عبدالله حبه – موسكو
28 آب 1899 – 5 كانون الثاني 1951
يوصف الكاتب أندريه بلاتونوف بـ”كافكا الروسي ” لسبب واحد هو ان قصصه ورواياته مترعة بالاحداث الخيالية الشبيهة بالكوابيس والاحلام المرعبة. إلاّ أن أعماله على عكس اعمال كافكا تتميز بتوجهات مجازية تعكس الواقع الذي عاشه الكاتب في فترة الحرب الاهلية الدامية وخلال فترة تصفية البرجوازية كطبقة اجتماعية أُحرِق خلالها الاخضر واليابس، وكذلك في فترة المجاعة التي اجتاحت بعض مناطق الاتحاد السوفيتي في مطلع الثلاثينيات وما رافقها من فظائع تقشعر لها الابدان كأقدام أب تتري على ذبح ابنه الاكبر من أجل اطعام اطفاله الآخرين بلحمه. إن هذا الكاتب الذي عانى من المضايقات في عهد يوسف ستالين، رفعه النقاد في اعوام السبعينيات والثمانينيات الى الذروة واصبح اليوم من الادباء الروس الكلاسيكيين. فقد واصل بلاتونوف في الواقع تقاليد الادب الروسي المعروفة في الادب الخيالي كأعمال جوجول في “ليلة عيد الميلاد ” و” الجنية فيي” و”الأنف” ورواية سالتيكوف شيدرين ” قصة مدينة ” ورواية ” المعلم ومرجريتا” لبولغاكوف ، وفي أيامنا رواية ” القرد الأسود ” لزخار بريليبين وغيرها. ولم تكن أعمال بلاتونوف نابعة عن مرض جسدي او نفسي كما كانت الحال لدى معاناة كافكا المتأتية عن قسوة أبيه والمرض. فمشكلته انه ظهر في فترة تأريخية غير مناسبة له ، حيث لم يجد من يتفهم افكاره الفلسفية لدى الحديث عن مكانة الانسان في المجتمع الذي بناه البلاشفة بعد ثورة اكتوبر 1917. فبالرغم من مقولة ماركس الشهيرة “الانسان اثمن رأسمال”، فقد عاش الانسان الذي عاش معه بلاتونوف مهاناً ومسحوقاً وبلا أبسط الحقوق بسبب الحكم الفردي وتداعياته وغياب التعددية الفكرية ووجود اعداء خارجيين اقوياء يتربصون بالدولة الاشتراكية الفتية ، مما جعل السلطة تبرر كل انتهاك لقيمة وكرامة الانسان بوجود الخطر الخارجي.
ومن نافل القول التأكيد على أن الأدب مرآة الواقع الاجتماعي في أي بلد. ونحن إذا اردنا معرفة حقيقة الوضع في الاتحاد السوفيتي بعد قيام ثورة اكتوبر فلا بد من اللجوء الى ما كتبه كبار المبدعين في تلك الفترة مثل شولوخوف وبولغاكوف وماياكوفسكي واخماتوفا وفالنتين راسبوتين وايتماتوف وغيرهم . علما ان الكاتب في ظروف الانظمة الشمولية غالبا ما يلجأ الى أدب الخيال بغية الهرب من ملاحقة السلطات وقيودها على الابداع بمختلف اشكاله. وقال المعري في زمانه :” لا تقيد علي لفظي فأني مثل غيري تكلمي بالمجاز”. وقال الشاعر الكبير بدر شاكر السياب: “والشاعر اذا كان صادقا في التعبير عن الحياة في كل نواحيها ، فلابد ان يعبر عن آلام المجتمع وآماله دون أن يدفعه الى هذ أحد. كما انه يعبر من الناحية الأخرى عن آلامه هو وأحاسيسه الخاصة التي هي في أعمق أغوارها أحاسيس الاكثرية من أفراد هذ المجتمع “. بينما اشار ابن خلدون في مقدمته الى دور “العصبية ” في عملية بناء الدولة وتغيير المجتمع. وكان هذا العنصر قوياً في فترة حكم ستالين الشمولي. ولهذا نجد ان الكتاب في الانظمة الشمولية عموماً يلجأون الى “المجاز” وكتابة روايات خيالية تعكس في الحقيقة واقع الحال في مجتمعاتهم ، لكي لا تجد رقابة السلطات فيها تعريضاً مباشراً بالحاكم الدكتاتور ونظامه. فعلى سبيل المثال صوّر سالتيكوف – شيدرين روسيا في العهد القيصري بروايته ” قصة مدينة” أبدع تصوير باسلوب خيالي، بينما كتب راديشيف روايته “رحلة من بطرسبورغ الى موسكو ” دون ان يتعرض بشئ للحكم القيصري بصورة مباشرة. لكن القيصرة يكاترينا الثانية اعتبرتها إدانة صارخة للنظام وحكم عليه بالاعدام ثم استبدل الحكم بالنفي الى سيبيريا، وانتخر فيما بعد. وعلى العموم كان الصراع على أشده في الاتحاد السوفييتي في ايام حكم ستالين بين الأدب الحزبي والأدب غير الحزبي. وكان يتقرر في هذا الصراع هل يكون الاديب موظفا لدى السلطة الحزبية أم شخصية مستقلة؟. وقد استطاع بلاتونوف الحفاظ على مواقفه ولم تستطع السلطة كسر شوكته. فقد واصل الكتابة حتى بالرغم من عدم نشر أعماله. كما اضطر الكثير من الكتاب الى نشر أعمالهم بأسماء مستعارة .
وفيما يخص بلاتونوف، فإنه كتب أكثر قصصه ورواياته ومسرحياته وحكاياته للأطفال بأسلوب الخيال الأدبي في محاولة منه للتهرب من ملاحقة الموظفين الحزبيين المسؤولين عن القطاع الادبي الذين كانوا يحاسبون الكتاب والشعراء السوفيت عن كل كلمة وحرف، وينقلون التقارير السرية الى الكرملين. وكان بلاتونوف يؤمن بمقولة دوستويفسكي :”ان خلاص العالم لا يتم بالعنف بل بالتضحية”. وقد عانى من ذلك الكثير من المبدعين السوفيت وقدموا التضحيات ، وحتى التضحية بالنفس ،مثل ماياكوفسكي ويسنين وتسفيتايفغا واخماتوفا وأسييف وشولوخوف والكسي تولستوي وميخائيل بولغاكوف وحتى مكسيم غوركي القريب من الكرملين. فقد أرغم شولوخوف على تغيير شخصيات روايته ” الأرض البكر” بغية ان تعطى البطولة فيها الى سكرتير المقاطعة الحزبي. كما أرغم ألكسيه تولستوي على اعادة كتابة روايته ” اختراع المهندس جارين” بإدخال شخصية رجل المخابرات السوفيتية فيها. واضطر غوركي الى إجراء تغييرات كبيرة في شخصيات مسرحياته لكي ترضي الرقابة الحزبية. وجرى تعديل مسرحيات بولغاكوف مرارا لدى عرضها في مسرح موسكو الفني لكي ترضي الموظفين الحزبيين الساعين في تحويل العمل المسرحي الى خدمة أهداف الحزب اليومية. وتطوع بعض النقاد المقربين من الاجهزة الامنية لشن الهجمات على كل من يخرج عن ” الاحكام” المقررة في مكاتب اللجنة المركزية. علما ان اختيار الربتروار في المسارح والسيناريوهات في السينما كان يتم على هذا الأساس ايضا. والطريف ان زعيم الحزب يوسف ستالين نفسه كان غالبا ما يتدخل في الأمر ويقرأ النصوص قبل نشرها او السماح بعرضها، او يرتاد المسارح ويشاهد الافلام السينمائية ليتأكد من ان كل شئ على ما يرام في هذا المضمار. وكتب ستالين لدى قراءة قصة بلاتونوف ” ماكار المتشكك” المنشورة في مجلة “كراسنايا نوف ” في عام 1931 يقول :” كاتب موهوب .. لكنه وغد!”. لأنها تضمنت نقدا مبطنا للجان الحزبية المشغولة باجتماعات متواصلة تبحث فيها أمور غالبا ما تكون سخيفة تتعلق بالحياة الشخصية لأعضاء الحزب من قبل افراد جالسين في غرفة مغلقة وسط سحب دخان السجاير بدلا من القيام بعمل مثمر. ان هذه القصة تشبه من حيث المحتوى قصيدة ماياكوفسكي الشهيرة عن الذين” أطالوا وأكثروا من الاجتماعات “، والتي حازت في حينه على إعجاب لينين. وعندما نشر بلاتونوف قصة “تاكير” لدى عودته من جولة في آسيا الوسطى مع فريق من الكتاب إنتقدتها جريدة ” البرافدا” بشدة . وبعدها منعت أكثر قصص بلاتونوف ورواياته من النشر في الصحف ودور النشر السوفيتية، واتهمه الكسندر فادييف سكرتير اتحاد الكتاب السوفيت بأنه يكتب تلفيقات عن المجتمع السوفيتي. واستثنيت من ذلك تحقيقاته الصحفية من الجبهة حين كان مراسلا عسكريا لصحيفة ” النجم الاحمر” في فترة الحرب العالمية الثانية. ويقال ان ستالين سمح بذلك لإعجابه بإسلوب بلاتونوف في الكتابة.
وفي الحقيقة ان سياسة الحزب في المجال الثقافي بقيت في عهد يوسف ستالين ومن جاء بعده من القادة السوفيت كما حددها البلاشفة منذ قيام الثورة في ان تكون الثقافة وسيلة للدعاية لسياسة الحزب، أما حرية الاديب والفنان في الابداع فهي مسألة ذاتية. ولهذا جرى التركيز على وجوب ابراز “البطل الايجابي” والمآثر البطولية ، وعندما يصور الكاتب شخصية مسحوقة في المجتمع السوفيتي تشبه اكاكي اكاكيفيتش لدى جوجول فإنه يعتبر “ملفقا” و”داعية الى نقد النظام” وهلمجرا. لكن بلاتونوف البروليتاري ابن عامل السكك الحديدية شاهد بأم عينيه معاناة الفلاحين بعد ارغامهم على الانضمام الى الكولوخوزات وسلبهم الغلال والماشية، وتصفية طبقة الفلاحين كلها بتحويلهم الى عمال اجراء في الكولخوزات. كما شاهد معاناة عمال السكك الحديدية والمصانع وارغامهم على العمل فوق طاقتهم في فترة القحط والجوع، ناهيك عن ملاحقة المهندسين والمعلمين والاطباء بتهمة الانتماء الى “البرجوازية” الواجب تصفيتها معنويا وجسديا.
حقا ان ستالين وجد بعد تصفية الخصوم في الحزب في محاكم صورية جرت في قاعة الاعمدة بدار النقابات في موسكو عام 1937، ان بناء الدولة ومواجهة الاخطار الخارجية من القوى الامبريالية وبناء دولة قوية عسكريا يتطلب تحشيد كافة القوى وخلق صورة ” الانسان السوفيتي السعيد والبطل” الذي يبني الاشتراكية. وكان لابد من استغلال طاقات المبدعين في رفع معنويات الناس. ولهذا وجب على كافة الكتاب والفنانين والعلماء العمل في هذا الاتجاه بالذات دون غيره. علما ان هذا النهج استمر حتى في فترة ” الدفء” الخروشوفية وفترة بريجنيف. فجرت مثلا حملة نقد عنيفة لباسترناك بسبب نشره رواية ” الدكتور زيفاجو” خارج الاتحاد السوفيتي. حقا سمح لاحقا بنشر رواية حامل جائزة نوبل الكسندر سولجينتسين وهي رواية ” يوم من حياة ايفان دينسيتش” في مجلة ” نوفي مير” بعد المؤتمر العشرين للحزب، حين جرى فضح عبادة الفرد الستالينية. لكن فترة “الدفء” هذه كانت قصيرة جدا. فلقى الكاتب القيرغيزي جنكيز ايتماتوف مثلا الأمرين في عهد بريجنيف لاحقا عند كتابة روايتيه “السفينة البيضاء” و”النطع”. فمنع نشر الاولى لفترة طويلة بسبب ان بطلها الطفل اليتيم يموت غرقا في الختام. وحسب رأي الموظفين الحزبين ان ” الطفل السوفيتي” لا يمكن ان يموت بشكل مأساوي. بينما تناولت الرواية الثانية مشكلة المخدرات الممنوع التطرق اليها أصلا.
* * *
ظهر أندريه بلاتونوف (1899 – 1951) في الساحة الادبية الروسية بعد ثورة اكتوبر الاشتراكية عام 1917، فجأة كالاعصار الذي ينبثق بين البرودة والحرارة والنور والظلام والجفاف والرطوبة، وكان ذلك بمثابة تجسيد لتحديات الثورة والطرق التي سلكها الثوار البلاشفة الذين ينتمي أكثرهم الى الكادحين المعدمين. ويشير كاتبو سيرته الى ان الطاقة الروحية العظيمة التي تراكمت في روسيا على تخوم القرنين التاسع عشر والعشرين قد وجدت منفذا لها في بلاتونوف بالذات.
لكن بلاتونوف بقي فترة طويلة منسيا. وعمدت السلطات السوفيتية آنذاك بكل السبل الى عدم نشر أعماله والتعتيم على الافكار التي تضمنتها. هذا بالرغم من ان الباحثين في روسيا اليوم يضعونه الى جانب غوركي وشولوخوف وبولغاكوف بإعتباره من أكبر الروائيين الروس في القرن العشرين. كما ان بلاتونوف لا يُعرَف، وياللأسف، في العالم العربي أيضا ولم تنشر إلا روايته ” الاشباح “( التسمية الدقيقة بالروسية ” الجن”) وقصص أخرى التي صدرت عن دار نشر السوفيتية “رادوغا” بموسكو في اعوام الثمانينات في فترة “البيريتسرويكا”، لكنها لم تجذب انتباه أحد كما يبدو.
والحق يقال ان الادب الروسي عموما لا يعرف في العالم العربي بوجهه الحقيقي حتى الآن، لأنه لم يترجم من اللغة الروسية الاصلية بل غالبا ما تتم الترجمة عبر اللغتين الانجليزية والفرنسية، وما يرافق ذلك من اخطاء كثيرة في الترجمة من اللغات الاخرى أيضا. كما لم تترجم أعمال رئيسية للأدباء والشعراء الروس، وبقيت غير معروفة بصورة جيدة أشعار بوشكين وروايات ومسرحيات جوجول وتولستوي وسالتيكوف-شيدرين وتشيخوف وجوركي وبلوك وبونين وغيرهم، أضافة إلى أعمال الادباء والشعراء المبدعين حقا في الفترة السوفيتية ومنهم اندريه بلاتونوف. أما المترجم منها فهو بشكل بائس في غالب الاحيان ويشكل إهانة للكاتب نفسه. وقد تستثنى من ذلك تراجم الأديب السوري سامي الدروبي لبعض أعمال دوستويفسكي وتولستوي، والتي نقلت الى العربية عن الفرنسية بإسلوب المترجم الرفيع وأمانته في النقل. ونشير الى ان دار “التقدم ” السوفيتية كانت تنشر تراجم أعمال الادباء الذين وجدوا الدعم لدى السلطات الحزبية وجلهم من ادباء المرتبة الثانية والثالثة الذين لا يمكن القول انهم تركوا أثرا في تأريخ الادب الروسي مثل اناتولي ريباكوف وايليا اهرنبورغ. ولا يعرف القارئ العربي الشعر الروسي لأنه لم يترجم، وصدق الجاحظ حين قال ان ” الشعر لا يترجم ” أصلا. لكن الشعر الروسي ترجم مع ذلك الى اللغات الأخرى من قبل شعراء موهوبين أفلحوا في ذلك لحد كبير. علما ان شعراءنا الكبار لم يهتموا بالترجمة إلا فيما ندر. وترك الأمر الى المترجمين العاديين الذين تعوزهم الموهبة في النظم، وشوهوا أحيانا حتى المعاني الاصلية لقصائد الشعراء الروس بسبب عدم اتقانهم للغة الروسية. والامثلة كثيرة على ذلك ولا مجال لبحثها هنا الآن. ولم تترجم أعمال بلاتونوف، احد أبرز كتاب روسيا في القرن العشرين، على نطاق واسع ولا يعرف في العالم العربي.
في عام 1918 كتب شاعر روسيا الكبير الكسندر بلوك بعد قيام ثورة أكتوبر 1917 يقول ان “هناك الملايين في روسيا الذين ما زالوا ” غير متنورين ” وما زالوا ” جهلة “…. ولكن تكمن فيهم قوى ابداعية ما زالت في حال سبات، ويمكن ان يقول هؤلاء في المستقبل ما لم يقله حتى الآن أدبنا المكتوب المنهك والراكد..”. ويبدو ان الادباء والشعراء الذين أفرزتهم ثورة اكتوبر الاشتراكية قد تولوا مهمة قول ما لم يستطع قوله ادباء روسيا من قبل. فقد فجرت فترة التغيير التي واكبت الاعوام الاولى لقيام الثورة طاقات كامنة وظهرت مدارس وتيارات لم يكن لها شأن من قبل، وحاول ممثلوها التكيف مع شعارات الثورة وايديولوجيتها، ولكن هذا كان من باب المستحيلات طبعا. لأن هدف الحزب الشيوعي كان المجئ الى السلطة، في حين إن هدف الادب والفنون هو معرفي ، كما قال فناننا الكبير محمود صبري. وبينما كان الادباء والفنانون الشباب يسعون الى خلق أعمال ابداعية جديدة تجسد واقع المجتمع، كانت السلطة السوفيتية الجديدة تطالبهم بأن تخدم أعمالهم أهداف ومهام الحزب الآنية. وقد أوضح لينين ذلك في أقواله حول وضع الادب والفن في خدمة ثورة البروليتاريا وأكدها اناتولي لوناتشارسكي أول وزير ثقافة (مفوض الشعب) سوفيتي في مقالته الطويلة المنشورة بعد الثورة بعنوان ” الفن والثورة “. علما ان لينين – وهو من انصار الحلول الوسط – نفسه أكد في مقالته “حول الثقافة البروليتارية” في عام 1920 ” ان الماركسية لم تستغن عن أثمن مكتسبات العهد البرجوازي، بل بالعكس ، فقد استوعبت وعالجت كل ما كان ذا قيمة خلال أكثر من ألفي عام من تطور الفكر والثقافة البشريين” . كما انه رفض واعتبرها بمثابة “توجهات خاطئة” نظريا وضارة عمليا ” كل المحاولات لاستحداث ثقافة خاصة بنا (المقصود – الثقافة البروليتارية- ملاحظة الكاتب).. والانغلاق في المنظمات المستحدثة .. وايجاد استقلال ذاتي لهيئة “البروليت كولت” داخل مؤسسات مفوضية الشعب للتعليم ..”. ويبدو ان البلاشفة نسوا بعد وفاة لينين وصيته هذه ومضوا في الطريق المعاكس تماما.
وحاول البعض في فترة النهوض الثوري تقديم الخدمات الى السلطة الجديدة مثل الشاعر الكسندر بلوك في قصيدته ” الاثنا عشر”، ومن ثم فلاديمير ماياكوفسكي في أشعاره الثورية الملتهبة ضد البرجوازية والامبريالية واندريه بلاتونوف في اعماله المبكرة حول بناء مجتمع الشيوعية في روسيا. كما حاول المسرحي فسيفولود مييرهولد (مدير قسم المسرح في وزارة الثقافة) والسينمائي سيرغي ايزنشتين تحويل اعمالهم الابداعية الى مجرى الدعاية للسلطة السوفيتية، واعتبروا ذلك أمرا لا بد منه في الظروف المؤقتة لبناء الدولة السوفيتية. وقد نشرت في العشرينيات اعمال خالدة منها رواية ” الدون الهادئ” لشولوخوف ورواية ” الحرس الابيض” لبولغاكوف، لكن هذا لم يستمر الا خلال مرحلة معينة، أي في مرحلة الحرب الاهلية وتعرض النظام الى الخطر الخارجي وانشغال السلطة بتصفية نفوذ البرجوازية والتدخل الاجنبي. وكان لابد ان يعود المبدعون الى ممارسة عملهم الاصلي أي ” المعرفي”. وقد اثبتت صواب ذلك أحداث السنوات اللاحقة التي شهدت موت بلوك الفاجع وانتحار ماياكوفسكي ويسينين وتسفيتايفا وفادييف رئيس اتحاد الكتاب السوفيت واعدام مييرهولد ومجموعة أخرى من المبدعين وزج الالاف فى المعتقلات في سيبيريا وفي شمال اقصى البلاد ومنهم الكسندر سولجينيتسين الحائز على جائزة نوبل، بينما فرض الحظر على نشر أعمال الكثير من الكتاب والفنانين السوفيت لانها لا تتفق مع سياسة الحزب. وهكذا وجد المبدعون الثوريون ان هذه الثورة لم تعد ثورتهم. وحتى اولئك الذين حاولوا مماشاة السلطة الحزبية بكتابة الاعمال وتعديلها مرارا لكي ترضى عنها قيادات الحزب، فإنهم أرغموا في نهاية المطاف على التوقف عن الابداع وممارسة أعمال أخرى. فاضطرت آنا اخماتوفا وكورنيه تشوكوفسكي وتسفيتايفا وباسترناك وغيرهم الى الانصراف الى الترجمة والتعليم دون التأليف.
لقد كان الحزب غارقا بعد وفاة لينين في الصراعات الداخلية على السلطة وحاولت كل فئة اعطاء تفسيرات للماركسية يناسب مصالحها في أخذ السلطة. وكان قادة البلاشفة الباقون– حيث قتل في العشرينيات البلاشفة الثوريون والمتنورون الواحد تلو الآخر في الحرب الأهلية والاغتيالات أو بسبب المرض بعد سنوات السجن والنفي الطويلة في العهد القيصري – قد نسوا في هذه المعمعة أهداف الثورة الاصلية مثل “السلام للأكواخ والحرب على القصور” والمصانع للعمال والارض للفلاحين وإعادة الجنود الى عوائلهم ، وإنشغل هؤلاء الباقون في تصفية بعضهم البعض حتى انتصر فريق يوسف ستالين الذي انفرد بالسلطة لوحده فيما بعد، وحدث ما حدث من مآس وأرزاء دفع ثمنها الشعب الروسي بصورة أساسية، ووقعت نكبة انهيار الدولة الاشتراكية في مطلع التسعينيات والتي عقدت عليها آمال كبار . اذ لم يحصل الفلاحون على الارض ووضعت المصانع تحت اشراف البيروقراطية الحزبية ولخدمة أهدافها وانشغلت البلاد في الحرب الاهلية ومن ثم الحرب العالمية الثانية و”الحرب الباردة”، ولعل اخطر شئ هو نشوء البيروقراطية الحزبية التي أعاقت حركة التقدم. وهكذا انتهت اعظم ثورة أشتراكية في القرن العشرين بإقامة نظام شمولي لم يفكر البلاشفة الاوائل به البتة.
وقد أشار الباحث الاجتماعي الروسي البروفيسور بيتيريم سوروكين الى ان التطور الاجتماعي لا يمكن تحقيقه بمراسيم صادرة من قيادة عليا ، ولابد من توفر القاعدة له سواء الاقتصادية أم الاجتماعية أم الثقافية . والمواطن لا يمكن ان يصبح قادرا على العيش في مجتمع أعلى مرتبة بدون توفر المعارف الثقافية والسلوك المتحضر لديه. ولكن ستالين الجورجي الذي كان نفسه يفتقر الى الثقافة العالية وينظر الى الامور وفق “قواعد السلوك القوقازية” ، حيث تحل كافة المشاكل بإستخدام القوة وبالاكراه، اعتقد ان بناء المجتمع الاشتراكي يتم عبر معسكرات الاعتقال التي ابتكرها عدوه اللدود اليهودي ليف تروتسكي في مطلع العشرينات من أجل توفير الايدي العاملة المجانية وأدخل اليها جميع البرجوازيين الذين شيدوا المشاريع الكبرى في الاقتصاد السوفيتي في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين مثل المحطة الكهرمائية على نهر الدنيبر وقناة ” بيلوموركانال” ومصانع الميتالورجيا. أما في المجال الثقافي فأراد تسيير الامور في هذا المنحى أيضا.
* * *
ولد اندريه بلاتونوفيتش كليمنتوف ولقبه المستعار ” بلاتونوف ” في 28 آب عام 1899 في بلدة يامسكايا سلوبودا بمحافظة فورونيج في عائلة عامل سكك حديدية، ومارس نفسه العمل منذ سن 16 عاما في احدى محطات القطار. ولهذا كان يفتخر دوما بأصله البروليتاري وتجسد ذلك في أشعاره المنشورة آنذاك.وعاشت الاسرة في بيت مستأجر حيث كان الاطفال ينامون على الارض سوية تحت لحاف واحد بعد تناول وجبة عشاء تتألف من الخبز الاسود يرش عليه الملح لأكسابه مذاقا خاصا والشاي المصنوع من الجزر المجفف.وهكذا عرف اندريه معنى الفقر منذ نعومة أظفاره وكتب عنه في قصصه المبكرة التي كانت في الواقع تصويرا صادقا لأيام الطفولة. وحصل الصبي على التعليم الابتدائي في مدرسة تابعة للكنيسة ، لكنه اضطر لترك المدرسة بعد اختتام المرحلة المتوسطة في عام 1914 ، وكان قد بلغ سن الخامسة عشرة ، من أجل العمل لكسب الرزق فعمل بمهنة خراط في معامل السكك الحديدية حيث عمل والده على مدى 40 عاما ، وبعد ذلك انتقل للعمل في مصنع للأنابيب بإختصاص سباك. وروى لاحقا في قصة ” سريوجا وأنا ” صعوبة العمل في ورش المصنع ” حيث يصبح البشر رغم أنفهم ” مغتاضين ينفجرون لأي سبب”. وعندما قامت الثورة في اكتوبر عام 1917 رحب أندريه بها بحماس وانخرط في العمل الثوري. وفي عام 1918 إلتحق بمعهد السكك الحديدية بمدينة فورونيج بغية الحصول على شهادة مهندس ميكانيكي. وفي عام 1920 قدم طلبا للانضمام الى الحزب البلشفي.
كان بلاتونوف يكره الحرب ووقف ضد الحرب العالمية الاولى بإعتبارها حربا امبريالية يصبح الجنود أبناء الفقراء فيها لحوما للمدافع. ولم يغير موقفه من الحرب لاحقا حين عمل في جبهات الحرب العالمية الثانية مراسلا حربيا. فإن مجرد ان يقتل الانسان اخيه الانسان مهما كانت جنسيته يعتبر برأيه عملا وحشيا. وكتب في إحدى قصصه المبكرة ” يامسكايا سلوبودا” يقول على لسان أحد أبطالها:” ليست هناك أية بطولة وأي مبررات للقتل .. ان الحمقى – الشياطين يريقون الدماء هناك…”. ولم يلتحق اندريه بالجيش في عام 1914 بل نسب للعمل في قاطرة كمساعد سائق ومن ثم انقذته الثورة من الذهاب الى الجبهة. وكتب يقول : ان الثورة هي قاطرة التاريخ ، وتحولت لدي الى شعور غريب وطيب .. وفيما بعد كانت لفظة القاطرة تولد لدي الاحساس بالثورة.
وقد تزامنت الثورة والحرب الاهلية في روسيا في الفترة حين تتجاوب روح الانسان بكل حدة ورهافة مع الاحداث الجارية حوله. وكتب بلاتونوف لاحقا في قصة ” افروديت”: ” سيأتي زمن سعيد حين يتطابق التطور التأريخي للعالم لدى الناس مع حركة قلوبهم”. وقد تجاوب بلاتونوف مع الاحداث الثورية وأمن بأن المستقبل سيكون نيرا ، وهو في هذا يختلف مع معاصريه من الكتاب مثل بونين وبريشفين وبولغاكوف والكسي تولستوي وغيرهم الذين لم يجدوا في البداية فيما جرى بروسيا من أحداث أي شئ “موسيقي” فهناك فقط الدم والقسوة والظلم وأعتبروا ذلك مأساة وكارثة ، ولو أن بعضهم قد غير رأيه لاحقا.
وفي كافة الاحوال فان الثورة مارست دورا مغايرا في مصير بلاتونوف حيث كتب في وصفها يقول : انها ” حولتني في لحظة خاطفة من طفل الى رجل بالغ دون المرور بمرحلة الصبا. وقبل الثورة كنت صبيا وبعدها لم يتوفر المجال لكي أصبح فتى ، ولم يتوفر الوقت لذلك ، ووجب علي ان اصبح رجلا عبوسا وأن اكافح.. “..” آنذاك كنت في مفترق طرق – التأريخ والحياة الشخصية: فقد بلغت سن 19 عاما أي بعمر القرن العشرين يومئذ، وقد ولدت مع ولادة قرني الذي ينمو مع نمو الانسان – وكانت تغمرني قوة وعنفوان الفتوة وحدة المصير الشخصي ، بينما تجري الثورة في الوقت نفسه في العالم “.
وبدأ نشاط بلاتونوف الابداعي من نظم الشعر ، وأرسل قصائده المبكرة في عامي 1914 و1915 الى احدى المجلات الادبية في بطرسبورغ التي لم تنشرها لكن المؤلف تلقى رسائل تشجيع له على مواصلة التأليف لأنه يتمتع بموهبة. لكنه قوبل بالترحاب في الاوساط الادبية بإعتباره شاعرا وكاتبا نبع من رحم البروليتاريا ، وتنبأ له الجميع بمستقبل باهر. وفي عام 1918 نشر أولى قصصه ” القرط” ثم نشرت في العام نفسه قصيدته ” الى فتى – بروليتاري” في مجلة ” الظلال”، التي دعا الكاتب فيها الشباب الى تجنب الغلو في العواطف والإكثار من التأمل واحكام العقل. ومن ثم نشرت عدة قصائد أخرى بروح الثورة البلشفية. لكن يعرف بلاتونوف الآن بصفته ناثرا أكثر منه شاعرا، لا سيما ان النقاد لم يرحبوا بالافكار والصور الشعرية التي تميل الى الرمزية في قصائده وأتهموه بالانضمام الى المستقبليين.ويبدو ان إلهة الشعر لم تكن تلازمه دائما. ونشر بلاتونوف (في عام 1919) مقالته الى ” الشعراء والكتاب البروليتاريين المبتدئين ” التي أشار فيها الى ان الثورة في مجال الفن هي” جزء من ثورة الروح التي يضرم فيها البروليتاري النار في جسد البرجوازية وفنها الميت ويزيل من وجه الارض البشاعة والشر والماضي والحقارة والبشاعة المعادية للحياة ويطهر المكان من اجل بناء صرح كل ما هو جميل وخير. وستبدأ بعد مرحلة الهدم مرحلة البناء”.
في يوليو عام 1919 أرسل بلاتونوف في مهمة حزبية الى بلدة نوفوخوبيرسك من أجل الدعاية للنظام السوفيتي الجديد والدعوة الى غزو الكرة الارضية بأسرها لنشر الشيوعية وتمجيد الكمسمول ( منظمة الشبيبة الشيوعية) والجيش الاحمر الباسل. ووجب عليه العمل هناك وسط البراري المجدبة في الصيف وحيث نشطت فصائل الحرس الابيض المعادية. وتركت هذه الرحلة انطباعا بالغا في نفسه حيث كان الناس لا يفهمون أقواله ودعواته لصالح الثورة ، وكان جل همهم ينصب على البحث عن القوت وليس على سماع الدعاية الايديولوجية. وقد انعكست أحداث تلك الفترة لاحقا في روايته الكبيرة ” تشيفينغور”. ويلاحظ في تلك الفترة رفض بلاتونوف لفكرة الحب واعتباره مضيعة للوقت في زمن الثورة ، وانكاره للدين وتأثره بأفكار نيتشه في هذا المضمار( في كتاب” هكذا تكلم زرادشت”). وكتب في مقالته ” أكتوبر المستقبل ” يقول:” ان المجتمع الشيوعي يتألف في غالبيته من الرجال.. أما مساواة الرجل بالمرأة فهو من الآعمال الخيرة للإشتراكيين ، وليست حقيقة – ولن تكون هذه المساواة حقيقة أبدا. وحان الوقت لمعالجة هذه القضية نهائيا. ان البشرية – رجالية ، وليست تجسيدا للجنس – المرأة ” . ولا يعرف سبب موقف بلاتونوف آنذاك من المرأة ولماذا وقف هذا الموقف منها ، والذي تغير لاحقا حين وقع في غرام أمرأة اصبحت زوجته المتيم بها حبا. ويبدو انه تأثر في شبابه بالفيلسوف الروسي نيقولاي فيودوروف الناسك الذي لم يعرف المرأة في حياته وقد لعب دوره في تشكيل افكار بلاتونوف حول المرأة. وتوجد في اعمال بلاتونوف مشاهد كثيرة تصور موقف ومعاناة ابطاله من الحاجة الطبيعية الى الجنس والتي كان يعتبرها من مظاهر البرجوازية. طبعا ان الكاتب غيّر مواقفه من المرأة كليا فيما بعد ، حين طرأ تغير على موقفه من الثورة ومستقبل البشرية في ظل الاشتراكية أيضا.
لقد اتسمت جميع أعمال بلاتونوف برؤية للعالم يسودها الخوف، وانتظار وقوع الكارثة. وغالبا ما يلقى ابطاله حتفهم في نهاية القصة او الرواية. وهذا ما كان يولد الاستنكار والغضب لدى المسؤولين عن الثقافة في الحزب.وعندما نشر قصته “تشوديك ويبيشكا” في صحيفة ” جيش العمل” في مدينته فورونيج، والتي وصف فيها موقف الناس من حريق شب في القرية وموت طفلة البطل ثم انتحاره نفسه، انهال عليه النقاد بالتجريح لكونه لا يصور سوى الجانب القاتم من الحياة ويتناسى الجمال. وقد رد عليهم بالقول :عن أي جمال تتحدثون ” إنني مشيت فوق الارض طوال عشرين عاما ولم ألتق الجمال ” الخالص” الذي تشيرون اليه”. إنني لم اقع في ضلال في هذا المضمار بل انني ابحث عن عالم افضل… وسيكون القيام بذلك من المواقع العمالية وفي دولة العمال بشكل مريح أكثر. وكان يردد قول بوشكين:
انني اقرأ سفر حياتي بنفور وازدراء ،
وارتعش واوجه اللعنات ،
وأطلق الشكوى بمرارة واذرف الدموع بمرارة ،
لكنني لن أزيل بها سطوري الحزينة.
وحالف الحظ بلاتونوف(كليمنتوف) حين تعرف على غيورغي ليتفين – مولوتوف المسؤول الحزبي رئيس تحرير صحيفة “فورونيجسكايا بيدناتا” (فقراء فورنيج)، الذي وثق بموهبة بلاتونوف الادبية وساعد على نشر أعماله المبكرة. وارتبط الرجلان بعلاقة صداقة حميمة نظرا لتقارب افكارهما وحبهما للفلسفة وعلم النفس. وفيما بعد دعا مولوتوف بلاتونوف للعمل معه في صحيفة ” فورنيجسكايا كومونا”، التي ترأس تحريرها فيما بعد. كما انضم بلاتونوف العامل – الصحفي الى الاتحاد الشيوعي للصحفيين في المدينة. وساعده ليتفين- مولوتوف على نشر أول كتاب صغير له بعنوان” الكهربة”، الذي أيد فيه برنامج كهربة البلاد بإعتباره السبيل الوحيد لانقاذ البلاد من التخلف والفقر والخراب. وقد كتب بلاتونوف الكتيب تحت تأثير خطاب كرجيجانوفسكي رئيس لجنة الدول لكهربة الاتحاد السوفيتي في مؤتمر سوفيتات عموم روسيا حول خطة كهربة البلاد ” غويلرو” التي اعتبرها بلاتونوف أهم مهمة تواجه الاقتصاد السوفيتي وتنقذ البلاد من الجوع والبرد والفاقة ، والأهم بناء المجتمع الشيوعي. وعندما حاول نشر كتابه في موسكو قوبل بالرفض بسبب ” ان الكاتب استخدم اسلوب طلاب المدارس الكنسية وارتكب الهفوات النحوية وهلمجرا..”. وبالرغمك من ذلك قبل بلوتونوف كمرشح لعضوية الحزب الشيوعي الروسي(البلشفي) في عام 1920 بترشيح من رفيقه ليتفين- مولوتوف الذي كتب في طلب الترشيح :” ان بلاتونوف عامل وبرليتاري شاب، انه بروليتاري ليس فقط بالانتماء الى طبقة معينة، بل هو بروليتاري في الروح، وبروليتاري مثقف. ويعرف ماركس حيث اطلع على أعماله الرئيسية “…وأنا اتحمل المسئولية السياسية عن انضمام بلاتونوف العامل – الشاعر والفيلسوف الى الحزب الشيوعي الروسي”. ولكن فترة الانتماء الى الحزب والتعلق بالاصل البروليتاري لدى الكاتب لم تدم طويلا. فإن بلاتونوف ولج عالم الأدب واضعا أمامه مهمة ان يكون صادقا مع ذاته في حمل الرسالة الابداعية. ولا يعرف بالذات سبب القطيعة مع الحزب لاحقا، وقد حدث ذلك لدى نقله الى كراسنودار في عام 1921 بمهمة حزبية. لكن يبدو انه إنضم الى حزب ثوري، ولكنه وجد نفسه في حزب آخر تسوده البيروقراطية.
إن احد الاحداث المهمة التي أثرت في حياة الكاتب هي كارثة الجفاف والجوع في مناطق الفولجا. وكان بلاتونوف على رأس المتطوعين في تقديم أعمال الاغاثة لسكان المناطق المنكوبة. وتوجه في الصحف بنداء الى “انقاذ الملايين من اخواننا الفلاحين الروس الذين يهلكون بسبب الجوع”. وقال “ان الجياع بحاجة الى الدعم وليس الى الكلام والبيانات … فالكلمة الحلوة لن تطعم الجائع”. وربما ان هذا الحدث بالذات هو ما جعل الكاتب يتحول الى العمل كمهندس اصلاح زراعي، وقام ببناء محطات لتوليد الكهرباء في المناطق الريفية. وواصل هذا العمل على مدى ست سنوات لم ينس خلالها الشعر والكتابة حيث لم يتوفر لديه الوقت لذلك. وبالرغم من ان بلاتونوف اصبح مهندسا مختصا بالاصلاح الزراعي وانشغل ببناء السدود ومحطات توليد الكهرباء، فان الأدب اصبح جزءا لا يتجزأ من حياته. انه مثل تشيخوف الذي قال :”ان الطب زوجتي والأدب عشقيتي”. و كتب يومذاك :”لنكن ابطالا في العمل والفكر والنضال. ولنكن نحن البشرية كلها وليس الافراد المتفرقين في الواقع”.
وعارض بلاتونوف العبارة التي وردت في الكتاب المقدس “في البداية كانت الكلمة”، واستبدلها بعبارة “في البداية كان العمل”. وفي تلك الايام قرر الكاتب الخروج من الحزب البلشفي بعد ان شاهد عجز النظام عن منع وقوع المأساة في مناطق الفولغا لإنشغال الموظفين الحزبيين في معالجة الشئون البيروقراطية اليومية وإهمال الآم الناس. كما وجد ان المنظمات الحزبية تنفق الكثير من الوقت في الثرثرة بلا طائل بينما كان هو يتطلع الى العمل والتغيير العاجل وكهربة البلاد ولاسيما القرى. وكتب آنذاك يقول :” ان السلطة السوفيتية هي مرحلة فقط في الطريق الى الشيوعية. وقريبا ستنتقل السلطة الى الجماهير مباشرة دون المرور بوسطاء .. نحن نقف عشية زحف الجماهير، الجماهير نفسها، بدون وسطاء، بدون احزاب، بدون شعارات”. أي العودة الى فكرة ماركس حول الدولة الشيوعية. وعبر بلاتونوف مثل غيره من المثقفين الثوريين آنذاك عن خيبة الأمل من الحزب بعد كارثة الجوع التي حصدت أرواح 25 مليون انسان. علما ان السلطات الرسمية حاولت بكل السبل تغطية ما حدث ولم تنشر الصحف الا النزر اليسير عن واقع الحال في المناطق المنكوبة، ومنعت الحديث عن هذا اصلا واعتبرته تخريبا. لكنه لم يفقد الأمل في اصلاح النظام نهائيا، وإلتحق في صيف عام 1921 بالدورات الدراسية في الجامعة الشيوعية للعمال والفلاحين في محافظة فورونيج. وأعرب في هذه الفترة عن عدم رضاه عن الوضع في الحزب فكتب مقالة بعنوان “المستقبل للشيوعي” دعا فيها الى تطهير الحزب من “عناصر اصحاب الدكاكين”، وكذلك الى العناية بالحياة المعيشية للشيوعيين للحؤول دون هبوط مستواهم جسديا ومعنويا. و”هذا من مصلحة الحزب والبشرية كلها”. وقال أيضا: “اذا اردنا الشيوعية فيجب القضاء على البرجوازية، والقضاء عليها ليس ايديولوجيا بل جسديا، وعدم قبول توبتها حتى اذا ما طلبت المغفرة واستسلمت افرادا وجماعات. فهي بالرغم من كل شئ عدوة لنا شاءت أم أبت”. ويتبين من ذلك ان بلاتونوف بقي وفيا للفكرة الثورية التي جعلته يؤيد البلاشفة منذ اليوم الاول لاندلاع الثورة، ويرفض فكرة بناء الشيوعية في بلد واحد والدعوة الى الثورة في الكوكب بأسره. لكنه كان يريد ان يرى ثمرة تحول المجتمع الثوري في حياة الناس العاديين وليس في الخطب والشعارات والدعاية الحزبية. وفي الواقع انه تراجع عن افكاره الثورية تدريجيا.
قرر بلاتونوف بعد هذا العمل في الريف، وإلتحق في عام 1922 بلجنة الاصلاح الزراعي. وهناك عاش حتى عام 1926 مع الفلاحين الذين وجهت اليهم الثورة اشد ضربة بعد فرض نظام الكولخوزات (المزارع التعاونية ) ومصادرة الغلال والماشية منهم. واستمد من حياة الفلاحين مواضيع عدة قصص مثل “مدينة غرادوف ” و” ماكار المتشكك” و” البقرة” وغيرها التي وجهت اليها انتقادات شديدة في الصحافة الحزبية. وشهد الكاتب أيضا كيف كان يجري تخريب منشآت الاصلاح الزراعي واحراق محطات توليد الكهرباء الصغيرة التي شيدت بإشرافه. وقد كتب عن هذا كله في قصصه المبكرة. كما انعكس هذا في ديوانه الشعري “العمق الازرق” المنشور في عام 1922 وفي القصص” شيطان الفكر” و”مغامرات باغلاجانوف ” و” دانيلوك” و” ابناء الشمس” التي تعكس تراجع الكاتب عن الحماس الثوري.
في عام 1923 تعرف بلاتونوف على الحياة الادبية في موسكو في احدى زياراته لها، ونشر لاحقا عدة مقالات نقدية تتسم بالنزعة “المتياسرة” المتشددة حيال اعمال الكسي تولستوي وخوداسيفيتش وأندريه بيلي وغيرهم من معاصريه كشفت موهبته كناقد ادبي. كما شارك في مسابقة ادبية نظمتها مجلة “كراسنايا نيفا” في عام 1924 بإرسال قصته ” بوتشيلو”. واعتبرتها اللجنة واحدة من افضل عشرة قصص مشاركة في المسابقة. وتتحدث القصة عن مصير رجل بعد الثورة وصلابة مواقفه وشعوره بالوحدة والتيتم لدى عمله كحارس بعد عودته من جبهات الحرب الاهلية. وبالنسبة له سواء كانت هناك ثورة ام لم تكن، إلا أن حياته ذهبت سدى مع الريح. وكانت هذه القصة أول نصر ادبي حققه بلاتونوف الشاب في العاصمة. وفيما بعد ذكر الكاتب شكلوفسكي ” ان بلاتونوف كاتب كبير لكن الوسط الادبي لن يهتم به، لأنه لن يجد مكانا له في الصناديق التي يحفظ فيها الادب. ان الطريق لادراك حقيقة روسيا شاق. وكان بلاتونوف يعرف جميع الاحجار والمنعطفات فيه. ونحن جميعا قد اذنبنا في حقه…وأعتقد انه كان يحتاج الى قارئ آخر”.
وكتب بلاتونوف في اواسط العشرينيات قصة بعنوان ” انتي سيكسوس”، تناول فيها مشكلة الجنس لدى البشر. علما ان هذه القصة الفلسفية التي كتبت في عام 1925 أو 1926 تظهر موقف الكاتب من الغريزة الاساسية للانسان والجهد الكبير الذي يبذله من اجل التحكم بها. وكان الكاتب في فترة شبابه المبكر قد وصف العلاقة الجنسية بأنها ” ضد الثورة” ويجب عدم الانجرار الى رغباتها ولو ان الجنس البشري سينقرض بدونها. لكن الكاتب اكسب قصته مغزى آخر هو الاحتجاج على الابتذال البشري الشامل، وتحويل كل شئ في الدنيا الى سلعة تباع وتشترى، ومنها الجنس.
في شباط عام 1926 انتخب بلاتونوف بموسكو عضوا في اللجنة المركزية لاتحاد الزراعة وشئون الغابات تقديرا لانجازاته في مجال استصلاح الاراضي، ومنها انشاء بحيرة اصطناعية وحفر 315 بئرا وتجفيف مساحة 7600 ديسياتنا (قياس يعادل أكثر من الهكتار) من الاراضي وارواء 30 ديسياتينا وبناء 3 محطات لتوليد الكهرباء وكذلك الجسور والسدود وشق الطرق وغيرها من الاعمال التي يبدو ان لاعلاقة لها بالادب. ولكن في الواقع ان بلاتونوف استمد جميع مواد قصصه ورواياته من حياة الناس في هذه الميادين. ولم يبق الكاتب في موسكو طويلا، وانسحب من اللجنة المركزية بعد عدة اسابيع لأنه كان”مبدئيا” جدا في موضوع التمسك بالديمقراطية، علاوة على مشكلة توفير المسكن له وعدم استلامه الراتب بانتظام مما جعله يبيع كتبه حين مرض ابنه ووجب توفير الطعام والعلاج له. وبلغ به الأمر حتى التفكير بالانتحار عندما طالبه المسئولون بإفراغ الغرفة التي يسكنها مع عائلته في القسم الداخلي التابع للاتحاد.
وقد أفاده وجوده في موسكو في التقرب من الاوساط الادبية. فقد كان ولعه بالكتابة اقوى من العمل في اصلاح الاراضي. وكتب في عام 1926 مقالة ساخرة حول الوضع في الاوساط الادبية بعنوان “مصنع الادب” تناول فيها ما يجري في اتحاد الكتاب السوفيت. واشار في المقالة الى ان وتيرة الحياة تمضي بسرعة ولا يلحق بها الكتاب الذين يحاولون دخول معمعتها. ودعا الكاتب الى استعمال اللغة الحية المنتزعة من افواه الناس وعدم تكرار الصيغ الجاهزة المأخوذة من الكتب القديمة. وطرح الكاتب بين الجد والهزل استحداث مكتب يوزع المهام بين الكتاب والنقاد والاداريين في لنتاج العمل الادبي.
يورد الباحثون عدة أعمال روائية باعتبارها من أفضل ما أنتجته قريحة بلاتونوف، وجلبت له الشهرة بعد وفاته بكونه احد اعمدة الادب السوفيتي الروسي، وهي “الحفرة” و”بحر الصبا” و”تشيفينغور” و”موسكفا السعيدة” و “الجن”(الاشباح).
تتناول رواية “تشيفينغور”(والكلمة هي تصغير لتسمية “منطقة طوارئ عسكرية محصنة وبطولية (مستقلة) لاتقهر ورمزا الى انها مركز الكون)، فترة مجاعة وقحط استغرقت خمسة اعوام في الاتحاد السوفيتي، حين نزح الناس الى الغابات والمدن بحثا عن الطعام بينما بقي زخار بافلوفيتش بطل الرواية وحيدا في القرية، فقد كان بدون أسرة ومسكن. وحدث مرة ان سمع ليلا صوت قاطرة قادمة من بعيد وسط ضجيج المطر الذي طال انتظاره. وفي الصباح جمع حاجياته وتوجه الى المدينة حيث افلح في ايجاد عمل في مرآب القطارات وقرر البقاء في المدينة.
وفي اسرة بروخر دفانوف أحد ابطال الرواية الذي وُلد له ستة عشر طفلا، لم يبق منهم على قيد الحياة سوى سبعة. ووجد طفل ثامن تبناه الوالدان وهو ساشا ابن صياد سمك غرق في النهر عندما دفعه الفضول الى ملاقاة الموت لمعرفة ما يحدث للانسان بعد ان يفارق الحياة. وساشا قرين احد الاولاد في الاسرة واسمه بروشكا. وعندما ولدت الام في عام الجفاف توأمين، صنع بروخر كيسا واعطاه الى ساشا من اجل الذهاب الى الشارع والتسول. وقال بروخر لدى دخوله الى البيت لزوجته واطفاله :” كلنا همج وانذال”. أما الصبي ساشكا فتوجه الى قبر ابيه في المقبرة من أجل توديعه، وفكر بانه حالما يجمع ملء كيس من الخبز سيحفر قبوا الى جانب قبر والده لكي يقطن هناك ما دام لا يوجد لديه بيت.
أما صاحبنا زخار فقد طلب من بروشكا البحث عن ساشكا مقابل روبل لكي يتبناه ويأخذه الى بيته، فقد كان يحب الاطفال علاوة على انه كان وحيدا وبلا أسرة. وتم العثور على ساشا وتبناه زخار وشب الفتى ذكيا، والتحق بالعمل متدربا في مرآب القطارات. وكان في الامسيات يقضي طوال الوقت في المطالعة ومن ثم بالكتابة. بيد أنه شعر بالخواء الروحي وان الحياة تمضي عبثا. وكان زخار يحاول طمأنته ويدعوه الى ان لا يعذب نفسه بالتأملات هذه. ونشبت الحرب واعقبتها الثورة. وفي احدى ليالي اكتوبر قال زخار مخاطبا ساشا حين سمع صوت اطلاق الرصاص في الشارع:” هاهم الحمقى يستولون على السلطة، ربما ستغدو الحياة أكثر عقلانية”. وفي الصباح توجها الى المدينة للبحث عن الحزب المناسب والاكثر أهمية من أجل الانضمام اليه. وتوجها الى دار البلدية حيث توجد مكاتب الاحزاب وصار زخار يختار الحزب المناسب. لكنه لم يجد أحدا يتحدث معه. واخيرا وجد في نهاية الرواق وفي الباب شخصا جالسا أخبره ان الجميع توجهوا للاستيلاء على السلطة. وقريبا ستنتهي القصة وستطبق الاشتراكية بعد عام واليوم يجري التعامل مع المؤسسات فقط. وطلب زخار تسجيلهما في الحزب. وفي البيت صار زخار يشرح لأبنه بقوله:” يجب ان يكون البلشفي فارغ القلب بغية ان يأوي الجميع فيه”. وبعد نصف عام إلتحق ساشا بدورة لعمال السكك الحديدية ومن ثم إلتحق بمعهد البوليتكنيك. لكنه لم يكمل الدراسة فقد قرر الحزب ارساله الى جبهات الحرب الاهلية… الى مدينة نائية وسط البراري. وسافر الى هناك لكن سرعان ما جاءت برقية من المركز لتكليفه بمهمة في مدينته، وكان طريق العودة شاقا جدا. وعندما رجع الى بيته اصيب بمرض التيفوئيد. وفقد والده الأمل في شفائه وصنع نعشا له في انتظار موته. لكنه شفي من المرض بعد عدة اسابيع . وزارته الجارة صونيا. وفكر الآب في ان النعش يجب تحويله الى مهد للطفل، فلا بد ان يتزوج ابنه من صونيا ان عاجلا او اجلا.
وتم تكليف ساشا بمهمة حزبية أخرى هي التجول في ارجاء المحافظة ” للبحث عن الشيوعية … بين السكان القادرين على العمل”. فيقع في قبضة الفوضويين، لكن فصيلة من الحرس الاحمر تنقذه ويتعرف على قائدها كوبينكين الذي يخبره انه يحارب فقط إكراماً للثائرة الشيوعية الالمانية روزا لوكسمبورغ التي يكن لها مشاعر المودة. وتعرف في اثناء الجولات على تشيبورين رئيس اللجنة الثورية في ميدنة تشيفينغور حيث توجد حسب قوله الاشتراكية الحقيقية. ويقرر ساشا الذهاب الى مدينة الاحلام هذه. فوجد ان أهالي المدينة يستيقظون في وقت متأخر عند الضحى من اجل الراحة، فهم يستحقون ذلك بعد قرون من الاضطهاد والمعاناة. وعندما يسأل عن عمل الناس في المدينة قال تشيبورين له انهم يعالجون “روح الانسان” وهذه مهنتهم الرئيسية. اما المنتوج فهو الصداقة والروح الرفاقية. وقال أيضا انه يجب الا يكون كل شئ جيدا في المدينة، فلا بد ان يعاني الناس من شئ من المحنة. فالشيوعية يجب ان تكون ذات مرارة لكي يكون مذاقها طيبا. ويتم تشكيل لجنة طوارئ تعد قائمة باسماء البرجوازيين الباقين بعد الثورة. بينما يتولى رجال جهاز الامن اعدامهم والتخلص منهم. وبعد اطلاق النار عليهم يقول تشيبورين :” الآن سيكون كل شئ على مايرام “، ويطلب من زوجات البرجوازيين القتلي البكاء. ثم ينصرف نفسه للنوم بعد يوم من العمل المضني. علما ان كوبينكين قائد فصيلة الحرس الأحمر لا يشعر مع هذا وبعد اعدام البرجوازيين بوجود الشيوعية في تشفينغور. وعندئذ يأخذ رجال الامن بالبحث عن انصاف البرجوازيين. فيتم جمعهم ويجري نفيهم الى السهوب. اما البروليتاريون الباقون في المدينة وغيرهم من البروليتاريين الذين جرى استدعاؤهم من قبل الشيوعيين، فيأكلون كل مخزون الغذاء المتبقي في بيوت البرجوازيين ويقضون حتى على جميع الدجاج. وكان تشيبورين يعتقد ان السعادة النهائية في الحياة ستتحقق لوحدها دون ازعاج البروليتاريا لأن السعادة في الحياة – واقع وضرورة. اما كوبينكين فيتجول في المدينة بلا سعادة، وصار ينتظر ساشكا دفانوف لكي يعرف رأيه في الحياة الجديدة. لكن هذا جاء الى المدينة ولم يجد أثرا للشيوعية ، ولربما انها اختبأت في بواطن الناس. وصار يخمن السبب الذي يجعل البلاشفة في تشيفينغور يتمنون الشيوعية بمثل هذه الرغبة الشديدة، بينما هي تعني نهاية التأريخ ونهاية الزمن، والزمن يمضي فقط في الطبيعة بينما يعاني الانسان من الكآبة. أما ساشا فيخترع جهازا يحول ضوء الشمس الى كهرباء. ولهذا الغرض جرى انتزاع زجاج جميع النوافذ وكافة المرايا في المدينة. لكن الحهاز لم يعمل لسبب ما. وتم انجاز مشروع آخر، فقد شُيّد برج في اعلاه شعلة نار لارشاد الضالين في السهوب. ولكن لن يأت أحد للاهتداء بنورها من البراري. وجاء من موسكو الرفيق سربينوف في مهمة تفقدية لمعرفة انجازات سكان تشيفينغور، فوجد ان عملهم كله لا نفع منه. وقال تشيبورين شارحا الأمر :” نحن لا نعمل من أجل المنفعة، بل من اجل بعضنا البعض”. فكتب سربينوف في تقريره الى الجهات العليا :”يوجد في تشيفينغور كثير من الاشياء المبهجة لكن لا نفع منها”. وقررت السلطات في نهاية الأمر ارسال نساء الى تشيفينغور من اجل مواصلة النسل. لكن شباب المدينة كانوا يجدون الدفء في احضانهن فقط، لأن الجو برد مع اقتراب موسم الخريف.
وجاء رسول الى المدينة لأبلاغ سكانها بزحف قوات القوزاق عليها. وجرت معركة بين القوزاق والاهالي قتل فيها اكثرية البلاشفة. وهرب ساشا مع كوبينكين الجريح الى البراري ومن ثم فارق زميله الجريح الحياة. فيمتطي ساشا جواده وإسمه “القوة البروليتارية”، وينطلق به في البراري ويمر بقريته دون التوقف فيها حتى يصل الى بحيرة موتيفو التي كان يرقد في اعماقها والده الذي غرق فيها منذ وقت بعيد. وشاهد على الضفة عِدّة صيد السمك التى تركها هناك في طفولته. فيرغم “القوة البروليتارية ” على النزول الى البحيرة ومن ثم يقفز من على السرج الى الماء من اجل ان يبحث عن الدرب الذي سلكه والده سابقا حين دفعه الفضول لمعرفة ما يحدث للانسان بعد الموت. اما زخار بافلوفيتش فقد جاء الى تشيفينغور للبحث عن ولده بالتبني، فلم يجد سوى الصبي بروشكا الجالس عند عتبة بيت شبه مهدم فيسأله :” سأعطيك روبلا آخر ، فإبحث عن ساشا من اجلي”. فأجابه هذا :”سآتي به بلا مقابل !”، وانطلق في البحث عن ساشا.
لقد كتب بلاتونوف هذه الرواية ذات المغزى الفلسفي، والتي تجسد عبث تضييع الوقت في بناء مجتمع مثالي بدون توفر المقومات لذلك، في فترة تالية (عام 1928) من حياته الابداعية، حين بدأ شيئا فشيئا النضوج الايديولوجي للكاتب الذي ادرك أنه هو الانسان المثالي الحالم بتغيير الكرة الارضية كلها، وإن الكثير من شعارات الحزب طوباوية وغير قابلة للتطبيق في ظروف البلاد آنذاك. واعتبر ان السلطات تخدع الناس. علما انه نفسه تأثر أيضا بالفلاسفة المثاليين الروس مثل فيودوروف صاحب دعوة الاخاء بين البشر وبيرديايف صاحب ” الفكرة الروسية” التى إلتزم بها ايضا فيودور دوستويفسكي. لكن بلاتونوف حاول المزج بين هذه الفكرة والتجربة الثورية – البلشفية. ويسعى ابطال قصصه ورواياته الى تحقيق مثلهم العليا بثبات لكنهم يصطدمون بالواقع وبما هو غير ممكن التحقيق. وفي النهاية يستسلمون الى الكآبة ولا يجدون مخرجا آخر لوضعهم سوى بالانطلاق بعيدا على صهوة جواد او بالمشي السريع مثل لوي احد ابطال ” تشيفينغور” الذي آمن بأن الشيوعية هي الحركة المستمرة والتجول في انحاء البلاد. ولهذا فإن بلاتونوف نفسه اطلق نداءه: “هيا الى الدرب ..لنمشي! “. ان هذه الرواية نسيت خلال عشرات السنين من حياة الكاتب وبعد وفاته ولم تنشر إلا في عام 1972 . وكانت في الواقع مزيجا من المأساة والملهاة والخيال والغيبيات والتحليل السياسي ، وكانت نوعا جديدا من الابداع الادبي لم يستطع هضمه حتى مكسيم غوركي الذي مدح الرواية لكنه لم ينصح بنشرها، لأن الجمهور العادي لن يتقبلها حسب رأيه.
ومن الجدير بالذكر ان الرواية الأخرى ” الحفرة”، التي تعتبر من خيرة أعمال بلاتونوف أيضا والتي كتبها في عام 1930 ونشرت في عام 1987، تروي احداثا مماثلة تتعلق ببناء منشأة لتكون صرح الشيوعية في المستقبل. لكن الخلاف الناشب بين العمال والفلاحين يؤدي الى فشل المشروع برمته حيث تتحول الحفرة الى قبر جماعي. والرواية تتضمن إدانة للطوباوية في النظام القائم، وانهيار الافكار الشيوعية التي تتجاهل واقع الحياة، وتؤكد ان النظام الاشتراكي لا يمكن بناؤه إلا على أساس مراعاة واقع المجتمع وظروف البلاد. وفي الواقع ان بلاتونوف لم يتخل أبدا عن ايمانه بأن مستقبل البشرية سيكون في ظل الاشتركية .
لقد قرر بطل الرواية العامل الشاب فوشيف فجأة ترك العمل والسفر الى مدينة أخرى والتي ذهب اليها مشيا على الاقدام. وفي المساء قرر المبيت في حفرة في البرية، فأيقظه احد الرعاة وابلغه ان العمل هناك سيبدأ في حفر أساس المنشأة الشيوعية الموعودة. وفعلا جاء المهندس مع بعض العمال واجريت القياسات اللازمة وبدأ الحفر، فإنضم فوشيف اليهم وقاسمهم طعامهم ومسكنهم. وكان يأتي الرفيق باشكين لمتابعة سير العمل ويبدى عدم ارتياحه من وتيرة العمل. ويعلن ان الاشتراكية ستواصل مسيرتها بدونهم، علما ان حياتهم (هم الكسالى) بدونها ستكونة بلا معنى وسيموتون. اما العامل تشيلكين فيجد في كوخ مهجور امرأة تنازع الموت ومعها طفلتها. وتفارق المرأة الحياة فيأخذ العامل الطفلة التي تسأله: لماذا ماتت أمي؟. فيجيب: لأنها برجوزاية أو لأن ملك الموت جاء في طلب روحها. وينصب الرفيق باشكين مكبرة صوت تذاع منها برامح الراديو التي تتضمن الدعوات الى جمع نبات الكرابيفا وقص شعر ذيول واعراف الخيل وهلمجرا من الاعمال الهامة، وعندما يستولي السأم على العمال من سماع مثل هذ الهذر طالب البعض بأيقاف البث الاذاعي. وحدث شجار بين العاملين. وفي المساء بدأ سافرونوف العامل الذي اصابه الارق بالصراخ:” هيه ، يا حشد البشر .. لا يمكن ان يتشكل منكم هيكل صرح الشيوعية”. اما العمال فكانوا يسألون الصبية الصغيرة عن أصلها وفصلها فتقول لهم :” أن والدي لم يرغبا ان أولد برجوازية، فولدت مع ظهور لينين”. فيعجب العامل سافرونوف لهذا الكلام ويقول:”ان سلطتنا السوفيتية ستبقى متينة ما دام حتى الاطفال ، لا يتذكرون امهاتهم، ويذكرون الرفيق لينين”. وقررالعمال في اجتماعهم اليوم ارسال وفد منهم لتعليم الفلاحين كيفية تنظيم الكولخوز، لكن الفلاحين قتلوا اعضاء الوفد. فهب العمال لمساعدة الفلاحين النشطاء المؤيدين للكولخوز وعقد اجتماع في وسط القرية بين انصار الكولخوز ومعارضيه. ويضع النشطاء قائمة بأسماء الفلاحين الفقراء لضمهم الى الكولخوز وكذلك اسماء الكولاك من الفلاحين الموسرين من اجل نزع ملكيتهم من الماشية والاراضي والغلال. ويقوم العمال بصنع طوف من جذوع الاشجار يقتادون هؤلاء الكولاك اليه من اجل دفعه لاحقا مع التيار في النهر الذي يصب فى البحر. اما فقراء الفلاحين فصاروا يغنون ويرقصون على ايقاع الموسيقى التي تصدح من المذياع معلنين فرحتهم ببدء الحياة في الكولخوز. وبعد ذلك جلسوا عقب انتهاء العمل في اصلاح المعدات الزراعية في الورشة وأحرقوا كل الفحم هناك ، وصاروا يتطلعون بسأم الى حياتهم لاحقا حين أصبحوا بدون عمل. ويأخذ العمال ابناء القرية الى المدينة للعمل في الحفرة في اليوم التالي. وفي المساء يعود العمال الى موقع الحفرة فيجدون ان الثلج قد غمرها. ولا يوجد احد في عنبر النوم سوى الطفلة ناستيا. لكنهم لا يهتمون بالحفرة لأن جميع افكارهم الآن منصبة على كيفية تنفيذ برنامج نشر التعاونيات في الريف. وعند الفجر تفارق ناستيا الحياة. ويقف فوشيف أمام الجثمان ولسان حاله يقول ما معني الحياة الآن بدونها. فقد كانت مصدر سعادته وبهجته. وفي الصباح جاء الكولخوزيون للعمل في الحفرة بهمة كما لو انهم يبحثون عن الخلاص في قاع الحفرة. وكانوا يشركون في العمل حتى الخيول التي كانت تنقل الحجارة من الحفرة. لقد قرر الفلاحون التحول الى بروليتاريا وبهذا حكموا على أنفسهم بالموت في الواقع كطبقة. وهناك لم يعمل فقط العامل فوشيف الحزين على وفاة الطفلة الذي قال ” انا ربيب الامبريالية الحقير، أما الشيوعية فهي مسألة تخص الاطفال، ولهذا أحببت ناستيا .. سأذهب الآن لأقتل الرفيق باشكين في نهاية الأمر”. وينطلق في عربته من أجل ألا يعود الى الحفرة مجددا. أما تشيكلين فيحفر قبرا عميقا من اجل ناستيا لكي لا تسمع الطفلة ابدا ضجيج الحياة فوق سطح الارض.
لقد اخذ بلاتونوف منذ مطع الثلاثينيات يكتب من اجل ابقاء اعماله في درج مكتبه. فقد غضب ستالين منه بعد نشر قصته ” للتخزين”(1931)، ومنع نشر جميع أعماله ومقالاته النقدية وأغلقت مجلة ” النقد الادبي” التي كانت تنشر اعماله. وحتى قصته المعادية للفاشية “رياح القمامة”(1934)، فقد ادينت لما تضمنته من روح السخرية “وبعدها عن الواقع”. ولهذا لم تنشر روايته ” موسكفا السعيدة ” وروايته ” بحر الصبا ” ومسرحيته ” صوت الأب ” ومقالاته عن بوشكين وغوركي واخماتوفا وهمنغواي وتشابيك وباوستوفسكي وجرين. وفي هذه الفترة ابتعد عن معالجة القضايا الاجتماعية، وأخذ يكتب عن المعاناة الروحية للانسان وموضوع الحب بروح فلسفية. كما كتب قصص ” نهر باتودان ” و”فرو” و”افردويت” و” بيت من الطين في بستان البلدة” التي يبرز فيها العامل السيكولوجي في وصف الشخوص. وفي فترة 1933- 1935 كتب بلاتونوف بعد رحلته الى تركمانيا رواية ” الجن ” (الاشباح)، التي اراد بطلها إنقاذ شعبه من الهلاك بتأسيس كومونة لكنه يفلح في مسعاه هذا.
ان بلاتونوف ظهر في مطلع القرن العشرين حين نضجت الظروف للثورة الروسية وشهدت تلك الاعوام ظهور مواهب متألقة أبدعت خيرة الاعمال الادبية في تلك الفترة مثل ” الدون الهادئ” لشولوخوف و” أيام أسرة توربين” و” الحرس الابيض” لميخائيل بولغاكوف و”روسيا المخضبة بالدم” لآرتيوم فيسيولي و”جيش الفرسان الاحمر” لاسحاق بابل و”نحن “لزامياتين وقصيدة ” حسنا” لماياكوفسكي و” المرأة المجهولة” لألكسندر بلوك وغيرها. وتجسدت في الاعمال الادبية الروح المأساوية الى جانب السخرية من الواقع والتطلع الى المستقبل المشرق في آن واحد.
في عام 1938 عانى بلاتونوف من مأساة عائلية حيث اعتقل ابنه (15 عاما ) بتهمة ملفقة سببها رسالة بدون توقيع أرسلت الى اجهزة الأمن حول تآمر الفتي على إسقاط النظام السوفيتي. وعرف فيما بعد ان كاتب الرسالة احد زملائه الذي كان ينافسه في حب فتاة تدرس معهما في المدرسة، واراد التخلص منه بهذه الوسيلة، كما هو الحال في رواية الكسندر دوما “مونت كريستو”. وحاول بلاتونوف بكل السبل انقاذ ابنه بوساطة معارفه ومنهم شولوخوف ولم يفرج عنه الا بعد مرور ثلاثة اعوام حين عاد الابن الى البيت مصابا بالسل . وصار بلاتونوف يرعى ولده المريض بنفسه وأصيب نفسه بالسل فتوفي بعده في عام 1951.
3 موسكو – آذار/مارس 2013
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*فرانتس كافكا (1883 – 1924) الكاتب الجيكي المعروف الذي كتب انتجاه باللغة الألمانية، والذي يعده النقاد واحداً من أبرز كتاب القرن العشرين