شتان بين عرب أميركا والأميركيين العرب. فهاتان المجموعتان كما تظهر فوارق الصياغة ليستا متمايزتين بوضعهما القانوني فيما يخص الإقامة والهجرة بالضرورة وإنما على اختلاف كبير في تعاطيهما مع هذا الوضع القانوني المترتب على قرارهم بالمجيء إلى هذه البلاد طلبا للأمن أو الرزق أو العلم. الفارق بين عرب أميركا والأميركيين العرب هي الفارق بين المواطنة والأمركة.
ففيما يسعى بعض الوافدين العرب -في حال التقيد بمدد وغايات تأشيرة الدخول- إلى الإقامة فالتجنس، يتردد البعض منهم ويرفض البعض الآخر سرا وحتى علانية، الأمركة. الأمركة التي أوسعها إعلام الخمسينيات من القرن المنصرم شتما إبان مصر جمال عبدالناصر ومن لف لفه من زعماء النظم “الثورجية والقومجية والأسلاموية”.
ربما لم يخطر ببال الآباء المؤسسين للأمة الأميركية أن يهاجر إلى “العالم الجديد” أفراد أو جماعات ترفض بعض ما بشروا به في وثيقة الاستقلال الذي استهل بالعبارة الخالدة “نحن الشعب”. لكن “العم سام” أفلح في هندسة صرح بلاده على نحو حمل علامة مميزة في بناء الأمم وتشييد الأوطان. فجعل من العالم الجديد أميركا بوتقة انصهار. بوتقة مفتوحة منفتحة ومتفتحة على الجميع ما دام القادمون يحترمون دستور البلاد وقوانينه الناظمة لجميع أوجه الحياة العامة على صعيدي الولاية والاتحاد الفدرالي للبلاد.
ولأن العلمانية وفصل الدين عن الدولة مبدأ ضارب الجذور في الوجدان الأميركي، فإن أكثر العرب انصهارا بالبوتقة الأميركية كانوا العرب غير المتعصبين في تدينهم أو العلمانيين أو اللادينيين. لا بل وأن التسامح الأميركي والانفتاح على الآخر الذي جعل الطوائف البروتستانتية فيه بالآلاف، وسمح فيه لنمو حركات تأصيل التراث والتجديد والإصلاح في صفوف اليهود الغربيين والشرقيين على حد سواء، نظر بعين الفضول إلى المهاجرين المسلمين متعرفا على ديانتهم من خلال شعائرهم وفقه معاملاتهم بالدرجة الأولى حيث الدين المعاملة كانت السبب الأول للقبول والانصهار ومن ثم استقطاب أميركيين واعتناقهم الإسلام والذي تصادف أن غالبيتهم مازالت حتى الآن من الأميركيين المنحدرين من أصول إفريقية.
يحفل التاريخ الأميركي بالكثير من قصص النجاح التي انفرد بها أميركيون عرب أو تشاطروا فيها النجاح مع شركائهم في الوطن الأميركي. قائمة الأسماء تطول وتطول بدءاً من عالم الصناعة والفن والأدب، مرورا بعالم السياسة والجيش والأمن، وانتهاء بالتكنولوجيا. وأتوقف عند هذه الأخيرة لما تمثله أيقونة آبل والأميركي العربي السوري ستيف جوبز من دليل دامغ على أن الفضاء السايبري أصبح بمثابة البوتقة الكبرى التي صهرت فيها حتى البوتقة الأميركية الأم التي كانت تتكفل بصهر ثقافات المهاجرين الجدد بما يسهم في التخلص من الشوائب وإظهار أفضل ما في المعدن النفيس المضاف حتى يضيف الجميع إلى مزايا الجميع وتخرج الأمة بأفضل ما في الجنس البشري من خصال ومزايا.
هذه باختصار نعمة ونقمة المرحلة التي يتميز بها عصرنا الراهن حيث لم تبق ثورة المعلومات والاتصالات والتواصل الاجتماعي لا حدودا ولا قيودا على عقل الإنسان ووجدانه. فانكماش المسافات إلى حد انعدامها في عالم “الفيس تايم”، وانعدام جدوى خطوط غرينتش وأي ستار تقيمه الدول أو الحكومات أمام التغريدات و”السنابشات” أسقط من أميركا ومثلها من دول المقصد في المهجر ورقة مرحلة البعد والعزل الطوعي التي غالبا ما تتم فيه عمليات التعرف فالتأقلم فالاندماج فالانصهار.
ليس هذا وحده بل وسائل الإعلام والتواصل ذاتها. فمرحلة قراءة جريدة واحدة والاستماع إلى مذياع واحد ومتابعة محطة تلفزيونية واحدة، غير مرحلة تعددها ودخول عالم الفضائيات ومنصات التواصل الاجتماعي الذي قلل في كثير من الأحيان فرص الاندماج والانصهار مع المجتمع المحلي الأميركي وأبقى على علاقة مشوهة بالضرورة مع ذلك البعيد –الوطن الأم- الذي يبقى رغم جميع عوامل الحنين عالما افتراضيا أغلب ما يكون رومانسيا حالما.
المحصلة المؤسفة في كثير من الحالات هي الشكوى التي يجاهر بها كثيرون من عرب أميركا ويقر بوجودها دون إقرارها الأميركيون العرب، وهي أن مهاجري اليوم غير مهاجري الأمس وخاصة من العرب والمسلمين قياسا بالظروف السياسية والاقتصادية الموضوعية التي يشهدها طرفا المعادلة: الوطن الجديد أميركا والوطن الأم أيا كان من “بلاد العرب أوطاني”.
الأمل في أن السنوات الأخيرة شهدت علو الأصوات المطالبة بضرورة انصهار لا مجرد انخراط العرب ببلاد العم السام وهم الساميون في أعراقهم وتراثهم عموما. تأتي هذه الأصوات انطلاقا من اعتبارات أمنية في المقام الأول على ضوء المخاوف الناجمة من مظاهر العزلة والانعزال بصرف النظر عمن الملام فيه المهاجر أم مضيفه وشريكه المستقبلي في الوطن.
والمتتبع لأخبار الفريقين (عرب أميركا والأميركيين العرب) يرى أن بينهم أنفسهم شيء من العزلة والجفاء لا بل وانعدام الثقة. والحقيقة أن سبب ذلك يعود إلى المراد من الزيارة أو الإقامة أو الهجرة. وفي نظري كأميركي عربي، فإن المشكلة الكبرى تكمن في أن أميركا كبوتقة انصهار ليست الوجهة المناسبة بالتأكيد لمن يعارض هذه الفكرة، فكرة القدوم بكل ما لديك لتصبح جزءاً من كل تعطي وتأخذ بما يحفظ خصوصيتك وحقوقك كما يحفظ خصوصية وحقوق الآخرين تماما. فتحية العلم -الولاء للعلم – تؤكد قيم وحدانية الأمة الأميركية حيث الجميع متساوون أمام القانون ينعمون بالحرية والعدالة في وطن الشجعان الأحرار.
الكرة للأمانة في ملعب الزائر والمقيم والمهاجر، هل يريد فرصة عمل كفافا أو رفاهية؟ هل يتطلع إلى حرية فكر وتعبير وعبادة؟ أم يرنو إلى وطن يكون فيه حرا سيدا؟ تجربتي كأميركي عربي على مدى خمسة عشر عاما، عرفتني في الحياة العامة وفي ميادين العلم والعمل على نماذج كثيرة متباينة من عرب أميركا والأميركيين العرب، أفخر بالكثير منها وأصلي من أجل إصلاح الحال في بعضها. والحق أن تململ بعض المهاجرين القدامى نسبيا من بعض المهاجرين أو القادمين الجدد مرده إلى شكل من أشكال “التقية” المقيتة والغادرة التي يمارسها البعض بأساليب رخيصة لاقتناص تأشيرة دخول أو إقامة وحتى هجرة.
لهذا كانت كثير من أصوات الأميركيين العرب منقسمة على نفسها وبحدية حتى في داخل الأسرة الواحدة في الانتخابات الأميركية الأخيرة حيث شكلت الهجرة بالنسبة إليهم كمهاجرين أولوية في حسم خياراتهم بين المتنافسين على الوصول إلى البيت الأبيض.
يحدونا الأمل جميعا، أن يختفي من قواميسنا كبشر وليس كسياسيين فقط، مفهوم “التقية” فهي البذرة الشيطانية الأولى لظاهرتي الخلايا النائمة و”الذئاب المنفردة”. وليس سرا، أن خبراء علم النفس والاجتماع ومحاربة الإرهاب قادرين على كشف مظاهر تلك “التقية” ومكامنها دون اللجوء إلى أجهزة “كشف الكذب” الهولويدية، فالأمر لا يحتاج إلى عبقرية أمنية لتكشف بذور التطرف والإقصاء والانعزال فيمن يعتبر الموسيقى حراما والاختلاط حراما، ويبرر – بلا أدنى حرج باسم حرية العقيدة والتعبير – قطع الأيادي والرؤوس لا بل ويدعو إلى تطبيق ما يراه شريعة إسلامية على غرار طالبان وسائر التنظيمات الإرهابية كالقاعدة والنصرة وداعش وغيرها من التسميات التي لن تخفي الأفاعي والحرباوات القابعة فيها.
تفاحة جوبز أسقطت ورقت التوت عن الكثيرين من أولئك، فضغطة زر واحدة كفيلة بجرد صحاف سوداء وصفحات صفراء من التواصل الاجتماعي “غير الاجتماعي” الذي ينعق به هؤلاء – القلة كما نأمل – بدعوى رفض “الأمركة” وهم الساعون بخطى حثيثة إلى أداء قسم ما ظننت أنهم – بحكم أفعالهم – بارون بها أبدا، قسم الولاء للعلم الأميركي.
بشار جرار
باحث متخصص في قضايا محاربة الإرهاب وتعزيز حوار الأديان