بدأت رحلات أجاثا كريستي إلى العراق، منجذبة إلى أور منذ أوائل الثلاثينات،هنا أكتب على لسانها عن رحلتها الأولى، واستميحها العذر:
كان ذلك في عام 1931، ركبت القطار من محطة فكتوريا في لندن إلى مدينة دوفر، على الشاطئ الجنوبي لبريطانيا،ثم أخذت قطارا آخر يدعى سيمبلون وتوجهت إلى اسطنبول في رحلة دامت ثلاثة أيام. أخذت قاربا اقلني إلى الجانب الآسيوي من تركيا. استقليت قطار الشرق السريع الجميل الفاخر جدا، كان مقصدي حلب وقد أزمعت أن أقضي فيها بضعة أيام لما قرأت وسمعت عنها من أجواء ساحرة مغرية، وأطعمة شهية. كانت تجلس بجانبي امرأة تقارب الأربعين هي التي بدأت الحديث معي، عرفتني بنفسها: عائشة السلام، حسناء عراقية ناعمة قوية الشخصية زوجة رجل دبلوماسي يعمل في سفارة بلده في لندن، عادت إلى بغداد لوحدها لترى أمها المريضة، كانت تتكلم الإنجليزية بطلاقة؛ متابعة لجوانب كثيرة من الحياة الثقافية في لندن؛ حريصة على مشاهدة المسرحيات والأفلام الهامة والحفلات الموسيقية. هللت كثيرا حين عرفت إنني كاتبة، طبعا لم أتوقع إنها كانت قد قرأت روايتي الوحيدة، لكن حين حدثتها عنها أبدت رغبتها في قراءتها ووعدتها بإرسالها لها؛ فأنا لم أكن أحمل أية نسخة منها! راحت طيلة الطريق تحدثني عن بلدها المدلهة بحبه حد التقديس، تراه مهد الحضارات ومستقبله سيكون بما يليق بماضيه! كنت أقارن في سري بين كلامها الواثق المعتز وما حدثني به موظفون إنجليز في وزارة الخارجية حين قابلتهم في لندن أريد نصيحتهم لسفرتي إلى العراق! هم يرون العراق إحدى مستعمراتهم، وكفى! لكن أحدهم تبسط معي في الحديث على فنجان من القهوة،قال لي وهو يضحك، لقد كان رجالنا هناك خبثاء حقا، رسموا خارطته ووضعوا بين أنهارها وجبالها ومفاصل عظامها، متفجرات تكفي لجعلهم يحتاجوننا دائما، قال إن المسز بيل لم تكن بعيدة عن هذه الطبخة المسمومة. ذلك آلمني حقا، وجعلني اشعر بالخجل أن حكومة بلادي بهذه القسوة واللؤم، وجعل صورة المسز بيل تهتز في قلبي وكنت أراها مثالا للمرأة المقتحمة لمجاهل الشرق للمساهمة في إعادة بنائه!
مع أن حديث عائشة كان ممتعا لكنني ضجرت أنها ستبدد وحدتي وخلوتي مع نفسي تلك التي أعشقها خلال السفر، خاصة حين تنفتح نافذة القطار على غابات وجبال ووديان خضراء وسماء زرقاء ترقص فيها غيوم بيض! لكنني مضيت أجاملها واستمع لها،فأنا لا أطيق ان أجرح قلب إنسان حتى ولو على حساب راحتي، حين عرفت إنني سأذهب إلى بغداد كادت تطير من الفرح، سألتني أين سأنزل في بغداد، قلت لها في فندق طبعا قالت: ما هذا؟ ظننت ان لك أقارب في سفارتكم في بغداد؟ أنا لا أقبل أن تنزلي في فندق أبداً، أنت تنزلين عندنا في البيت، وراحت تصف بيتها الكبير المطل على النهر في الأعظمية كانت تقول ضاحكة أنا عاشقة لوطني مولهة به، لا تضحكي مني حين ترينني أتغزل به! لدينا سيارة حديثة سأطوف بك في بغداد القديمة، سآخذك إلى مدن أخرى في الجنوب والشمال وسترين كم العراق جميلا ساحرا، وكم نحن محقون بالفخر به! وحين عرفت إنني سأمكث أياما في حلب: قالت لو لم تكن أمي مريضة لبقيت معك،لأريك معالم حلب كلها فأنا وزوجي نحبها كثيرا زرناها عدة مرات ولنا فيها ذكريات جميلة،مرة أخرى خشيت أن تنتزع مني وحدتي في حلب أيضا! أعطتني عنوانها في بغداد، ووصفت لي كيف أصل إليهم. في محطة قطار حلب، جاء رجل عراقي مع زوجته لاستقبالها بسيارة فخمة. أصرت ان توصلني إلى الفندق قبل أن تتجه إلى بغداد، وهي التي اقترحت علي أن أنزل في فندق البارون، قالت إنه فندق رائع وسترتاحين فيه كثيرا! أصرت ان تنزل من السيارة معي وتوصي صاحب الفندق بي الذي عرفها على الفور ونهض مرحبا بها بحرارة، قبلتني وضمتني إلى صدرها مودعة كأنها صديقة قديمة، ووقفت أرقبها وهي تختفي في السيارة المنطلقة، تلك أولى لمسات دفء الشرق بدأت أحس أنني أخرج ولو قليلا من برودة أجوائنا الأوربية، واجهتني في ممرات الفندق رائحة زهور عطرة، تذكرت إننا في الربيع!
ما زلت أتذكر فندق البارون، صاحبه رجل أرمني يدعى مظلوميان،احتفي بي كثيرا، لما تحدثت به عائشة عني، وحين عرف أيضاً إنني أعد لكتابة رواية تدور أحداثها في قطار الشرق السريع. أعطاني الغرفة ( 203 ) كهدية،هي واسعة جميلة، كانت بسريرين لكنه أحتسبها لي بكلفة سرير واحد، ما زلت أتذكر خزانة الملابس من الخشب الفاخر والمرآة الكبيرة الصقيلة، والجدران المزدانة بتحف من الخزف الصيني الملون الصلد بلون المحار، كانت تطل شرفتها على حدائق في ضاحية رائعة من حلب. كان النزلاء الإرستقراطيون يصطادون طيورا جميلة من فصيلة البط من شرفاته، طاف بي السيد مظلوميان في الفندق قال انظري:
ـ كان جارك هنا السيد لورنس العرب سكن في الحجرة 202. ومن شرفة غير بعيدة عن حجرتك رقمها 215،مشيرا إليها، ألقى الملك فيصل الأول خطابه إلى جماهير حلب الفرحة الملوحة له معلنا أن سوريا أضحت مستقلة عن الدولة العثمانية، وستسعى جاهدة للخلاص مما يقيد استقلالها في معاهدتها مع الفرنسيين! وفي هذه الحجرة نام ملك السويد وقد أيقظنا مرة في منتصف الليل يريد أن نجلب له الثلج لفودكا الأبسولوت التي جلبها معه، كان ديمقراطيا، يبتسم كثيرا، فتجرأت وقلت له، حين حملنا حقائبك إلى حجرتك يا جلالة الملك كانت ثقيلة باردة، وقد ظننا أنها مملوءة بثلج جلبته لنا من السويد لتحسن مناخنا الساخن، وكنت في الواقع أقصد السياسة،وليس جو حلب المعتدل الجميل، لكنه كسويدي لا يكترث للسياسة، ولم تدخل بلاده حربا منذ قرابة مائتي عام! ضحك، ضحكة ملك دون قهقهة، وقال:
ـ لا !.هي في الواقع جواربي الصوفية السميكة التي جلبتها معي تحت تأثير برد السويد، وجدت إنني هنا لا أحتاج لها، ولكنني احتجت للثلج، ولكؤوس الفودكا فقط، وليس للشوارع والساحات كما في السويد التي هي باختصار ثلاجة كبيرة!
كنت أرى الكثير من الرجال الألمان في الفندق،قرأت في الصحف الإنجليزية أن الحكومة الألمانية أرسلت الكثير من الجواسيس الألمان لمراقبة وملاحقة جنرالات الإنجليز والفرنسيين لمحاولة عقد صفقات سرية متنوعة معهم، فهم بعد انهيار الدولة العثمانية راحوا يتصارعون على تركته تصارع القطط على سمك تناثر من سفط بائع أعمى سقط في حفرة.
كانت أياما ممتعة قضيتها في هذا الفندق الذي بني في أحضان بساتين ما تزال بعض أشجارها باسقة زاهية الخضرة، وسواقيها تحفها صفوف الزهور اليانعة.
آخر يوم قضيته انتهى بمأساة ظلت تلاحقني ذكراها فترة طويلة، وتشعرني بتأنيب الضمير،وأفكر في الكتابة عنها لأزيحها عن قلبي. كان رئيس جرسونات مطعم الفندق الألماني باول قد وقع بحب الفتاة الألمانية “أنا”، التي كانت قد دفنت جمالها الباهر تحت ثياب راهبة، متبتلة صارمة،كانت معلمة في المدرسة الملحقة بالدير الكائن قبالة الفندق، وكان باول يرسل لها مع تلميذها الطفل ابن مظلوميان رسائل غرامية يدسها في سندويجاته المدرسية التي يعدها له كل صباح ويوصيه أن لا يأكلها قبل أن تفتحها الراهبة، وتتلو صلواتها عليها، كانت الراهبة تقرأ أغلب رسائله الغرامية المتوسلة لسنتين دون ان ترد ولو على رسالة واحدة منها! حدث لمرات أن أكل الطفل وهو جائع رسائل باول الغرامية المدسوسة داخل السندويجة حين لم يجد المعلمة الراهبة لتصلي عليها، وقد بثني باول حزنه وشكواه؛ فنصحته بالكف عن كتابة الرسائل وترك “أنا” الجميلة لعشقها الرباني، سألته ماذا تقول لمظلوميان لو أن طفله غص، أو مات وهو يبتلع إحدى رسائلك الغرامية؟ ما هذا الذي تفعله يا باول؟ قلت له: من الصعب بل من المستحيل لك أن تنجح في منافسة مع الله على قلب راهبة، خاصة وقد وقف معه السيد المسيح المدجج بروح القدس، وصلبانه الذهبية،وآلاف الكهنة! أما وجدت غير الراهبة لتعشقها يا باول؟ لو كنت عشقت حورية البحر لكانت أقرب إليك! راح يهز رأسه بشكل حيرني، بعد ساعات من حديثي معه نزل إلى سرداب الفندق، وأطلق رصاصة على رأسه من مسدس اشتراه من ضابط ألماني ينزل في الفندق، قالوا لي أنهم حين أعلموا الراهبة (أنا) بانتحاره لم تنطق بكلمة، هزت رأسها، ثم رسمت علامة الصليب على صدرها الناهد الجميل،وهذا كل شيء! لكنني بقيت واجمة لا أستطيع النطق، شعرت كأنني ساهمت في قتله بنصيحتي الخرقاء! غادرت حلب وأنا أحلم بالعودة إليها،
هي مدينة يصعب على من عاش بها ولو لأيام ان ينساها، نكهتها وجمالها وإشراقة وجوه أهلها، وأطعمتها الشهية اللذيذة والزهيدة الثمن،تبقى في القلب. لكنني رحت أحلم ببغداد فهي كانت في يوم ما عاصمة الدنيا، ومنبع الأحلام!
المصدر ايلاف