“عندما أقع في حب رجل أتحوّل بشكل تلقائي إلى أمينة زوجة سي السيد”.. سمعت هذه الجملة من صديقات كثيرات. أنا أيضا في حالة الغرام الشديد أحول الرجل الذي معي إلى “سي السيد”، وأتحول أنا إلى “أمينة” المطيعة والصامتة والراضية بكل شيء. أتذكر، حين قرأت ثلاثية نجيب محفوظ، قبل أربعة عقود على ما أظن، استهجنت جدا حالة الست أمينة، وصرت ألقب كل شابٍّ يتنمرد على الفتاة التي تخصه “سي السيد”، نوعا من الاستهزاء بالذكورية التي يمارسها عليها، سواء أكانت حبيبته أم صديقته أم شقيقته. وألقب الفتاة الراضية التي لا تحتجّ على سوء المعاملة “الست أمينة”! أعترف أنني لم أنتبه كيف تحولت مع الزمن، وفي لحظات معينة، إلى الست أمينة التي طالما رفضتُها واستهجنت سلوكها. لا أدري أيضا مسار تحوّل صديقاتي إليها.
نحن نرث أمراض مجتمعاتنا بجدارة. علينا أن نعترف بهذا، وأن نتعامل معه بشكل واقعي، وأن نعلنه بوضوح، كي لا يبقى دائما من المسكوت عنه، ويتحوّل إلى آفةٍ خطيرة، ننقلها إلى أبنائنا وبناتنا. مجتمعاتنا ذكوريةٌ جدا، كل ما فيها يغذّي هذه الذكورية، السياسة والدين والعائلة، سياق التربية والتنشئة كلها تدفع نحو ذكورية المجتمع، وتدفع الذّكر نحو الواجهة/ السلطة. السلطة تعني القوة بأي حال، ومع القوة ينشأ الاستعلاء. في مجتمعاتنا هناك استعلاء جندري ذكوري، يظهر في كل شيء، انتبهوا مثلا كيف يتحرّش مراهق بسيدةٍ تمشي في الشارع، لأنها ترتدي ثيابا لا تعجبه. منطقه هنا ليس منطق المتحرّش العادي، منطقه هو منطق الاستعلاء الذكوري ضد الأنثى، أية أنثى كانت، هو يبيح لنفسه، بحكم السلطة المعطاة له من المجتمع، أن يقيم سلوك أية أنثى، حتى لو كانت في سن والدته، حتى لو لم تربطه بها أية صلة، هو يعتقد أنه يمارس دورا وحقا طبيعيا ممنوحا له من الجميع، سيجد هذا المراهق نساء كثيرات يبرّرن له فعله، والدته أولهن، سيكبر ويصبح رجلا، وهو مؤمنٌ أن سلطته واستعلاءه على النساء حقٌّ من حقوقه التي لا يجوز المساس بها.
مثلما هناك دائما من يفرعن الأشخاص، ويجعل منهم مستبدين، يوجد من يحوّل الذكور في مجتمعاتنا إلى “سي السيد”، النساء في المقدمة، النساء اللواتي لا يرون في أنوثتهن سوى الغواية. وعلى الرغم من جمال الغواية، إلا أنها، حين تصبح الوجه الوحيد للأنوثة، تؤدي إلى نساءٍ مخصياتٍ، سيببدو هذا المصطلح غريبا، إذ إن الإخصاء ذكوري فكيف يطلق على النساء؟ عندما يصبح البحث عن رجلٍ محور حياة أنثى ما، عندما تعتقد أن اكتمالها لا يتحقّق إلا بوجود رجلٍ في حياتها، عندما لا تكتفي بذاتها وتبحث عن رجلٍ ليحقق لها اكتفاءها، فالأنوثة هنا مخصيّة. بالتأكيد، تكتمل الأنوثة بالذكورة، والذكورة تكتمل بالأنوثة، هذا ناموس الحياة، لكن الرضا بأي شرط لمجرّد الوجود مع رجل، هو إخصاء نعاني منه، نحن النساء، إلى حد كبير، وإلا ما الذي يجعلنا نتحوّل إلى هويةٍ واحدةٍ، هي هوية “الست أمينة” في لحظة ما؟! ما الذي يجعلنا نرضى بالاستعلاء الذكوري، وبالاستخفاف بنا، إن لم نكن مخصيّات الأنوثة؟ لماذا أشعر فجأة أنني قليلة، وأنني قبيحة، وأنني محظوظة، أنني وجدت رجلا يُعجب بي، فأبدأ برؤيته بوصفه الرجل الوسيم الخارق الكامل، وتبدأ ذاتي بالتراجع والضمور، حتى تضمحلّ تماما، وتصبح قابلةً لتلقي الأذية من دون احتجاج؟
ثمّة خوفٌ من التقدّم في العمر، ومن تغيير الملامح وازدياد الوزن والترهّل، نعاني منه، نحن النساء، عموما، والشرقيات خصوصا، نسعى جاهداتٍ إلى أن نبدو أصغر سنا، ونتذرّع بأننا نفعل ذلك لأنفسنا، لكن الحقيقة أننا نفعل ذلك، لنرضي الرجل، الذي لا يعاني أية مشكلة من أثر الزمن، الذي لا يهتم إن زاد وزنه، أو ترهّل جلده.. الأمر سيان لديه، فهو السلطة القوية، والسلطة لا يعنيها تحسين صورتها، الطرف الأضعف في المعادلة هو المطالب بهذا التحسين، وإلا سيُقصى لصالح الأصغر سنا والأكثر جمالا، نحن النساء الطرف الأضعف، لا لسبب بيولوجي، بل نتيجة تراكم اجتماعي ثقافي طويل الأمد، حول الأنوثة من حاضنةٍ للحياة إلى مجرّد وعاءٍ لإفرازات الذكورة بوعيٍ مخاتل، إذ غالبا ثمّة رفضٌ في طبقات اللاوعي، عاجز عن الظهور، فيتحوّل إلى تماهٍ مع الذكورة، شيء يشبه متلازمة ستوكهولم، تمارس فيها الأنثى الاستعلاء السلطوي الوصائي نفسه على بنات جنسها، في محاولةٍ لإخصاء أنوثتها وأنوثة الأخريات.
Rasha Omran
العربي الجديد