من عاداتنا فى مصر أن نكرِّم المبدعين بعد رحيلهم، وتلك عادة متوارثة وممتدة منذ زمن الفراعنة الذين بنوا مقابر لأنفسهم أعظم من القصور والمعابد التى سكنوها أو تعبَّدوا فيها، ولكنَّ هناك فنانين يُظلمون، ومن هؤلاء بليغ حمدى (7 من أكتوبر 1931 – 12 من سبتمبر 1993 ميلادية)، ولا أعتقد أن هناك واحدًا أثرى الموسيقى المصرية والغناء أكثر من بليغ، حيث وصل إنتاجه إلى نحو ألف وثلاثمائة أغنية، إضافةً إلى الأغنيات والموسيقى التصويرية فى الأفلام والمسرحيات والمسلسلات الإذاعية، حيث غنت لبليغ أصوات من معظم الدول العربية، ولا يمكن لأحد أن يسير فى شارع من شوارع البلدان العربية، إلا ويسمع أغنيات من ألحان بليغ يتغنى بها كثيرون فى مقدمتهم: عبدالحليم حافظ، وأم كلثوم، ونجاة، وفايزة أحمد، وشادية، وصباح، ومحمد عبدالمطلب، ومحمد رشدى ومحرم فؤاد ووردة الجزائرية، وعفاف راضى، وميادة الحناوى، وعشرات غيرهم، ومع ذلك فقد ظُلم بليغ ظلمًا شديدًا، حيث ظلمته الدولة المصرية حين بخلت عليه بجائزة الدولة التقديرية فى الفنون، وخذلته حين كرَّمت «فنانى حرب أكتوبر» ونسيته، وهو الذى غنت له مصر أغنيات شهيرة مثل: بسم الله، أنا على الربابة باغنى، يا حبيبتى يا مصر.
بليغ الذى اقتحم مبنى الإذاعة والتليفزيون عند بدء حرب أكتوبر سنة 1973 ومعه الشاعر عبدالرحمن الأبنودى، حيث لحن أبرز وأهم أغنيات حرب أكتوبر 1973، وسافر إلى باريس للعلاج، ولم تفكر الدولة فى التطوع لدفع تكاليف علاجه، ومن ثم اضطر إلى دفع آخر ما كان لديه من مال للإنفاق على العلاج، وحتى بعد ذلك على الرغم من المذكرة التى أرسلها وزير الثقافة إلى رئيس الوزراء، الذى حوَّلها إلى وزير المالية لإسقاط الضرائب المتأخرة، والتى لا ذنب لبليغ فيها، ولكن الوزير لم يستجب، وهكذا ظُلِم بليغ فى حياته وبعد مماته.
وكان بيت بليغ مفتوحًا للجميع ؛ لكنه دفع ثمن هذا الكرم غاليًا فى قضية (المطربة سميرة مليان)، والذى قال القضاء كلمته بأنها ماتت منتحرة لأسباب شخصية لا علاقة لها بالسهرة فى منزل بليغ.
أحب بليغ حمدى وردة وأراد أن يتزوجها، واحتج عبدالحليم حافظ قائلا إن هذا الزواج لن يدوم، فاتهمه بليغ بأنه يريده أن يكون ملحنه الملاكى، ولما انتهى الزواج، وعلمت وردة أرسلت إلى عبدالحليم فى حفلته احتجاجًا، فوقف يومها يقول: «أنا بأعرف أشخط وأشتم، مش بس بأغنى على المسرح».
وكان بليغ يرى أن عبدالحليم حافظ هو طريقه إلى العالمية، ولهذا أدخل كثيرًا من التعديلات على موسيقاه معه، مثل الموسيقى الإلكترونية فى (موعود)، واستخدم آلة الساكس فى (زى الهوى)، ولا يزال العالمان العربى والغربى يغنيان: سواح، التوبة، جانا الهوى، موعود، زى الهوى،… وكلها من تلحين بليغ.
وكان لدور كل منهما فى حياة الآخر ظواهر، الأولى فى منتصف الخمسينيات بألحان (تخونوه، خسارة) من فيلم (الوسادة الخالية)، والثانية فى السبعينيات وهى التى اقتحم بها بليغ حمدى الموسيقى العربية، ومنها ألحان (على حسب وداد قلبى، التوبة، سواح)، وفى هذه الفترة اعتبره عبدالحليم حافظ أمل مصر فى الموسيقى والغناء، أما الظاهرة الثالثة فقد جاءت بعد أم كلثوم وتشمل الرومانسيات (موعود، أى دمعة حزن لا، زى الهوى)، وظهرت الأغنيات الوطنية بعد حرب أكتوبر 1973 مثل (عاش اللى قال…).
ولم يكن بليغ حمدى يعرف أم كلثوم، والذى رتَّب لقاءهما معًا هو الموسيقار محمد فوزى من خلال أغنية (حب إيه)، حيث كان بليغ وقتذاك يتدرَّب مصادفةً على أغنية كتبها صديقه الشاعر الغنائى عبدالوهاب محمد، حيث أحسَّها ثم قرر تلحينها، فى وقت كانت أم كلثوم تطلب فيه من محمد فوزى لحنًا له، فقدَّم لها بليغ حمدى، وقال له: سمّعها (حب إيه)، فطلبت منه أم كلثوم أن يعيدها أكثر من مرة، وبعدها قالت كلمة يُعرف منها استحسانها (يا واد يا بليغ مبروك، سأغنيها)، وكانت أم كلثوم هى المستفيدة، فلقد أخذت بذكاء شباب بليغ حمدى، وكان عمره وقتذاك 29 سنة وكان ذلك سنة 1960، ثم أعطاها (ظلمنا الحب 1962، أنساك يا سلام 1961، بعيد عنك 1965، سيرة الحب 1964، فات الميعاد 1967، كل ليلة وكل يوم 1963، ألف ليلة 1969، الحب كله 1971، حكم علينا الهوى 1973…).
وقابل بليغ حمدى المطرب محمد رشدى، وكان الشاعر عبدالرحمن الأبنودى قد كتب له (تحت الشجر يا وهيبة)، وشعر بليغ بحسه غير العادى أن هناك كلمة جديدة، وأداء جديدًا، وكنزًا يحتاج من يكتشفه وهو (الشعبيات)، أو الفلكلور، وشعر أن هناك مجتمعًا يريد أن يخرج ويتغير مع قوانين يوليو الاشتراكية، وتيار المجتمع الجديد، فرأى وقتها أن الموسيقى تحتاج إلى هزَّة، واعتبر الغناء الشعبى أنسب اتجاهٍ لها، خاصة أن عبدالرحمن الأبنودى جاء بالكلمة الجديدة، بحيث أصبح المرء يشعر بالجنوب يغنى للمرة الأولى، وبالفلاحين والكادحين.
ومع بليغ حمدى غنَّى محمد رشدى (آه يا ليل يا قمر، وسع للنور،…) وكانت كلمات الأبنودى لا تقل دورًا عن موسيقى بليغ، ثم جاءت أغنية (عدوية)، فكانت فتحًا فى عالم الغناء الشعبى، ثم غنَّت شادية من ألحان بليغ (آه يا أسمرانى اللون)، وغنَّى عبدالحليم حافظ (على حسب وداد قلبى)، وقد حاول بليغ تمصير كل الأصوات العربية، ليغنوا باللهجة المصرية، حيث جعل الأمة العربية تتحدَّث بلهجة غنائه، وكانت تطلبه الأصوات العربية مثل وردة الجزائرية، وميادة الحناوى، وكان قد بدأ مع فايزة أحمد أغنية (متحبنيش بالشكل ده)، حيث لحن لها 14 أغنية، ثم نجاة الصغيرة (مش هاين أودعك،…)، ثم جذبته لبنان فلحن لوديع الصافى (راحوا فين حبايب الدار، يا عينى على الصبر)، وأعاد تمصير صباح فلحن لها 22 أغنية، وكانت شادية تلح على منتج أفلامها بأن تكون كل أغنياتها من تلحين بليغ حمدى، وعندما بدأت مسلسلات الإذاعة اختار محمد حسن الشجاعى بليغ حمدى لكل المسلسلات التى تقوم ببطولتها شادية مثل (جفت الدموع، نحن لا نزرع الشوك،…).
ولقد مر بليغ حمدى بأزمة لم يشارك فيها، لكن أسهمت فيها طيبته وخجله، حيث لم يكن يستطيع أن يقول لا لأحد، وهو ما حدث – تمامًا – فى حادث انتحار سميرة مليان، وهاجمته الصحافة، وأهدرت دمه قبل أن يصدر الحكم عليه، فكان لما نشر فى الصحافة تأثيره على وجدان القاضى الذى حكم عليه أول مرة، إلا أن محكمة النقض قد برأت ساحته بعد ذلك، لكن بليغ كان قد ابتعد عن مصر خمس سنوات، ذاق فيها كل أنواع العذاب والعوز، وهاجمته جيوش من الأمراض التى أدت إلى موته بعد ذلك.
*نقلا عن “المصري اليوم”.