الشرق الاوسط
بعد مشاهدة الانتفاضة المصرية في ميدان التحرير بالقاهرة عام 2011. أردت مقارنتها باحتجاجات الشباب التركي في ميدان تقسيم عام 2013. إنهما جدّ مختلفان. لقد أراد المصريون خلع الرئيس حسني مبارك فكان فعلهم «ثورة»، أما ما يقوم به الأتراك هو كره وضغينة. إنهم لم يحاولوا بعد الإطاحة برئيس الوزراء الإسلامي المنتخب بطريقة ديمقراطية، رجب طيب أردوغان. ما يقومون به هو جذب انتباهه وتوصيل رسالة بسيطة مفادها «اغرب عن وجوهنا وتوقف عن خنق الديمقراطية والتصرف كسلطان متعجرف». خرج الأتراك إلى الشوارع في البداية من أجل حماية واحدة من المساحات الخضراء الشحيحة في إسطنبول وهي حديقة غيزي من الجرّافات التي تسعى لهدمها من أجل أحد مشروعات أردوغان. لقد خرجوا إلى الشوارع لأن رئيس الوزراء، الذي هيمن على السياسة التركية خلال الأحد عشر عاما الماضية ولا يزال يحظى بدعم قوي من نصف الأتراك المتدينين، خنق المعارضة. لقد استخدم أردوغان قوانين الضرائب إلى جانب وسائل أخرى من أجل ترهيب الصحافة والمعارضين وإجبارهم على الصمت. على سبيل المثال رفضت الـ«سي إن إن» التركية تغطية الاحتجاجات وفضلت عرض برنامج عن البطاريق، والمعارضة البرلمانية الرسمية ضعيفة عاجزة. لذا في خطوة لها تداعيات مهمة اختار الشباب التركي موقع «تويتر» ليكون شبكة إخبارية للتواصل خاصة بهم وحديقة غيزي وميدان تقسيم ليكون برلمانا خاصا بهم ليكونوا بذلك معارضة حقيقية. وبهذا يبعثون برسالة إلى أردوغان مفادها: «في عالم اليوم السطحي، لم يعد بمقدور أحد أن يدير أحاديث من طرف واحد. أصبح القادة اليوم يقيمون حوارا بين طرفين مع المواطنين». لقد تعلم أردوغان، المحاط برجاله الذين يوافقونه الرأي، هذا الدرس بالطريقة الصعبة. في السابع من يونيو (حزيران) تساءل عما فعله الذين يحاولون «إلقاء محاضرات على مسامعنا» بشأن الهجوم على ميدان تقسيم مع أحداث «وول ستريت». وجرى استخدام الغاز المسيل للدموع وقتل 17 شخصا. ماذا كان رد الفعل؟ خلال ساعة أصدرت السفارة الأميركية في تركيا بيانا باللغتين الإنجليزية والتركية عبر «تويتر» يفند ادعاءات أردوغان وجاء فيه: «لم تسفر أعمال الشرطة عن أي قتلى بين الأميركيين في اعتصام حركة «احتلوا وول ستريت». لا عجب أن يدين أردوغان «تويتر» ويعده «أسوأ تهديد» للمجتمع. رد ثلاثة أتراك في أميركا على أحداث إسطنبول من خلال تدشين حملة تبرعات على موقع
Indiegogo.com
اشترت إعلانا على صفحة كاملة في صحيفة «نيويورك تايمز» تدعم فيه الاحتجاجات. وبحسب مجلة «فوربس»، تلقت الحملة تبرعات من 50 دولة تزيد على 2500 دولار في الساعة خلال اليوم الأول وتخطى إجمالي التبرعات بذلك حتى كتابة هذا المقال 53.800 ألف دولار خلال 21 ساعة. المؤسف هو أن استعلاء أردوغان وردود فعله الاستبدادية ومؤخرا استخدامه لتشبيهات معاداة لإسرائيل هزت صورته عند البعض. لقد أجرى حزبه الإسلامي إصلاحات في نظام الرعاية الصحية وعلى نظام الحكم وزاد الدخل ومهد طرقا وشيد جسورا وأبعد الجيش عن السياسة، لكن يبدو أنه انتشى بالنجاح. إنه يلقي الخطب والمواعظ أو يحاول تحديد أماكن ومواعيد شرب الأتراك للخمور وتحديد عدد الأبناء الذين يمكن لكل سيدة إنجابهم بثلاثة فقط ويسعى لحظر الإجهاض وعمليات الولادة القيصرية، بل وصل الأمر إلى اختيار الأفلام الوثائقية التي يمكن للأتراك مشاهدتها. ونشرت صحيفة «زمان» التركية يوم الاثنين الماضي استطلاع رأي يوضح أن 54.4% من الأتراك يعتقدون أن الحكومة تتدخل في حياتهم الخاصة. وفي الوقت الذي يجري فيه إجبار الآباء على القيام بما لا يريدونه، يتحرر الأبناء من الخوف.
لقد كنت مع المتظاهرين في شوارع إسطنبول عندما أخلى أفراد الشرطة، المسلحون بخراطيم المياه والغاز المسيل للدموع، حديقة غيزي.
كان الرصيف يهتز حقيقة بفعل طاقة الشباب الذين يطالبون أردوغان بالتراجع أو كما أشار إيلك مهندس الطائرات البالغ من العمر 30 عاما ويقف إلى جواري قبل أن يفرقنا الغاز المسيل للدموع قائلا: «إنهم يحاولون وضع قواعد عن الدين وإجبار الجميع على الالتزام بها. الديمقراطية ليست ما تريده الأغلبية، بل ما تريده الأقلية. الديمقراطية ليست مجرد انتخابات». ويوضح دوف سيدمان، الذي تقدم شركته «إل آر إن» خدمة استشارية في شؤون الإدارة ومؤلف كتاب «كيف»، أن أردوغان، مثل فلاديمير بوتين، يخلط بين كونه في السلطة وامتلاكه للسلطة. وأضاف: «هناك نوعان من السلطة: سلطة رسمية وسلطة أخلاقية. والسلطة الأخلاقية الآن أهم كثيرا من السلطة الرسمية» في عالم اليوم المتصل بعضه ببعض والذي تنتقل السلطة فيه إلى أفراد يستطيعون الاتصال بسهولة ويجمعون قواهم معا سواء بهدف الخير أو الشر. إنك لا تحصل على سلطة أخلاقية بالانتخاب أو الميلاد على حد قول سيدمان. وأوضح سيدمان قائلا: «السلطة الأخلاقية شيء يحتاج لجهد مستمر من خلال سلوكك وبنائك للثقة بينك وبين شعبك.. كل مرة تمارس فيها السلطة الرسمية من خلال استدعاء الشرطة تتآكل تلك السلطة. وكل مرة تمارس فيها سلطة أخلاقية تقوم على ضرب المثل الصالح والتعامل مع الناس باحترام تصبح هذه السلطة أقوى». أي قائد يريد أن يقود شعبه فقط من خلال الأوامر والتسلط على الناس عليه أن يعيد التفكير. وقال سيدمان: «الطريقة الوحيدة للقيادة بنجاح في هذا العصر هي الحصول على السلطة من الشعب»، مشيرا إلى ضرورة الاتصال بالشعب بطريقة تتيح الحصول على ثقته وإشراكهم في الرؤية. هل يمكن أن يتعلم أردوغان تلك الدروس؟ استقرار تركيا على المدى القريب وتاريخه مرهون بإجابة هذا السؤال.
* خدمة «نيويورك تايمز»