من كان ينتظر التطبيقات العملية لمقالة وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف «الجار قبل الدار»، التي لخص فيها تطلعات بلاده لعلاقات حسن الجوار، جاءه الجواب من الضاحية الجنوبية لبيروت.
آلاف الحناجر الهائجة هتفت ضد السعودية في مهرجان حزب الله إحياءً لليلة العاشر من المحرم، وبتأييد واضح من أمين عام حزب الله حسن نصر الله، الذي خطب في جمهوره مباشرة.
صحيح أن الهتاف الذي راج في إيران خلال الأشهر القليلة الماضية تأخر قبل وصوله إلى بيروت، لكن وصوله يدل على أن «الأمور تزداد تعقيدًا في المنطقة»، كما أقر نصر الله نفسه، مما يعني أنه بات يستشعر هباء وعوده بالنصر والحسم وانتهاء الأمور!
منتصف العام الحالي، في «عيد التحرير»، جدد نصر الله تذكير اللبنانيين بأن عليهم الخوف من هزيمته وليس من انتصاره. استعاد، في سياق التعبئة لحربه إلى جانب بشار الأسد على الشعب السوري، عبارة كان قالها في عام 2006، في سياق التعبئة لحرب «لو كنت أعلم»: «لا تخافوا من انتصار حزب الله.. خافوا من هزيمته»!
ما تلا هذه العبارة بعد حرب 2006 نعرفه ويعرفه العالم. استمرت ماكينة القتل والاغتيال مستهدفة فريقًا واحدًا لأغراض مختلفة. إما لمحاولات يائسة لإيقاف المحكمة الخاصة بلبنان والتهويل على اللبنانيين بأثمان المضي فيها.. وإما لضرب بنية التحقيق من خلال اغتيال العقل اللبناني الأمني الرافد لمسار العدالة كما حصل مع الرائد وسام عيد، الذي كشف شبكة الاتصالات التي أوصلت إلى اتهام قادة من حزب الله بجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.. وإما لإنقاص عدد النواب المطلوب لانتخاب رئيس للجمهورية بأكثرية النصف زائدًا واحدًا.. وإما للضغط على حكومة الرئيس فؤاد السنيورة لفرطها، هي التي أدارت المفاوضات لإيقاف «حرب تموز». وكان القرار 1701 الذي أحال عمليًا سلاح حزب الله إلى التقاعد. وكان احتلال وسط بيروت بالاعتصام الشهير، ثم السابع من مايو (أيار) 2008 وتوجيه السلاح إلى الداخل. وكان الكثير الكثير من الدم والقتل. كل هذا بعد حرب انتصر فيها حزب الله كميليشيا وهُزم فيها لبنان بدولته ومجتمعه وتماسك مكوناته قبل اقتصاده وبنيته التحتية!
حين جدد نصر الله تذكيرنا بمعادلة الخوف من الهزيمة وليس الانتصار نهاية مايو الماضي، كان يحشد لاستكمال معارك القلمون ويمهد لمعارك في جرود عرسال اللبنانية، وسط مخاوف حقيقية من مشروع تهجير مذهبي يديره حزب الله من ساحل الدولة العلوية نزولاً باتجاه حدود لبنان الشمالية والشرقية. كنا لا نزال في ميدان سوري مختلف، يخيل لنصر الله فيه أنه سينتصر على شعب قرر أن كرامته أغلى من حياته. لم يكن الحزب قد بدأ يذوق طعم الهزيمة الحقيقية في القلمون ولا كانت الزبداني تحولت إلى مكسر لتعالي ميليشيا حزب الله، ولم تكن إيران قد أوفدت قاسم سليماني لاستجداء التدخل الروسي، لأن الأسد بات آيلا للسقوط!
يعلم حزب الله أن ما بعد التدخل الروسي ليس كما قبله، وأن «منع سوريا الأسد من السقوط» خيال، رغم الأثمان الفادحة التي تكبدها لتحقيقه. ويعلم أن كل المداولات الجارية الآن في العالم تنطلق من مبدأ الإقرار بسقوط «سوريا الأسد» فيما الخلافات تتمحور حول آليات إدارة هذا السقوط. ويعلم أكثر أنه أيًا يكن حضور إيران في سوريا الجديدة فهو لا يقارن بالخط المفتوح لهلال الحرس الثوري من تبريز في شمال إيران إلى الناقورة في جنوب لبنان مرورًا بالعراق!
طال الزمان أو قصر، ثمة سوريا جديدة قيد الولادة، بعد نحو خمس سنوات من حرب الأسد وحلفائه على الشعب السوري، وثمة إيران جديدة قيد الولادة بعد الاتفاق النووي وإقرار السيد علي خامنئي له والأمر بتنفيذه رغم كل القيود على بلاده. وثمة عراق يتململ من هيمنة القبضة الإيرانية. وهذا ما ستقاومه إيران وعبر عنه نصر الله ليلة العاشر من محرم!!
كان لافتًا في خطابه أن يتطرق إلى الملف العراقي من زاوية أن أميركا تسعى لفرض رئيس وزراء، في إشارة واضحة لامتعاض إيراني من رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي. تلا ذلك سحب كتلة دولة القانون، التي يترأسها نوري المالكي في البرلمان العراقي، تفويضها الممنوح للعبادي!
تشعر إيران بأن أصابعها تتراخى على ما افترضته عواصم تحكمها ضمن نطاق إمبراطورية ولاية الفقيه. وسعيها لاستعادة نفوذها وترميمه يصطدم بحزم سعودي لا راد له مهما نشطت حملات التهجم السياسي والإعلامي والأمني على السعودية.
إنها معركة كسر عظم تذوق فيها إيران طعم انكسار الهيبة والعنجهية وتستعيض عنه بالصراخ ضد السعودية.
صادق حزب الله حين يقول لا تخافوا من انتصارنا بل من هزيمتنا. دفعنا ثمن انتصاراته بعد حصولها، أما اليوم فسيجتهد لندفع سلفًا ثمن هزيمته الآتية لا ريب فيها.
*نقلاً عن “الشرق الأوسط”