بمناسبة عيد الأم: ستبقين أمي…

nabilaudehفي صباح اليوم الأول بعد وداعك (29–11–2000) وعلى غير العادة كانت جريدة “الاتحاد”* ملقاة على باب بيتك.. ودافع قوي يشدني لأقرع الباب وأذكرك انك، على غير عادتك.. لم تأخذي الجريدة بعد.
وقفت طويلا متأمّلا الباب الموصد بحيرة.. متخيّلا إيّاك وراءه.. وانك بين لحظة وأخرى ستفتحين الباب وأشاهد وجهك بهدوئه والابتسامة التي لا تفارقه.. وستأخذين جريدتك، تماما كما تفعلين كل صباح.. وأن ما ظننته وداعا أبديا لك هو حلمٌ مزعج، وهمٌ ثقيلٌ سرعان ما يبدّده ظهورُك. كانت الجريدة الملقاة أمام بابك تقول عكس ما نعرف، كنت أريد أن أصدّق، كنت أنتظر، كجريدتك… أن ينشقّ الباب لتملئيه بتفاصيلك المعروفة لي، ثم تأخذين جريدتك.لا يمكن أن نفقدك بدون أي إنذار مبكر وأنت في قمة نشاطك وعطائك وصحتك… لم أكن مستعدا لأتعوّد على غيابك الأبدي، على بابك الموصد وعلى جريدتك المنتظرة.
حين قرر ابنك الطبيب أن يجري لك فحصا، بعد أن ثارت لديه الشكوك بمرضك، حاولت إقناعه أنْ لا ضرورة لهذه “الغلبة” وأنك، ما عدا قليل من الإمساك، تعالجينه بالدواء المناسب، لا أدري إن كنتِ تخفين آلامك هنا؟ لكن وجهك الذي يجعلك تبدين أصغر من عمرك بعقد أو عقدين يؤكد ما تصرين عليه بأن صحتك جيدة ولا تستوجب القلق والفحوصات المتعددة التي حاولت التهرّب منها. لماذا لا نصدّقك؟ لكن طبيبك يصرّ على موقفه وهو ليس كأي طبيب.. إنما هو ابنُك. كان قراره ملزما.. وكان ضجرك من قراره واضحا جليا، واصلتِ بين فحص وآخر حياتك الطبيعية، كنتُ أشعر بسخريتك من قرار “تعذيبك” بالفحوصات.. وكانت “ألاتحاد” تنتظرك كل صباح أمام باب بيتك. كان لا بد لي أن ألقي نظرةً كلَّ صباح عند بابك فأرى أنك سبقتِ الجميع في استلام صحيفتك. كنت تبقين باب بيتك أقلَّ بقيراط من الإيصاد الكامل، لأن قهوتك جاهزة بانتظار كل من يطرق بابك من أبنائك بل حتى بائعات اللبن والبقول..
انظر اليوم إلى الباب الموصد بعجز عن التصديق، برفض لقبول ما أرى، بإحساس مجنون متفجّر انك لا بدّ تقفين، كما أعهدك.. وراء الباب الموصد، أو تجلسين بمكانك المعهود، تطالعين جريدتك وتحتسين قهوة الصباح.
وقفت طويلا أمام الباب وأنا بين دافع الإقدام ودافع التراجع.. وشعور بالثقل يتزايد وأقاوم دمعة تكاد تطفر من عيني.
قبل أن تصبحين مجرّد ذكرى فاجأتِني بأن “أرشيفك” يحوي مختلف المجلات والصحف التي نشرتُ فيها منذ السبعينات، أي مع أول عمل أدبي نشرتُه. بدأتِ تنقلين لي دفعاتٍ تلوَ دفعات أعدادا مختلفة من مجلات “الجديد”، “الغد”، “الأسوار”، “نداء الأسوار”، “الآداب”، “الكاتب”، “البانوراما” وغيرها.. ففوجئت بكتابات نسيتها، بل غابت تماما عن ذهني.
كم تألّمت في الصباح الأول بعد فقدانك، حين نظرت لصحيفة “الاتحاد” مسجّاة أمام بيتك، دون أن يجرؤ أحدٌ منا أو من أولادنا على التقاطها للاحتفاظ بها لك، كما تعودنا في أيام وجودك خارج البيت.
أبقينا جريدتك تنتظر علّك تطلين أخيرا، علّها تكون معجزة تعيدك إليها وإلينا. يعيد لي أشدّ قرّائي حماسة ومثابرة. هل أستطيع أن أكتب الآن وأنا على يقين بفقدانك مع ما يعنيه فقدانك لي..؟
ماذا يسعني اليوم أن أقول أمام بابك الموصد؟ أمام جريدتك المنتظرة بخشوع أن ينشق باب بيتك..؟ ربما أطمئنك إذا قلت إني سأبقى مخلصا لقلمي ولما زرعتِه فيَّ من حبٍّ للمطالعة والكتابة.. وإن نسيتُ، فلن أنسى أبدا أنك جعلت من “الاتحاد” كتابيَ المدرسيَّ الأول والوحيد، الذي تعلّمت على صفحاته القراءة وأنا في طريقي لجيل الخامسة ولم أكن بعدها بحاجة لأي كتاب مدرسي آخر لتعلُّم القراءة.
بفقدانك سأعزّز ما كسبتُه منك في طفولتي، علّني أجد فيه عوضا عن غيابك.. ستبقين حية فينا.. ستبقين أجمل ذكرى مع إطلالة كل فجر.
ستبقين أمي!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*- الإتحاد – صدرت باسم “مؤتمر العمال العرب” في فترة الانتداب البريطاني، اليوم ناطقة باسم الحزب الشيوعي، هي الصحيفة اليومية العربية الوحيدة في إسرائيل. من أبرز محرريها: المؤرخ د.إميل توما، الكاتب إميل حبيبي والشاعر والمفكر سالم جبران. لعبت الاتحاد دورا تاريخيا، سياسيا وتنويريا هاما. علمتني والدتي القراءة على صفحاتها منذ بداية وعيي، نفتقد اليوم للصحيفة التي تثقفنا على اقلام محرريها وكتابها ونهجها. من المؤسف ان هذه المادة(عن أمي) سبق للإتحاد ان رفضت نشرها… لكن التاريخ أكثر قداسة من الذين حولوا حاضرهم الى مهزلة!!
nabiloudeh@gmail.com

About نبيل عودة

نبذة عن سيرة الكاتب نبيل عودة نبيل عودة - ولدت في مدينة الناصرة (فلسطين 48) عام 1947. درست سنتين هندسة ميكانيكيات ، ثم انتقلت لدرسة الفلسفة والعلوم السياسية في معهد العلوم الاجتماعية في موسكو . أكتب وأنشر القصص منذ عام1962. عانيت من حرماني من الحصول على عمل وظيفي في التعليم مثلا، في فترة سيطرة الحكم العسكري الاسرائيلي على المجتمع العربي في اسرائيل. اضطررت للعمل في مهنة الحدادة ( الصناعات المعدنية الثقيلة) 35 سنة ، منها 30 سنة كمدير عمل ومديرا للإنتاج...وواصلت الكتابة الأدبية والفكرية، ثم النقد الأدبي والمقالة السياسية. تركت عملي اثر إصابة عمل مطلع العام 2000 ..حيث عملت نائبا لرئيس تحرير صحيفة " الاهالي "مع الشاعر، المفكر والاعلامي البارز سالم جبران (من شعراء المقاومة). وكانت تجربة صحفية مثيرة وثرية بكل المقاييس ، بالنسبة لي كانت جامعتي الاعلامية الهامة التي اثرتني فكريا وثقافيا واعلاميا واثرت لغتي الصحفية وقدراتي التعبيرية واللغوية . شاركت سالم جبران باصدار وتحرير مجلة "المستقبل" الثقافية الفكرية، منذ تشرين اول 2010 استلمت رئاسة تحرير جريدة " المساء" اليومية، أحرر الآن صحيفة يومية "عرب بوست". منشوراتي : 1- نهاية الزمن العاقر (قصص عن انتفاضة الحجارة) 1988 2-يوميات الفلسطيني الذي لم يعد تائها ( بانوراما قصصية فلسطينية ) 1990 3-حازم يعود هذا المساء - حكاية سيزيف الفلسطيني (رواية) 1994 4 – المستحيل ( رواية ) 1995 5- الملح الفاسد ( مسرحية )2001 6 – بين نقد الفكر وفكر النقد ( نقد ادبي وفكري ) 2001 7 – امرأة بالطرف الآخر ( رواية ) 2001 8- الانطلاقة ( نقد ادبي ومراجعات ثقافية )2002 9 – الشيطان الذي في نفسي ( يشمل ثلاث مجموعات قصصية ) 2002 10- نبيل عودة يروي قصص الديوك (دار انهار) كتاب الكتروني في الانترنت 11- انتفاضة – مجموعة قصص – (اتحاد كتاب الانترنت المغاربية) كتاب الكتروني في الانترنت ومئات كثيرة من الأعمال القصصية والمقالات والنقد التي لم تجمع بكتب بعد ، لأسباب تتعلق اساسا بغياب دار للنشر، تأخذ على عاتقها الطباعة والتوزيع.
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.