الناتو)… و ان الصراع يدار بطريقة مختلفة عن المنهج السياسي والعسكري التاريخي للقوى الغربية…

الانطباع الأولي يوحي بسلاسة غير معهودة و بنوع من التشرذم داخل المعسكر الاوروبي و الغربي عموما مقابل تشدد روسي واضح و اعتقد ان هناك لعبة كبرى تلعبها القوى الغربية بحيث قد تجعل من أوكرانيا جبهة مفتوحة لاستنزاف القدرات الروسية التي شهدت تطورات مهمة في العقد الأخير…. لكن هناك اشكالية بنمط مختلف تتشكل في العالم العربي و ربما في أماكن اخرى أيضاً اعتمادا على هذه الصورة بالذات ….

نعم في العالم العربي هناك من يحلم بتغيير كوني يكون محصلة هذا النوع من التحدي الحقيقي و الحازم الذي تشكله روسيا للهيمنة الغربية التي تبدو متصدعة و عاجزة عن الرد على عمليات القوات الروسية في شرق أوكرانيا..!!!… لكن كيف ان نفهم هذه الصورة و هل يمكن ان ينتج تغييرا جوهرياً في العلاقات الكونية ليس فقط بين الدول و إنما أيضاً بين الطبقات اي بين الأغنياء و الفقراء و بين اهل السلطة و الشعوب..؟؟..

لا شك ان الكثير من الشرائح في المجتمعات العربية التي تعرضت لأنتكاسات تاريخية و مزمنة في ما تحلم به من تغيير جوهري في مجموعة العلاقات الدولية … البعض جرب الاعتماد على الغرب في خلق تغييرات داخلية لكن تجربتي أفغانستان و العراق و كذلك الفوضى و انتشار القتل و الدمار التي واكبت و أعقبت الثورات العربية قد أعادت خلق الأسس التاريخية للتنافر مع الغرب …

لكن في المقابل…..الذين يحملون ان تمتد اليهم يد بوتين لتنشلهم من مهانة يتعرضون اليها على أيدي القوى الغربية او قوى محلية ذات توجهات تختلف عن او تتعارض مع رؤاهم…. يجب ان يعلموا ان أيدي بوتين مغلولة الى عنق مصلحته الشخصية و مصلحة روسيا… فالرجل ليس قديسا و لا مناصرا لحقوق الشعوب و لا مؤمنا بحق الانسان أساسا…. بوتين هو رجل طموح يحمل في عقله الباطن أثارا نفسية عميقة لهزيمة الروس عبر القرنين الماضيين و سقوط إمبراطورياتهم المختلفة… هو لم يقل انه يحمل مشروعا كونيا… بل كل ما يقوله هو اعادة بناء الأسس القومية لظهور جديد للإمبراطورية الروسية من تحت إنقاظ الهزائم الماحقة امام “أفكار جرثومية” …. كما يفهمها رجال المخابرات و بوتين القادم من كي جي بي ليس بعيدا عن هذا الفهم…. وردت من خارج الحدود باسم الاشتراكية فأحدثت ثورة و حربا أهلية في بداية القرن الماضي …. و لكن ما ان نجحت في بناء امبراطورية “سوفيتية” حتى عادت ألاحقاد التاريخية لتتجمع في بوتقة قوة عسكرية غاشمة و تقضي على تلك التجربة العابرة للفكر القومي…

الان لم يعد امام روسيا سوى العودة الى جذورها القومية و قيمها التاريخية الدينية و اللغوية و الأهم من هذا و ذاك العودة الى النمط التقليدي للعلاقة بين الحاكم و الرعية… نعم الرعية… لان ما تفعله روسيا في أوكرانيا يتجاوز المفهوم الحديث للشعب او الأمة الذي اصبح الأساس في قيام الدولة الحديثة…كما يتجاوز مفهوم الدولة الحديثة ذاتها و كذلك مفهوم الديمقراطية الذي يتشدق بها الجميع…

الأساس القانوني الذي يشرعن للتوغل الروسي في أوكرانيا و الذي قد يمتد الى الدول المحاذية الاخرى في شرق أوروبا هو أساس يعود الى زمن التوسع الإمبراطوري حيث كان يتم تجاوز الحدود بحجة حماية الرعية … دعنا نتذكر في العالم الاسلامي العبارة الشهيرة ” وا معتصماه” الذي استخدم حجة لتوسع الدولة الاسلامية … ما يهمنا هنا… و هذا واحد من اهم مظاهر التوسع الخارجي… و هو ان حملة ” وا معتصماه” قد أزهقت أرواح الآلاف ليس فقط من هذا الطرف او ذاك … بل من الناس الذي دخلوا او لم يدخلوا بيوتهم اثناء مرور جيش المعتصم ( الإشارة الى الآية القرانية… حتى اذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلو مساكنكم لا يحطمنكم سليمان و جنوده و هم لا يشعرون … سورة النمل… الآية 18…)…

من سخرية السياسة ان المصادر التاريخية تذكر ان جيش المعتصم قتل ثلاثين ألف من اهل العمورية لكن تلك المصادر لا تستطيع أبدا ان تؤكد ان تلك المراة التي أطلقت صيحة ” وا معتصماه” كان لها وجود حقيقي..!!!…(للتذكير فقط ان رقم ثلاثين الف في ذلك الوقت ربما يساوي ثلاثة ملايين في حسابات الوقت الحالي نتيجة الزيادة الهائلة في عدد سكان الارض)…

المهم … ان الخلاصة التي يعلمنا إياها التاريخ … هو انه اذا كان هذا المظهر مؤشرا على تغيير كوني فليطمأن المطبلون لبوتين شأنهم في ذلك شأن الذين طبلوا للمعتصم … و لاشتراكية ستالين و لليبرالية أمريكا و لعقلانية بريطانيا و تحرر فرنسا….و… و الأمثلة التاريخية كثيرة…..ان اي تغيير يحصل نتيجة الحروب و الدمار لن يكون تغييرا كونيا و لا يمكن ان يحمل اية سمة للقيم التي يمكن ان تسود و تحقق السلام و العدالة….

ما يحصل الان في شرق أوكرانيا و قد يحصل غداً في غيرها … هنا و هناك في هذا العالم…. يخلف أيضاً آلاف الضحايا… بعضهم فقد حياته و اخرون كثيرون فقدوا عملهم و لقمة عيشهم و استقراهم و أشياء كثيرة اخرى… لكن في هذه اللعبة السياسية الكبرى فان بوتين ليس وحده الذي يلعب دور المعتصم بل ان القوى الغربية تفعل ذلك بشكل اكبر مما يعتقد البعض… و فكرة اعادة بناء العالم ليست غريبة….

ختاما…موضوع اوكرانيا موضوع و اعادة بناء العالم هما موضوعان كبيران و شائكان و لهما ابعاد كثيرة لاشك اننا نعود اليها في مقالات لاحقة…حبي للجميع…

أكرم هواس (مفكر حر)؟

About اكرم هواس

د.اكرم هواس باحث متفرغ و كاتب من مدينة مندلي في العراق... درس هندسة المساحة و عمل في المؤسسة العامة للطرق و الجسور في بغداد...قدم الى الدنمارك نهاية سنة 1985 و هنا اتجه للدراسات السياسية التي لم يستطع دخولها في العراق لاسباب سياسية....حصل على شهادة الدكتوراه في سوسيولوجيا التنمية و العلاقات الدولية من جامعة البورغ . Aalborg University . في الدنمارك سنة 2000 و عمل فيها أستاذا ثم انتقل الى جامعة كوبنهاغن Copenhagen University و بعدها عمل باحثا في العديد من الجامعات و مراكز الدراسات و البحوث في دول مختلفة منها بعض دول الشرق الأوسط ..له مؤلفات عديدة باللغات الدنماركية و الإنكليزية و العربية ... من اهم مؤلفاته - الإسلام: نهاية الثنائيات و العودة الى الفرد المطلق', 2010 - The New Alliance: Turkey and Israel, in Uluslararasi Iliskiler Dergisi, Bind 2,Oplag 5–8, STRADIGMA Yayincilik, 2005 - Pan-Africnism and Pan-Arabism: Back to The Future?, in The making of the Africa-nation: Pan-Africanism and the African Renaissance, 2003 - The Modernization of Egypt: The Intellectuals' Role in Political Projects and Ideological Discourses, 2000 - The Kurds and the New World Order, 1993 - Grøn overlevelse?: en analyse af den anden udviklings implementerings muligheder i det eksisterende system, (et.al.), 1991
This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.