منذ ربع قرن وفى شهر سبتمبر وفى الغربة بباريس رحل عنا بليغ حمدى، هذا الموسيقار العبقرى، ودعنا محروماً من دفء الصحبة وونس أهل المحروسة وحضن الوطن، مصر التى عشقها واختزنها فى الوجدان والفؤاد فمنحته صولجان الموسيقى وعرشها، كانت الثورة وقتها ما زالت تتلمس الطريق وكان الأبناء ما زالوا يبحثون عن صيغة لتشكيل عقل ووجدان العصر الجديد، تفتحت الأزهار واتجهت صوب الشمس تتنفس الضوء الوافد والريح التى كان من الممكن أن تعصف بكل شىء، ظهر أحمد بهاء الدين وصلاح حافظ وفتحى غانم ويوسف إدريس وصلاح جاهين وفؤاد حداد وشادى عبدالسلام وعبدالهادى الجزار وجمال السجينى ومحمود رضا وكمال الطويل ومحمد الموجى وعبدالحليم حافظ، وظهر معهم شاب نحيل ذو صوت هامس كأنه يترقرق من نبع صاف، عيناه ذكيتان فى غير لؤم ووجهه مجهد شاحب ولكن المدهش أنه ينبض حياة ويشع حنواً وتسامحاً. كان يحلم بموسيقى مختلفة، موسيقى من الناس وللناس، يرقصون على إيقاعها ومن الممكن أيضاً أن يحاربوا على نغماتها، أخذ يلملم مفردات إيقاع موسيقى الناس من زغاريد أفراح وعديد أحزان وحتى إيقاع الردح البلدى أخذ منه (راجع بعض مقاطع حب إيه اللى انت جاى تقول عليه)، فعلها من قبله سيد درويش بنصف قرن عندما ردد أغانى العمال والفلاحين والصنايعية وكل من هو على الهامش، وكما خطف الموت سيد درويش فى عز الشباب قبل أن يكمل مشروعه خطف المنفى بليغ حمدى قبل أن يصوغ أحلامه الموسيقية. ولد بليغ حمدى فى 7 أكتوبر 1931 ومصر تمر بمخاض تعيد فيه تشكيل كيانها السياسى الذى تمزق بين احتلال أجنبى له أذناب داخل الوطن وحزب أغلبية نادراً ما يصل إلى الحكم وأحزاب أقلية كالدمى فى أيدى أسيادها وشباب جامعة حائر تجره تارة أمواج الإخوان المسلمين وتارة دوامات اليسار، فى خضم كل هذه الصراعات نشأ بليغ حمدى فى كنف أب كان رجلاً من رجال التعليم فى
سوهاج، كان مستنيراً برغم التقاليد المحافظة والأعراف القاسية فاشترى لابنه الصغير بليغ عوداً ليعزف عليه أو بالأصح ليلعب به، ولكن سرعان ما تحول اللعب إلى عشق والشقاوة إلى تعبد فى محراب الموسيقى، وابتلعته الرمال المتحركة لهذه الهواية حتى سحبته إلى داخلها وامتلكت عليه عقله وقلبه، فقرر ترك كلية الحقوق وهو ما زال فى السنة الثالثة فى كلية الحقوق وكانت البداية مع الغناء قبل التلحين عندما أجازه محمد حسن الشجاعى فى لجنة الاستماع بالإذاعة وكان وقتها رئيس اللجنة، ولكن موهبة بليغ فى التلحين جعلته يرفض استكمال طريق الغناء الذى أحس أنه سيلتهم موهبته المتوقدة، وكانت بداية التلحين مع زميلته فى كلية الحقوق فايدة كامل، ولنترك الأستاذ أحمد شفيق أبوعوف يحكى لنا عن هذا اللقاء الأول، يقول أبوعوف «كنت فى الاستوديو وطلبت من فايدة كامل الانتظار للاستماع للحن دينى جديد لشاب اسمه بليغ حمدى، انتظرت واستمعت إلى اللحن من غناء فايدة كامل وتحركت مشاعرى مع السياق اللحنى الجميل الذى تضافرت فيه قوة وعمق الكلمات مع النسيج اللحنى، وكان أكثر عجبى من الأسلوب الذى لجأ إليه هذا الملحن الشاب لتصبح الأغنية عميقة الأثر على نفس السامع، وأحسست بأن ثمة روحاً متعطشة للتجريب والابتكار، وفى جمله الموسيقية أحسست بالبساطة والعمق وهما صفتان قلما يجتمعان فى عمل موسيقى، كما لمست قوة الحبكة الموسيقية فأدركت وأنا أستمع فى ذهول أن ثمة فناناً مصرياً عربياً يولد، وقلت هنيئاً لأمة العرب بهذا الناشئ العبقرى الفذ الذى سوف يسعد هذه الأمة بألحانه الآسرة التى تشع بإحساس عربى عريق». وتحققت نبوءة أبوعوف وأسرنا وسحرنا بليغ حمدى منذ البداية فى منتصف الخمسينات، وكما كان يحمل مفتاح النيل دوماً على صدره حمل مفتاح الموسيقى الشعبية فى وجدانه، وأخذ يبحث عبر ألف وخمسمائة وثمانية وستين لحناً هى كل عمره الفنى جال فيها وصال بين جميع القوالب الموسيقية الشرقية من أوبريت وأغنية خفيفة ونشيد دينى وأغنية وطنية.. إلخ، وكانت عبقرية بليغ لا تنحصر فى هذا الكم الهائل الذى يتعجب الإنسان كيف أنجزه فى هذا العمر القصير، ولكن عبقريته تتجلى فى جمله الموسيقية التى تندهش كيف صاغها ومن أين أتى بها؟! لدرجة أنه سحر أم كلثوم عندما سمعت منه «حب إيه» وكانت تلك المرة الأولى التى تنتبه فيها لهذا الشاب النحيف، وللقاء بليغ مع الست قصة طريفة تدل على عظمة الاثنين معاً، فقد كان بليغ يقوم بتحفيظ أغنية للمطرب الشاب وقتها إبراهيم خالد ابن شقيقها، الذى يقطن معها فى نفس الفيلا، واسترقت أم كلثوم السمع فانبهرت باللحن وكان لحن «حب إيه»، وفوجئ بليغ بأم كلثوم أمامه تصفق له: برافو يا بليغ انت لك مستقبل هايل، وأخذ بليغ يعيد ويجود وأم كلثوم تستمع وتصفق حتى أذن الفجر ومعه أذن بلبل الفن، ها قد حان اللقاء وتم ضخ الدم الجديد فى شرايين فن «ثومة» ونجحت الأغنية نجاحاً باهراً، فقد طرقت أم كلثوم أبواب الشباب بالإيقاع الراقص أحياناً الشجى أحياناً أخرى، الذى يثير النشوة على الدوام، وبدأ الفيض البليغى يكسو أم كلثوم بياسمين العصر الجديد وبدأت ريشة بليغ المتمردة ترسم بورتريهاً ملوناً لسيدة الغناء تلمح فيه بعض الشقاوة والانطلاق، فكانت كمن قام بفك الجبس ليطير محلقاً بجناحين، وتوالت الأغنيات «أنساك يا سلام» لمأمون الشناوى واسمع فيها «ده مستحيل قلبى يميل ويحب يوم غيرك أبداً أهو ده اللى مش ممكن أبداً»، و«كل ليلة وكل يوم» لنفس المؤلف واستمع فيها إلى أكثر الأسئلة لوعة فى الغناء العربى «عامل إيه الشوق معاك عامل إيه فيك الحنين»، وأغنية «فات الميعاد» لمرسى جميل عزيز وصرختها المدوية و«النار بقت دخان ورماد»، و«أنا وانت ظلمنا الحب» لعبدالوهاب محمد، والصعود والهبوط فى « بردت نار وقادت نار»، و«بعيد عنك» لمأمون الشناوى، ودموع الكبرياء فى «نسيت النوم وأحلامه»، أما رائعته البسيطة المدهشة «ألف ليلة وليلة»، التى لفرط بساطتها تحس أن كل إنسان يستطيع تلحينها إلى أن تكتشف أنها البساطة العبقرية الآسرة التى يختص بها الله فرداً بعينه، إنها الخيال الجامح الذى روضه بليغ. أما لقاء بليغ بعبدالحليم فكان لوناً آخر، كانا على نفس الموجة يمتلكان نفس الحلم ونفس الانكسار ونفس الطموح الذى كان مغلفاً فى بعض الأحيان بالأنانية الفنية المشروعة، فكان اللقاء الأول «تخونوه»، الذى كانت أنامل بليغ ما زالت تتحسس فيه حنجرة حليم، إلى أن جاء الانقلاب الكاسح حين تحمس حليم للفولكلور الذى طعم به بليغ ألحانه ورمى لحليم طوق النجاة من أغانى الهجر والضنا كى يدخل به شاطئ الالتحام بالناس وغناء ما يغنونه، وأفرزت تلك المرحلة «الهوى هوايا وعلى حسب وداد قلبى وسواح وزى الهوى..إلخ»، وخرج الغناء من الصالون إلى أوضة المعيشة يقتسم مع الناس البتاو والمحشى ويخلع الكرافتة والردنجوت ليرحرح بالبيجاما، استطاع الفرد العادى بمجرد صفير بسيط أن يغنى لحبيبته ألحان بليغ ويرقص على أنغامها مع حبيبته ولا يخجل من صوته وهو يأكل معها الترمس أو الذرة، فالأغنية ليست معقدة أو مكلكعة لا تمتلك القفلة الصعبة أو العُرّب المستحيلة، فالغناء لا يولدمع ألحان بليغ بعملية قيصرية ولكنه يولد بنشوة وبدون ألم وبطريقة فى منتهى الطبيعية. واستراح بليغ على شواطئ حناجر أخرى مثل نجاة الصغيرة وشادية ووردة وفايزة ومحمد رشدى ومحرم فؤاد ومحمد قنديل وميادة وسميرة سعيد وعلى الحجار وعزيزة جلال وغيرهم من مطربى المنطقة العربية، وأنجز الأوبريت وكلنا لا ننسى تمر حنة، وأبدع فى الموسيقى التصويرية وما زال فى الذاكرة فيلم شىء من الخوف، أما الأغنية الوطنية فعندما يذكر انتصار أكتوبر لا بد أن نتذكر على الفور «على الربابة، وبسم الله، وعاش اللى قال، ويا حبيتى يا مصر»، عندما تحول عود بليغ حمدى إلى مدفع هادر استقر فى ماسبيرو لينطلق مع حلم النصر وثأر الانتقام، إنه موتسارت مصر الذى من فرط حبه لهذا الوطن وانغماسه فيه كتب شهادة وفاته الفنية عندما خرج منه إلى باريس، فنضبت ألحانه وفقدت بريقها، لأن برج إيفل لم يعوضه عن سيدنا الحسين، وشارع الشانزليزيه لم يمح من ذاكرته الغورية والموسكى، وأغانى داليدا لم تطربه كطلعت يا محلا نورها، لأنه عندما نفى عن الوطن نفى عن الإبداع فى نفس الوقت، فالحبل السرى الذى كان يمده بأكسجين الإبداع قد انقطع فتمت الولادة ولكنها الولادة المبتسرة التى لا تجدى معها حضانات باريس، فكان أفضل منها الموت.