موسكو – عبدالله حبه
تغص الساحة الأدبية الروسية بالمبدعين والباحثين عن مفاهيم وأشكال أدبية جديدة ، ولا يمضي يوم إلاّ وتصدر فيه روايات وبحوث جديدة وتعقد ندوات أدبية وتقام مهرجانات الكتاب في مختلف المدن الروسية . وقد عرضت في مهرجان الكتاب الذي أقيم في الساحة الحمراء منذ أيام الآف الكتب الجديدة الصادرة في مختلف أنحاء روسيا الإتحادية بينها مئات الروايات والمجموعات القصصية والشعرية لمؤلفين معروفين وغير معروفين من قبل، وتمنح الجوائز لهم.
ايجور سيد*
ويبرز بين الباحثين الشاعر والرحالة والكاتب ايجور سيد في طرح مشاريع أدبية تظهر علاقة الإبداع بالبيئة والمكان أطلق عليها تسمية ” جماليات المكان ” التي تظهر علاقة الإنسان بالبيئة المحيطة به من طبيعة ومدن وإبداعات تكنولوجية. وهذه المشاريع ” الجيوشاعرية” هي بالضد من المشاريع ” الجيوسياسية” التي تخمد الروح الإنسانية في عصرنا لكونها تخضع للمطامع المادية. هذه المشاريع ” الجيو شاعرية” ذات صفة إبداعية تعيد المرء الى موقف الإنسان البدائي من البيئة المحيطة به وإغناءه روحيا بجماليات الاماكن التي يقطن فيها. فهو يتأمل جمال الطبيعة من زهور وغابات وأنهار وجبال ويجد متعة في ذلك . وفيما بعد حاول الإنسان أن يجسد مشاعره إزاءها في الصور والمنحوتات وغيرها من أصناف الفنون ، وكذلك في الأشعار والأعمال النثرية.
وحاول ايجور سيد في مشروعه الأدبي الجديد عندما شكل في عام 1992 مجموعة من الشعراء بإسم “شبه الجزيرة “، أو ” نادي القرم بموسكو “، ضمت عددا من شعراء القرم وموسكو، ووضع هدف للمجموعة هو ربط الشعر بالمكان والبيئة المحيطة بالإنسان. وسار أعضاء هذا
فرسان الفرشاة لايجور سيد
النادي في هذا الدرب على خطى الشاعر الاسكتلندي الفرنسي الأصل كينيث وايت رائد هذه الحركة الأدبية الذي جذب إهتمام الأوساط الادبية الروسية بعد زوال الإتحاد السوفيتي. وإستخدم سيد في ذلك بالإضافة الى مقالاته الصور الفوتوغرافية الشخصية للأماكن التي زارها في تجواله في روسيا والعالم وتراه يرفق كل صورة فوتوغرافية بنص شعري يستوحى من أنطباعاته عن المكان. ويورد المؤلف قول الكاتب م.جاسباروف:” لقد إنتهى عصر رجال السياسة وتحل “شاعرية المكان” محل ” سياسة المكان”(الجيوشاعرية بدلا من الجيوسياسية). وكان أول ميدان لها هو القرم الذي يمثل الرابطة بين البر والبحر ، والغرب والشرق- وهذا شئ طبيعي تماما..”. وبرأيه إن الاحداث الأخيرة في العالم تشير الى تحول البحث من الخطاب التاريخي الى الخطاب الجغرافي او الطوبوغرافي. ويطلق عليه مصطلح ” الإنعطاف المكاني”
(space turn)
. ومفهوم “جماليات المكان ” يتطور في إطار هذا الإتجاه بالذات.
وينطلق الكاتب ايجور سيد من علاقة الإنسان بالمكان في تحليل واقع المجتمعات في مختلف بلدان العالم التي زارها من اليمن الى مدغشقر والمغرب ومصر والقطب الشمالي وجبال تاناناريف والاورال والقرم. ويصل الى إستنتاج فلسفي هو أن الانظمة الشمولية ذات النمط “الأسيوي” الموجودة في مختلف البلدان قد دبت فيها الشيخوخة وتهدد البشرية دوما بنشوب حروب شاملة جديدة. وهذا يعني نهاية التاريخ . ولابد من وضع حد للمجابهة الخطرة بين الحضارات العالمية، ويتم ذلك بإجراء دراسة معمقة للطبيعة البشرية. ولكن واقع الحال يدل على عدم الكفاية في معرفة هذه الطبيعة ، وغموض سبل درء الكارثة الشاملة المتمثلة في قيام حرب عالمية او حرب أهلية ، كما هو الحال في بعض بلدان الشرق الأوسط اليوم.
إن علم الانثروبولوجيا عاجز الآن عن بحث تركيب ودوافع الممارسات البشرية ، ومثالها الإرهاب، ولابد من طرح التوصيات بشأن درء هذا الخطر. وبرأيه إن المسألة لا تكمن في دراسة الدوافع النفعية (البراجماتية)، بل في البحث الانثروبولوجي البحت المرتبط بالسلوك الإنساني. بيد إن إمكانيات هذا البحث ما زالت ضيقة. ولابد من بناء البحث على أسس جديدة. فعلى سبيل المثال الإنطلاق من إعتبار ان البشرية تسير نحو التقدم حتما ، والقوة المحركة لهذا التقدم هي
الصراع الثنائي بلا هوادة ولكن المثمر بين فئتين: من الطبقات والطوائف والنخب والاجيال والاجناس وهلمجرا. ولكننا لا نعرف ما هي الدوافع التي تشكل خط الجبهة الدائم الذي يحشد التقدم الحضاري المنشود. وهنا لابد من تذكر الإنسان البدائي الذي يعتقد بعض الدارسين بأنه حقق تقدما حضاريا كبيرا، ولا سيما في مجال الفن التشكيلي. وتم التأكد الآن من أن جميع الرسوم المحفورة في الصخور هي من صنع يده. فقد كان هذا الانسان في صراع دائم مع الطبيعة القاسية والحيوانات المفترسة مما جعله يتفنن في وسائل حماية نفسه وابتكار أشكال الأدوات لممارسة الصيد ومن ثم الزراعة والصناعة ودفع حركة التقدم الى الأمام.
يتحدث الكاتب في مقالاته بين حين وآخر عن “طوباوية الثقافة”، لكن “جماليات المكان ” تتعامل بالدرجة الأولى مع أماكن محددة قائمة، أما الطوباوية فهي مفهوم ضيق لكنه لا يقل عن ذلك أهمية بالنسبة لهذه الجماليات. ويرى الناقد الكسندر ليوسي إن الطوباوية لا توجد من دون ضد الطوباوية ، كما لا توجد ” الجيوشاعرية” بدون ” الجيوسياسية”. فالطوباوية هي شكل لطرح المسألة، أما الضد منها فهو طرح النماذج الفاشلة في تطبيقها.وسيد يفضل تجسيد القدرة الطوباوية تحت شعار ” لنكن واقعيين، ونطالب بالمستحيل أيضا”. ويرفض الكاتب العنف بكافة أشكاله في تحقيق هذا الهدف في السياسة. ويعتقد إن ” جماليات المكان” تتعامل مع نماذج البيئة الجغرافية والأساطير من حيث موضع الإنسان الوسطي في المكان من الناحية السيكولوجية والجمالية وليس الموضع الجغرافي.
وذكر سيد مرة إن علاقة الإنسان بالمكان وبالوسط الجغرافي ذات سمة “طابو” ،وهي تدفع بنفور وتشل الوعي في إدراك رد الفعل في هذه المواضيع. ويبدو الموضوع وكأنه قد أصابه السحر ويدفع الباحث بعيدا لدى التوغل في هذا الموضوع.
وتحتل الصور الفوتوغرافية مكانة بارزة في كتب ايجور سيد . فنراه يكتب في كتابه الصادر مؤخرا بعنوان “جماليات المكان – انطباعات عن البعثات” تحت صورة عمارة يعقوبيان في القاهرة التي زارها بعد أن قرأ رواية علاء الأسواني المترجمة الى الروسية :ثمة لعبة للأطفال بعنوان ” الحج الأدبي”. حينما طالعت رواية الأسواني حلمت أن أرى هذه العمارة حيث تشابكت مصائر العديد من الناس البسطاء ، غير المصريين جدا…ولكل واحد منهم لعبته في قصر التيه هذا . ويلعب جميع الأبطال أدوارهم – بإستثناء النذل الرئيسي ، رجل السياسة الثري الواسع النفوذ ( فهو مخلص دوما لذاته الدنيئة )، والزوجين الحلوين :زير النساء العجوز والحسناء اتي كانت سابقا خطيبة لأحد المتطرفين وجارية لدى صاحب محل خياطة. إن العمارة قد أثارت خيب أملي ، لكن خيبة الأمل هي الهدف السري والرئيسي لأي حج (وليكن صعب المنال).
وكتب تحت صورة بوابة في مراكش يقول: إن النظرة الخاطفة الى اللحام البدائي ، كيفما إتفق، لزخارف البوابة في أحد أزقة مراكش الهادئة قد جعلتني لا أبعد بصري عنها بدهشة! إن المغاربة وبالاخص أبناء مراكش قد ذاع صيتهم في صنع أفضل الزخارف لمبانيهم، وعموما لأماكن سكناهم. ولسبب ما كنت أشك بذلك قبل هذه اللحظة.
واشار في تعليقه على صورة أخرى في أثناء جولته في مدغشقر : تقطن قبيلة انتاندروي(تعيش في الإقليم الشوك) وسط منطقة تغمرها الأشواك فعلا أكثر من أية منطقة أخرى في العالم. فقد كانت هذه المنطقة الواقعة في جنوب مدغشقر قاحلة خلال ملايين السنين ونمت فيها هذه النباتات الشوكية الغريبة. وقبل مائتي عام كانت تحصد فيها نباتات التين الشوكي والصبار الأمريكي.. وأعتقد ان قبيلة انتاندروي قد بقيت القبيلة الوحيدة الساكنة هناك من مجموع 19 قبيلة في جزيرة مدغشقر.
وكتب تحت صورة أخرى: لم تسنح الفرصة لدى خبراء الذرة لجلب النقود النووي الى مفاعل المحطة الكهرذرية في القرم ، بعد ان عارضت ذلك جمعية “البيئة والسلام” التي طالبت بتحويل المحطة الى استخدام الوقود غير النووي. فوقع جورباتشوف في عام 1989 مرسوما بذلك بعد مضي عام من نضالنا. لكن لم يتم تحويل المحطة الى استخدام الوقود العادي فتم تقطيع هيكلها الضخم المصنوع من التيتان تدريجيا وبيع الى مجهولين. وتركت بقايا المحطة البائسة في براري قزانتيب.أما صدى ذكراها فيتردد في الصفير في الهيكل المكعب الخالي من البشر لدى هبوب الرياح.
وهكذا يقرن الكاتب مقالاته حول علاقة الإنسان بالمكان بالصور الفوتوغرافية التي يلتقطها خلال جولاته الكثير في روسيا وخارجها.
*ايجور أوليجوفيتش سيدورينكو، ولد في كانون الثاني عام 1963 في مدينة جونكوي في القرم، شاعر روسي وكاتب ومترجم وصحفي ورحّالة، ومنظم المشاريع الثقافية العالمية.